بحلول الـ17 من أكتوبر 2019، سيكون قد مرّ عامان على إعلان قوات سوريا الديمقراطية انتصارها على تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” في الرقة، التي كانت منذ عام 2014 عاصمة “الخلافة” المُعلنة ذاتياً. واليوم، عاد عشرات الآلاف من الأشخاص الذين غادروا المدينة قبل المعركة النهائية، إلا أن الحياة أبعد ما تكون عن السلاسة: معظم المباني باتت ركاماً، ولا توجد كهرباء، ولا تزال خلايا داعش النائمة تشكل تهديداً. والأهم من ذلك أن الافتقار إلى الاعتراف الدولي بالإدارة المدنية للمدينة يعوق إعادة الإعمار.
إن اللون السائد في الرقة هو الرمادي. فاللون الرمادي هو لون الدمار ولون الجدران المدمرة بفعل القنابل والأسقف المنهارة والمعلقة مثل الستائر. كل ما كان يوماً ما يحمل لوناً في هذه المباني المدمرة – السجاد والأثاث والممتلكات الشخصية – مغطى بطبقة من الأنقاض الرمادية والغبار.
وعلى النقيض تماماً، أينما حل الناس الذين يعملون على تحسين الحياة، تظهر ألوانٌ زاهية. فقد انتشرت الأعمال التجارية التي تبيع مواد البناء، وأحواض المغاسل والمراحيض مكدسة على الرصيف، بلونها الأبيض البرّاق تحت أشعة الشمس. كما تتكدس علب الطلاء بجانب أكوامٍ من الخشب وأكياسٍ من الخرسانة ولفات الأسلاك. تُزهر الظلال الساطعة وسط المدينة: دراجاتٌ وألعاب للأطفال بألوانها الوردية والأرجوانية والحمراء والبرتقالية، وأمتار القماش الحمراء والصفراء والزرقاء والذهبية لصنع ملابس النساء – لم يعد الكثير من الناس يرغبون في ارتداء الأسود، كما أوضح أحد أصحاب المتاجر.
يغلب على هذا كله الشعور بالحيوية ورغبة السكان القوية في إعادة بناء حياتهم: يشيدون أحد الجدران، ويطرقون المسامير ويضعون باباً جديداً في مكانه.
ولكن إذا ما كانت الإرادة لإعادة الإعمار بهذه القوة، فلماذا لا يزال 80% من المدينة غير قابلٍ للسكن؟ تتمثل المشكلة الأساسية في نقص المال وعدم وجود أصحاب المنازل. فقد بدأ معظم الذين فروا قبل سيطرة داعش في عام 2014 حياةً جديدة في تركيا أو أوروبا، أو توفوا وهم يحاولون الوصول إلى هناك.
ومن دون مالكيها، من الصعب إزالة الأنقاض وإعادة البناء، على الرغم من أن البلدية قد وضعت خطةً جديدة. فعلى سبيل المثال، يمكن لمالكٍ ما أو مجموعة من ملّاك مبنى سكني أن يتعاونوا مع مقاولٍ لفصل الخرسانة والصلب في المنزل المدمر. يتم استخدام عائدات بيع الصلب للدفع للمقاول فضلاً عن توفير بعض الأموال للبناء لأصحابها. تقوم البلدية بإزالة الخرسانة وإعادة تدويرها في مشاريعها الخاصة، مثل إعادة ترميم الشوارع والطرق المدمرة.
ولكن ماذا لو لم يعد أصحابها؟ تأمل البلدية في الحصول على تمويلٍ في المستقبل، ولكن في الوقت الحالي، لا يتوفر الدعم الدولي إلا لإعادة إعمار المباني والأماكن العامة. كما يجري تجديد الساحات وإيواء الهيئات الإدارية وإصلاح المساجد والمدارس.
وإلى جانب القيود المالية، تتمثل العقبة الرئيسية أمام البلدية بالافتقار إلى الاعتراف الدولي بالإدارة المدنية في الرقة. ففي أبريل 2017، وخلال المراحل الأولى من تقدم قوات سوريا الديمقراطية، تم تشكيل مجلسٍ مدني لإدارة المدينة بعد هزيمة داعش. يرتكز المجلس على الكونفدرالية الديمقراطية، وهي نظام للإدارة الذاتية، حيث يشرف المدنيون على الحياة في أحيائهم عن طريق البلديات، التي تعمل معاً لخدمة مصالح المدينة ككل. وعلى الرغم من أن النظام لا يزال من الأعمال الجارية، إلا أنه يقوم على فكرة احترام الخلفيات العرقية والدينية للناس.
ومن الجدير بالذكر أن أصول قوات سوريا الديمقراطية تعود إلى حزب العمال الكردستاني المتشدد والجناح الكردي لوحدات حماية الشعب السوري، بيد أنه لا يمكن تلخيص المشهد بسيطرة “الأكراد” على الرقة، فالمجلس يضم الأكراد، إلا أن غالبية أعضائه من العرب. وينطبق الأمر ذاته على قوات سوريا الديمقراطية، التي كانت في الغالب كرديةً بعد تأسيسها في عام 2015، إلا أنها جذبت، وبشكلٍ متزايد، الأعضاء العرب وتتضمن أيضاً ميليشياتٍ مسيحية.
وطالما أن المجلس غير معترفٍ به دولياً كنظامٍ يمكن أن يكون نموذجاً لسوريا أكثر ديمقراطية وتسامحاً بعد الحرب، فلا يوجد أساسٌ متين لإعادة إعمار المدينة، جسدياً أو نفسياً. أما عسكرياً، فلا يزال الوضع متوتراً. وبالإضافة إلى الرقة، تسيطر قوات سوريا الديمقراطية على أجزاء من شمال وشمال شرق سوريا على الحدود التركية. من جهتها، تعتبر تركيا قوات سوريا الديمقراطية وقوات حماية الشعب منظماتٍ إرهابية، وبالتالي فإنها ترفض الكونفدرالية الديمقراطية، المتجذرة في أيديولوجية حزب العمال الكردستاني، الذي تخوض معه تركيا صراعاً منذ زمن طويل. فمنذ سنوات، هددت تركيا بغزو الأراضي التي تسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية اليوم. وفي حال تم ذلك، فسيتعين نشر بعض قوات سوريا الديمقراطية التي تدافع حالياً عن الرقة في المنطقة الحدودية، لتترك الرقة مرةً أخرى عرضة لهجمات داعش.
في مواجهة أوضاع عدم الاستقرار المستمرة هذه، سيكون من الصعب إقناع الأشخاص الذين بدأوا حياةً جديدة في أماكن أخرى بالعودة إلى ديارهم، فمن ذا الذي سيعود ليستقر في مدينةٍ قد تتعرض لهجومٍ من تنظيم الدولة الإسلامية مرة أخرى؟ من سيعود إلى أنقاض حياته السابقة مع احتمال بقاء الرئيس بشار الأسد في السلطة الديكتاتورية؟
في غضون ذلك، لا يوجد اعترافٌ دولي يلوح في الأفق بالنظام الإداري في الرقة. فقد تم الإعتراف بقوات سوريا الديمقراطية عسكرياً فحسب لأنها قدمت للتحالف الدولي أفضل فرصةٍ لهزيمة داعش. ومع تحقيق هذا الهدف إلى حدٍ كبير، حولت قوى التحالف انتباهها إلى مكانٍ آخر. ويبدو أن ما يحصل بعد انتهاء القتال لا يهم أحد سوى السكان أنفسهم.