وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

الخلاف الحدودي اللبناني-الإسرائيلي: الحل أو التصعيد في أيلول

الخلاف الحدودي اللبناني-الإسرائيلي
متظاهرون لبنانيون يشاركون في مسيرة عبر الإبحار في قوارب تحمل شعارات بالفرنسية تؤكد حق لبنان في ثروته الغازية البحرية. محمود زيات / وكالة الصحافة الفرنسية

علي نور الدين

لا يبدو أن الإسرائيليين في وارد تعديل خططهم بالنسبة لحقل كاريش، الذي يحاذي المنطقة الحدوديّة المتنازع عليها بين لبنان وإسرائيل. فحتّى اللحظة، مازال جدول الأعمال الإسرائيلي ينصّ على البدء باستخراج الغاز من هذا الحقل بحلول منتصف شهر أيلول، بالرغم من عدم حسم ملف الخلاف الحدودي مع لبنان. أمّا الذي يحول دون تأجيل إسرائيل لخطوة البدء باستخراج الغاز من حقل كاريش، فهو اقتراب موعد انتخابات الكينيست في بداية نوفمبر/تشرين الثاني، وعدم رغبة الائتلاف الحاكم بالظهور في صورة الضعيف والمساوم أمام الرأي العام، في حال تنازل عن موعد استخراج الغاز.

باختصار، تلعب التوازنات السياسيّة الإسرائيليّة دورها اليوم في دفع الحكومة الإسرائيليّة إلى التصلّب، والإصرار على موعد الاستخراج هذا، رغم خطوة المضي قدمًا بهذه الخطوة قبل حل أزمة النزاع الحدودي مع لبنان.

حزب الله يدخل على الخط

في مقابل الإصرار الإسرائيلي على موعد الاستخراج هذا، رفع أمين عام حزب الله حسن نصر الله السقف، بتلميح عسكري واضح، قائلًا بأن “العين في لبنان يجب أن تكون على كاريش والحدود اللبنانيّة“. وفي نفس الخطاب، شدّد نصر الله بصورة أوضح على أن المنطقة ستذهب إلى تصعيد، “في حال لم يحصل لبنان على حقوقه التي تطالب بها الدولة اللبنانيّة”.

وبهذا الخطاب بالتحديد، دخل نصر الله على خط الخلاف الحدودي اللبناني-الإسرائيلي، واضعًا معادلة جديدة تربط بين الاستقرار الأمني على الحدود ونتائج المفاوضات الدائرة حول نزاع الحدود البحريّة. وبصورة أوضح: بات استخراج الغاز من كاريش في أيلول، قبل حل النزاع الحدودي، قد يعني الحرب.

على أنّ خطاب نصر الله الأخير لم يكن المناسبة الأولى التي أقحمت حزب الله أمنيًّا في مسألة النزاع الحدودي، بعد أن كانت هذه المسألة محصورة في البداية بالتفاوض الدبلوماسي بين الحكومتين. فأولى الخطوات التي قام بها حزب الله للدخول على خط النزاع، وبشكل موازٍ للتفاوض الدبلوماسي، كانت إرساله لثلاث مسيّرات طائرة إلى المناطق البحريّة المتنازع عليها، في بداية شهر آب الماضي.

يومها، أكّد الجيش الإسرائيلي تمكّن حزب الله من اختراق الحدود على هذا النحو، قبل أن تعترض الطائرات الإسرائيليّة المسيّرات وتسقطها في البحر. ومنذ ذلك الوقت، بدا من الواضح أن حزب الله أراد من هذه الخطوة توجيه رسالة حادّة للإسرائيليين، مفادها أنّ قدراته العسكريّة لن تكون بعيدة عن منصّات الاستخراج، في حال مضت إسرائيل باستخراج الغاز قبل حل نزاعها الحدودي مع لبنان.

حسابات المفاوضات تتعقّد

دخول حزب الله على خط النزاع على هذا النحو، خلط إلى حدٍّ ما حسابات جميع الأطراف. فبالنسبة لإسرائيل، لم يعد من الأكيد أن “شركة أينيرجيان” اليونانيّة، التي تملك حقوق الاستخراج في حقل كاريش، ستستمر بالعمل في هذا الحقل في المستقبل، ما لم يتم تسوية النزاع الحدودي. فرغم العلاقات الطيّبة ما بين الشركة وإسرائيل، لا يبدو أن شركة أجنبيّة ستكون مستعدة للمجازفة بمنصّات واستثمارات تتجاوز قيمتها مئات ملايين الدولار، في ظل توتّرات أمنيّة لا علاقة لها بها. مع الإشارة إلى أنّ سلاح الجو الإسرائيلي وضع إمكاناته بخدمة حماية منصّات الاستخراج، لكنّ مجرّد وصول مسيّرات حزب الله إلى حقل كاريش مثّل رسالة بأن استهداف المنصّات سيظل مسألة محتملة في المستقبل.

وهكذا، باتت إسرائيل عالقة ما بين الظروف الداخليّة التي تمنعها من التراجع عن استخراج الغاز من الحقل، والمخاطر الأمنيّة التي ستهدد عمليّات الاستخراج في حال لم يتم تسوية النزاع الحدودي بحلول منتصف شهر أيلول.

في المقابل، باتت هذه التطوّرات تضغط في الوقت نفسه على الوسيط الأمريكي آموس هوكشتاين، الذي يعمل على التوسّط ما بين الحكومتين للتوصّل إلى حل للنزاع الحدودي. فبعد أن عمل هوكشتاين طوال الأشهر الماضية على نقل الرسائل ما بين الحكومتين، عارضًا الطروحات والتنازلات المحتملة، بات أمام هوكشتاين سقف زمني لمهمّته. فبحلول أيلول، إذا أصرّت إسرائيل على المضي بأعمال الاستخراج في حقل كاريش، وإذا أصرّ حزب الله على منع استخراج الغاز قبل معالجة النزاع الحدودي، ستكون المنطقة بأسرها أمام تداعيات عسكريّة خطيرة.

وهكذا، زاد الضغط على الأميركيين للعثور على حل مُرضٍ. للطرفين خلال فترة قصيرة جدًا، قد لا تتجاوز الأسابيع المعدودة. وهذا تحديدًا ما انعكس مؤخرًا في تسارع نشاط الوسيط الأميركي، في محاولة لاستباق التوتّر التي يمكن أن يحصل في أيلول.

الولايات المتحدة وحسابات الاقتصاد العالمي

هنا، من المهم الإشارة إلى أنّ الأميركيين يملكون حساباتهم التي تدفعهم لمعالجة الملف بالسرعة القصوى، دون تطوره ليلامس حدود المواجهة الأمنيّة أو العسكريّة. وهذه الحسابات لا ترتبط فقط بحرص الولايات المتحدة على الاستقرار الإقليمي، بقدر ما ترتبط بتوازنات اقتصاديّة وسياسيّة دوليّة. فالنزاع الدائر في أوكرانيا، خلق أزمة كبيرة على مستوى أسواق الطاقة، نتيجة تراجع كميات الغاز الواردة من روسيا إلى أوروبا، بالإضافة إلى تداعيات العقوبات على النفط الروسي. وهكذا، تراهن الولايات المتحدة على توسيع دائرة استثمارات قطاع الغاز والنفط في منطقة شرق المتوسّط، لمحاولة تأمين مصادر بديلة يمكن أن تعوّض نقص الغاز الروسي، على أعتاب زيادة الطلب على مصادر الطاقة في أوروبا مع بداية الشتاء المقبل.

وهكذا، وبينما كانت تراهن الولايات المتحدة على زيادة إنتاج الغاز في إسرائيل، لمنح أوروبا مصادر غاز بديلة عن الغاز الروسي، سيؤدّي أي تصعيد محتمل إلى الحؤول دون البدء باستخراج الغاز من حقل كاريش. بل ثمّة من يرجّح أن تؤدّي هذه التوتّرات إلى عرقلة العمليّات في حقول الغاز المنتجة أساسًا، ما قد سيزيد من الضغط على أسواق الطاقة عالميًا. مع الإشارة إلى أنّ إسرائيل دخلت أساسًا في خطط إقليميّة لمد خطوط غاز كفيلة بنقل غاز شرق المتوسّط إلى الأسواق الأوروبيّة، وما يحتاج بدوره إلى استقرار إقليمي يسمح باستقطاب هذه الاستثمارات.

انقسام داخلي لبناني

وعلى هامش كل هذه التعقيدات، بدا أن بعض المسؤولين اللبنانيين استشعروا أيضًا بعض الحرج، نتيجة خطوة حزب الله ودخوله على خط النزاع بهذا الشكل. فبينما رأي جمهور حزب الله وحلفائه أن خطوته ستساهم في تقوية موقف لبنان التفاوضي، وجدت شرائح أخرى من المجتمع اللبناني أن الحزب يمضي مجددًا باستراتيجيّاته الأمنيّة والعسكريّة المنفصلة، والتي لا تخضع لأي استراتيجيّة دفاعيّة رسميّة تتبناها الدولة اللبنانيّة. لا بل أشارت الكثير من ردود الفعل إلى أن خطوات حزب الله قد ترتبط بحسابات إقليميّة لا علاقة بالمصلحة اللبنانيّة البحتة، كمسألة المفاوضات النووية الإيرانيّة الأميركيّة. وثمّة من أشار إلى خشية اللبنانيين اليوم من اندلاع نزاع مسلّح، قد لا يتحمّله المجتمع اللبناني الغارق في آثار الأزمة الاقتصاديّة.

أسابيع حاسمة تنتظر الملف

آخر تطورات الملف كانت المباحثات التي يجريها الوسيط الأميركي آموس هوكشتاين في الوقت الراهن في إسرائيل، في محاولة لتثبيت آخر العروض التي ستقدّمها إسرائيل إلى لبنان بخصوص الحدود البحريّة. وعندها، سيكون على لبنان خلال الأيام المقبلة الإجابة على هذا العرض، وقبوله أو طرح عروض بديلة للعرض الإسرائيلي.

أمّا الخشية الكبيرة، فستكون من إمكانيّة حلول موعد الاستخراج من كاريش، قبل إيجاد المعالجة النهائيّة لهذا الملف، وهو ما سيعني الدخول في أتون التوتّر الأمني. مع الإشارة إلى أنّ هناك إشكاليّات أخرى لن تنتهي بمعالجة ملف النزاع الحدودي، وخصوصًا تلك المرتبطة بإمكانية اكتشاف حقول غاز مشتركة، بعد ترسيم الحدود، وهو ما سيطرح السؤال عن كيفيّة تقاسم عوائدها مع إصرار لبنان على عدم القيام بأي خطوات تطبيعيّة مع إسرائيل. ولهذا السبب، سيكون من المتوقّع أن يبقى ملف الغاز والحدود البحريّة ملفا ملتهبا على مدى السنوات المقبلة، حتّى لو تم الترسيم اليوم.