على الرغم من اعتبارها "واحة ديمقراطية" في الخليج، إلا أن الديمقراطية في الكويت لا تزال غير مكتملة مع وجود سلطة تنفيذية كبيرة منوطة بالأمير.
علي نور الدين
في شهر أيّار/مايو 2024، فاجأ الأمير الكويتي مشعل الأحمد الجابر الصباح مواطنيه بقرار حلّ مجلس الأمّة، أي السلطة التشريعيّة في البلاد، وتعليق العمل ببعض أحكام الدستور لمدّة تصل إلى أربع سنوات.
وشملت أحكام الدستور المعلّقة تلك التي تعطي مجلس الأمّة صلاحيّات التشريع والموافقة على قرارات الأمير، كما تمّ وقف العمل بالمواد التي تفرض مهل إجراء انتخابات مجلس الأمّة.
باختصار، وحتّى انتهاء مفاعيل هذا القرار، باتت السلطة التشريعيّة بيد الأمير وحده. أمّا الحكومة، فظلّ يرأسها إبن شقيق الأمير، الشيخ أحمد عبد الله الأحمد الصباح، الذي تم تعيينه في هذا المنصب في شهر نيسان/أبريل 2024.
وبذلك تكون أسرة آل الصباح قد قبضت على السلطتين التشريعيّة والتنفيذيّة معًا، بعيدًا عن أي مشاركة شعبيّة في الحكم.
الخشية من النموذج الديمقراطي
كان الأمير الكويتي صريحًا في خشيته من نموذج الديمقراطيّة الكويتيّة، عندما أصدر بيان حل مجلس الأمّة وتعليق العمل بالدستور. إذ أشار الصباح مثلًا إلى وجود جهات “تستغل الديمقراطيّة لتحطيم الدولة”، وإلى حاجة البلاد الماسة لدراسة “جميع جوانب المسيرة الديمقراطيّة ورفع نتائج الدراسة والمراجعة” للأمير.
أمّا الهدف من إعادة النظر في التجربة الديمقراطيّة بحسب الصباح، فليس سوى العمل على تعديل الدستور، الذي جرى تطبيقه طوال الـ 62 عامًا الماضية دون تعديل.
لم يحدد بيان الصباح الآليّة التي سيتم اعتمادها لتعديل الدستور، كما لم يحدّد الجهة التي ستُصادق على تعديله. فبعد حل مجلس الأمّة، ومن ثمّ تعطيل المواد الدستوريّة التي تفرض مهل الانتخاب، بات الأمير وحده القادر على إدارة وقيادة أي مسار لتعديل الدستور، دون مشاركة أحد. وعلى هذا الأساس، سيكون بإمكان الأمير أن يحدّد منفردًا قواعد اللّعبة السياسيّة، قبل العودة إلى النظام البرلماني التقليدي.
في واقع الأمر، لم يكن حل مجلس الأمّة مسألة غير مألوفة في الكويت.
فبسبب التجاذبات بين المجلس والحكومات المتعاقبة، تم حلّ مجلس الأمّة 12 مرّة منذ العام 2005، أي خلال فترة لا تتجاوز الـ 19 سنة، بموجب مراسيم أميريّة. وللسبب عينيه، منذ العام 2022، اضطرّ الكويتيون لإعادة انتخاب مجلس الأمّة ثلاث مرّات، كان آخرها في أوائل نيسان/أبريل 2024، أي قبل شهر فقط من حل المجلس.
غير أنّ المفاجئ والمختلف هذه المرّة، كان تجميد الحياة البرلمانيّة بالكامل، عبر تعليق مواد الدستور.
التحجّج بالاضطرابات السياسيّة
ولكي يبرر خطوته التصعيديّة ضد مجلس الأمة، صوّب الأمير على الاضطرابات الأخيرة في المشهد السياسي الكويتي، في إشارة إلى المواجهات الشرسة ما بين السلطتين التنفيذيّة والتشريعيّة طوال الأعوام الماضية.
مع الإشارة إلى أنّ الصباح كان قد مهّد لهذا الاتجاه منذ أن ألقى خطاب تنصيبه كأمير في كانون الأوّل/ديسمبر 2023، حين اتهم السلطتين التنفيذيّة والتشريعيّة بتعطيل مصالح البلاد، بفعل خلافاتهما المتكرّرة.
وفي جميع الحالات، لم يكن استياء الصباح من هذه الخلافات بعيدًا عن مزاج الشارع الكويتي، الذي لطالما ربط سرعة حلّ الحكومات والبرلمانات المتعاقبة بغياب التخطيط الاستراتيجي في الدولة، وبقلّة فعاليّة المؤسسات الحكوميّة، بالإضافة إلى اضطراب السياسات العامّة.
فعلى سبيل المثال، وحتّى بداية العام 2024، كانت الكويت قد شهدت ولادة سبع حكومات متتالية، خلال فترة لم تتخطّ الثلاث سنوات، وهو ما يدل على أثر هذه الاضطرابات السياسيّة على عُمر الحكومات وقدرتها على تحقيق أهدافها.
بهذا الشكل، سوّق الصباح قراره أمام الكويتيين كضربة حازمة في وجه الفوضى الناتجة عن هذا الواقع، مستعينًا بأمثلة عن “إفراط” مجلس الأمّة في استخدام حق الاستجواب “في كل صغيرة وكبيرة”.
وعند ذكر هذه النقطة، كان الصباح يلمّح إلى مجموعة من النوّاب الكويتيين، الذين اجتمعوا قبل أيّام من حل البرلمان، لتهديد الرئيس المكلّف بتشكيل الحكومة باستجواب “فوري” لوزرائه، إذا لم يلتزم بشروط معيّنة في تشكيلته الوزاريّة.
الديمقراطيّة المنقوصة
من بين جميع الدول الخليجيّة العربيّة، انفردت الكويت تاريخيًا بامتلاكها حياةً برلمانيّة فاعلة، وهو ما دفع البعض لاعتبارها “واحة ديمقراطيّة” في محيط تسوده الأنظمة الملكيّة المطلقة. بل وحرص الدستور الكويتي نفسه على الإشارة بوضوح إلى أنّ نظام الحكم في الدولة هو “ديمقراطي”، كما استعار النّص مفهوم “سيادة الأمّة” من أدبيّات الثورة الفرنسيّة.
ومع ذلك، ثمّة مبالغة واضحة في اعتبار النظام السياسي الكويتي ديمقراطيّة متكاملة، أو حتّى ملكيّة دستوريّة بالمفهوم الموجود في بعض الدول الغربيّة. فالأسرة الحاكمة لا تزال تحتفظ بصلاحيّات واسعة جدًا، قياسًا بالملكيّات الدستوريّة أو الديمقراطيّات المتكاملة.
على سبيل المثال، يمتلك الأمير صلاحيّة حل مجلس الأمّة، أو إقالة رئيس مجلس الوزراء وحكومته، في حال عجز مجلس الأمّة عن “التعاون مع مجلس الوزراء” كما ينص الدستور. وهذا ما يجعل الأمير حكمًا في جميع الخلافات المتكرّرة بين السلطتين التنفيذيّة والتشريعيّة، التي ألفتها الكويت جيّدًا منذ استقلالها. وحتّى لو لم يكن هناك إشكالٌ في التعاون بين الطرفين، يبقى حل المجلس أو إقالة الحكومة من صلاحيّات الأمير في أي وقت، إذا ارتأى ذلك لأسبابه الخاصّة.
فضلًا عن ذلك، يُعتبر الأمير شريكًا في السلطتين التنفيذيّة والتشريعيّة في الوقت عينيه، بحسب الدستور. وهو الذي يعيّن رئيس مجلس الوزراء، كما يعيّن سائر الوزراء بناءً على اقتراح رئيس الحكومة. وفي جميع الحالات تبقى رئاسة الحكومة من نصيب أحد أفراد العائلة الحاكمة، آل صباح، وهو ما يترك السلطة التنفيذيّة تحت سيطرة الأسرة بالكامل.
أمّا على مستوى السلطة التشريعيّة، فيحتفظ الأمير بصلاحيّة توقيع القوانين وإصدارها، بعد إقرارها من مجلس الأمّة، حيث “لا يصدر قانون إلا إذا أقرّه مجلس الأمّة وصدّق عليه الأمير” بحسب الدستور. وبطبيعة الحال، يمكن للأمير رد أي قانون يقرّه مجلس الأمّة.
وعلى مستوى العمل التشريعي أيضًا، تبقى الدعوة لجلسات مجلس الأمّة من مهام الأمير، كما يملك الأمير صلاحيّة تأجيل الجلسات إذا أراد ذلك. ويمكن للأمير في الحالات التي “لا تحتمل التأخير” أن يصدر بمفرده مراسم تحمل قوّة القانون، كما يمكن أن يعلّق العمل بالدستور نفسه ليحتكر السلطة التشريعيّة كما جرى مؤخرًا.
النظام البرلماني الأورلياني
ومع ذلك، لا يمكن توصيف النظام السياسي الكويتي بالنظام السلطوي بشكل كامل، كما لا يمكن تجاهل الحقوق المدنيّة والسياسيّة التي يمنحها دستور الكويت مقارنة بسائر الأنظمة الخليجيّة العربيّة.
إذ يُعتبر هامش الحريّة الممنوح للصحافة المحليّة واسع نسبة لمعظم الدول المجاورة، ولو أنّ هذا الهامش ينتهي عند حدود انتقاد الأمير أو الأسرة الحاكمة. كما شهدت الحياة السياسيّة تنوّعًا ما بين التيّارات اللّيبراليّة والمحافظة والقوميّة العربيّة والإسلاميّة (بشقيها السنّي والشّيعي)، وهذا ما ينعكس في العادة على تركيبة مجلس الأمّة نفسه، بعد كلّ انتخابات.
وعلى مستوى المشاركة السياسيّة، يحتفظ مجلس الأمّة بصلاحيّة طرح الثقة بالوزراء، بعد تقديم الاستجوابات، وهو ما يمكّنه من تحقيق الحد الأدنى من المحاسبة. وبالفعل، مارس مجلس الأمّة هذه الصلاحيّة بفعاليّة شديدة، في جميع المراحل السابقة.
لكن من الجدير الإشارة إلى أنّ مجلس الأمّة لا يملك صلاحيّة إقالة الحكومة أو نزع الثقة من رئيسها، كما لا يملك صلاحيّة إعطاء الحكومة الثقة عند تعيينها، بل تبقى كل هذه الصلاحيّات ملك الأمير وحده.
هذا ما يدفع البعض إلى وصف النظام الكويتي بالبرلماني الأورلياني، تمامًا كحال بعض الملكيّات الأوروبيّة القديمة قبل الثورة الفرنسيّة، التي جمعت ما بين التمثيل البرلماني واحتفاظ الملك بالسلطة التنفيذيّة.
بهذا المعنى، تصبح الحكومة أقرب إلى واجهة يضعها الأمير أمام المحاسبة البرلمانيّة، بدل أن تعبّر السلطة عن التمثيل الشّعبي المجسّد بالبرلمان، كحال الأنظمة البرلمانيّة الحديثة أو الملكيّات الدستوريّة.
وذلك ما يجعل صلاحيّات البرلمان الكويتي –أي مجلس الأمّة- محدودة جدًا، حتّى عند مقارنتها ببعض الأنظمة الملكيّة العربيّة الأخرى التي تعتمد التمثيل البرلماني، مثل الأردن والمغرب.
إشكاليّات النظام السياسي وأسباب الاضطرابات السياسيّة
هكذا يقدّم النظام السياسي الكويتي التفسير الذي يشرح أسباب الاضطرابات السياسيّة المتكرّرة، والتي تتجلّى في سرعة سقوط الحكومات والبرلمانات المتعاقبة.
فمجلس الأمّة الذي يحاول فرض نفسه كشريك في القرار السياسي والتخطيط الاستراتيجي، تواجهُه حكومات لا تعبّر عنهُ أو عن الديمقراطيّة التمثيليّة، التي أفرزتها الانتخابات. بل تعبّر الحكومات عن توازنات القوّة التي تحاول فرضها الأسرة الحاكمة، في وجه مجلس الأمّة والديمقراطيّة التمثيليّة.
وهذا ما يمثّل أبرز أسباب التوتّر الدائم في علاقة السلطتين التشريعيّة والتنفيذيّة، التي تحكمها المكائد والمناكفات المتبادلة. وطبيعة هذا النظام، هي ما يفسّر أيضًا وجود أغلبيّة معارضة دائمة داخل مجلس الأمّة، في مقابل الحكومات المعيّنة من قبل الأمير، ما يبقي المجلس حالة صخب وتوتّر دائمة. وهذا ما يناقض بالتأكيد جوهر النظام البرلماني، الذي يفرض تشكّل السلطة من أغلبيّة نيابيّة تملك مشروعها السياسيّة.
وفي بيئة من هذا النوع، لا تعود غاية الأغلبيّة في مجلس الأمّة إفراز حكومة تعبّر عن تطلّعاتها، طالما أن الحكومة معيّنة بمعزل عن إرادة المجلس وأغلبيّته. بل تصبح غاية النشاط البرلماني فرض قرارات تخدم المصالح الانتخابيّة للنوّاب، أو استخدام الاستجوابات المتكرّرة للاستعراض الإعلامي، أو الابتزاز السياسي. وهذا ما أثار نفور الكويتيين من طبيعة السجالات التي جرت تحت قبّة مجلس الأمّة.
لكل هذه الأسباب، يمكن القول أنّ أسباب الاضطرابات السياسيّة المستمرّة في الكويت تكمن في محدودة نطاق التجربة الديمقراطيّة، أو محدوديّة التمثيل الشّعبي والديمقراطي في الحكم. ومن المجحف أو سوء التقدير أن يُقال أن سبب الأزمة يكمن في عدم جهوزيّة الكويتيين للتجربة الديمقراطيّة، أو سوء استخدامهم لأدوات الممارسة الديمقراطيّة، كما أوحى الأمير في خطابه.
التحليلات وردود الفعل
تفاوتت ردود الفعل والتحليلات على خطوة الصباح، داخل وخارج الكويت. داخليًا، تعامل النشطاء والصحافيون مع هذه الخطوة بحذر وهدوء، عبر الدعوة لأن يكون القرار محدود الأثر والمدّة، وبما لا يفضي إلى التفريط بمكتسبات البلاد الديمقراطيّة. وتأمّلت معظم التعليقات أن يعود الأمير لتفعيل العمل بالمواد الدستوريّة المعلّقة، دون أن يؤدّي القرار إلى التضييق على حريّة الرأي في البلاد.
خارج الكويت، بدا واضحًا التأييد الكبير والصريح الذي حصل عليه الصباح من نظرائه الأمراء، في سائر دول الخليج العربيّة. بل وذهبت بعض وسائل الإعلام المؤيّدة لهؤلاء لاعتبار القرار ردّة فعل طبيعيّة، على الممارسات التي “أساءت” استعمال الديمقراطيّة في الكويت.
وثمّة من رأى أنّ الأمير الكويتي، الذي تولّى مقاليد الحكم قبل خمسة أشهر من حل مجلس الأمّة، يسير على نهج الأمراء الشباب في الإمارات والسعوديّة وقطر. وذلك من خلال السيطرة على مراكز النفوذ، تمهيدًا لإطلاق بالمشاريع التنمويّة والاقتصاديّة الضخمة، بعيدًا عن المشاكل الداخليّة.
أخيرًا، يبقى من المهم الإلتفات إلى توقيت القرار والظروف السياسيّة التي أحاطت به. فقرار الصباح، جاء في مرحلة تسود فيها خشية الكثير من الأنظمة العربيّة من شعبيّة تنظيم الإخوان المسلمين، وبعض القوى الشيعيّة المتحالفة أو المنسجمة مع سياسات إيران الخارجيّة. ومن المعلوم أنّ الأسرة الحاكمة في الكويت تتحسّس أساسًا من نفوذ هذه القوى بالذات على أراضيها، ومن فعاليّتها داخل الحياة السياسيّة الكويتيّة.
ومن هذه الزاوية يمكن فهم قرار الأمير كضربة استباقيّة، للحد من أي معارضة جديّة يمكن أن تؤثّر على سياسات بلاده الخارجيّة.