علي نور الدين
الأزمة الماليّة القائمة في لبنان دفعت بالدولة للبحث عن جميع المخارج الكفيلة بإنقاذ القطاعات الحيويّة من الشلل والانهيار التام، بما فيها قطاع الكهرباء. فهذا القطاع، كان يعاني أساسًا –ومنذ التسعينات- من ترهّل كبير في بنيته التحتيّة، سواء على مستوى المعامل أو خطوط التوزيع والخدمات، وهو ما نتج عنه ساعات طويلة من التقنين اليومي في التغذية الكهربائيّة، حتّى قبل أن تشهد البلاد الأزمة الماليّة الراهنة. أمّا بعد حصول الأزمة الماليّة، فتضاعفت مشاكل القطاع، لتشمل عدم توفّر السيولة بيد الدولة اللّبنانيّة لشراء الفيول اللازم للمعامل، أو لتمويل عمليّات صيانة الشبكة والإشراف عليها. وهنا وجدت الدولة اللّبنانيّة نفسها أمام مشكلة مزدوجة: العجز في ميزانيّة الدولة العامّة ، وتراجع حجم احتياطات المصرف المركزي بالعملات الأجنبيّة، والتي يمكن أن تقترض منها الدولة لتمويل شراء الفيول. لكل هذه الأسباب، تراجعت التغذية الكهربائيّة التي تؤمّنها مؤسسة كهرباء لبنان، أي مؤسسة الكهرباء العامّة الرسميّة، لتقتصر على فترة تتراوح بين ساعتين وثلاث ساعات في اليوم الواحد.
الأزمة الماليّة وأزمة الكهرباء
لذلك، وفي عزّ الأزمة الماليّة، قامت الدولة اللّبنانيّة طوال العامين الماضيين بالبحث عن البدائل التي يمكن أن تؤمّن ساعات أطول من التغذية الكهربائيّة، مع الأخذ بعين الاعتبار محدوديّة الموارد الماليّة المتاحة. وهنا، من المهم الإشارة إلى أنّ ضرورة إيجاد الحلول التقنيّة لهذه الأزمة لم تنبع فقط من حاجة المجتمع اللّبناني الماسّة لهذه الخدمة العامّة. فحتّى صندوق النقد الدوليّ، قد اشترط على الدولة اللبنانيّة وضع خطّة إصلاحيّة شاملة لقطاع الكهرباء قبل الموافقة على دخول لبنان برنامج القرض مع الصندوق، من أجل تأمين التغذية الكهربائيّة على مدار الساعة أولًا، ومن ثم تمكين مؤسسة كهرباء لبنان من زيادة تعرفتها والتخلّص من العجز في ميزانيتها. وفي حالة لبنان، بات من المعروف أن الأسر لن تتمكّن من تحمّل أي زيادة في التعرفة، قبل تأمين الكهرباء بشكل متواصل، ما يسمح بالتخلّص من كلفة كهرباء المولّدات الخاصّة. ومن هذه الزاوية بالتحديد تتضح العلاقة بين معالجة أزمة تقنين الكهرباء، وقدرة مؤسسة كهرباء لبنان على تصحيح التعرفة والتخلّص من العجز.
في كل الحالات، ولفهم أسباب تركيز صندوق النقد على ضرورة معالجة الأزمة الماليّة في مؤسسة كهرباء لبنان، كجزء من خطة الإصلاح المالي في البلاد، تكفي الإشارة إلى أنّ قيمة التحويلات التي قامت بها الحكومة لمصلحة مؤسسة كهرباء لبنان منذ التسعينات، للتعامل مع عجز المؤسسة المالي، توازي نحو 40% من إجمالي الدين العام الذي يترتّب اليوم على الدولة اللّبنانيّة. أمّا متوسّط حجم التحويلات التي قامت بها الحكومة في كل سنة من هذه السنوات، فيوازي نحو 50% من العجز في ميزانيّة الدولة العامّة. بمعنى آخر، تسببت عجوزات مؤسسة كهرباء لبنان بنسبة كبيرة جدًّا من الدين العام القائم اليوم، ناهيك عن العجوزات السنويّة في الميزانيّة العامّة، وهو ما جعل صندوق النقد يدرك أن التصحيح المالي مستحيل دون تصحيح وضعيّة قطاع الكهرباء الماليّة. مع الإشارة إلى أنّ الدولة اللّبنانيّة تكبّدت بين عامي 2010 و2020، أي خلال عشر سنوات فقط، نحو 30 مليار دولار من الخسائر نتيجة التحويلات التي قامت بها الحكومة لمؤسسة كهرباء لبنان، لتغطية عجز المؤسسة.
مشروع الغاز المصري
هكذا إذًا، بات لبنان مضطرًا لتأمين التغذية الكهربائيّة، كجزء من خطة الكهرباء الشاملة، دون أن يملك أي موارد ماليّة يمكن إنفاقها لهذه الغاية، وهو ما دفع البلاد للاتجاه إلى مشروع “الغاز المصري”. وفكرة مشروع “الغاز المصري”، تقوم على استقدام الغاز من مصر إلى لبنان عبر أنابيب موجودة أساسًا وغير مستخدمة، تربط حقول الغاز المصريّة بشمال لبنان، مرورًا بسوريا والأردن. وعند بلوغ الغاز إلى شمال لبنان، سيكون بإمكان مؤسسة الكهرباء اللّبنانيّة استخدام هذا الغاز لتوليد الكهرباء في محطّة دير عمار اللّبنانيّة، القادرة على توليد ربع الانتاج الكهربائي الذي يحتاجه لبنان. أمّا الجانب الآخر من مشروع الغاز المصري، فيقوم على استجرار الغاز من مصر إلى الأردن، ومن ثم استخدام الغاز المصري في معامل الكهرباء الأردنيّة، لتوليد طاقة كهربائيّة يمكن استجرارها إلى لبنان عبر سوريا. وفي النتيجة، سيكون بإمكان لبنان الاستفادة من المشروع من جانبين معًا: عبر استقدام غاز مصر إلى لبنان، وعبر استقدام الكهرباء الأردنيّة التي تم توليدها بالغاز المصري.
فالمشروع الطموح، احتاج منذ البداية إلى التمويل ليدخل حيّز التنفيذ، لسداد ثمن الغاز الذي سيتم استيراده على مدى السنوات المقبلة أولًا، ولسداد ثمن عمليّات الصيانة التي يفترض أن تعيد تأهيل خطوط الغاز التي تربط لبنان بمصر. كما احتاج المشروع إلى السيولة لصيانة خطوط الكهرباء التي تربط لبنان بالأردن، بالإضافة إلى سداد كلفة توليد الكهرباء في المعامل الأردنيّة باستخدام الغاز المصري. هنا، اختارت الدولة اللبنانيّة الذهاب باتجاه البنك الدولي، للتفاوض على قرض طويل الأجل، بقيمة تناهز النصف مليار دولار والتي يمكن استخدامها على مدى السنوات الخمس المقبلة. إلا أنّ البنك الدولي اشترط في المقابل أن يتم ربط المشروع الطموح بخطة متكاملة لقطاع الكهرباء، قبل دراسة إمكانيّة تمويله، وهو ما قامت وزارة الطاقة والمياه في لبنان بالعمل عليه خلال الأشهر الماضية، قبل أن يوافق مجلس الوزراء في لبنان على الخطة في منتصف شهر آذار/مارس الماضي.
في المحصلة، أنجز لبنان عمليّات التأهيل والصيانة، كما أنجز التفاهم مع كل من مصر والأردن وسوريا على تفاصيل المشروع والعقود التي سترعى تنفيذه. أمّا المسألة الأخيرة العالقة حاليًّا، فهي موافقة البنك الدولي النهائيّة على القرض المطلوب لتمويل شراء الغاز، والتي تم تأجيلها بانتظار تمرير استحقاق الانتخابات النيابيّة، التي جرت منذ نحو أسبوعين. مع الإشارة إلى أن لبنان يُفترض أن يستحصل أيضًا على موافقة استثنائيّة من الإدارة الأميركيّة، لإعفاء المشروع من عقوبات قانون قيصر الذي يُعنى بحظر التعاملات الماليّة مع النظام السوري، الذي سينال جزء من الغاز الذي يمر بأراضيه.
وإذا تمكّن لبنان من الحصول على موافقة البنك الدولي خلال الأشهر المقبلة، بالإضافة إلى الإعفاءات الأميركيّة، فسيكون بإمكان الدولة اللّبنانيّة أن تؤمّن تغذية كهربائيّة تصل إلى حدود العشر ساعات في اليوم الواحد قبل نهاية العام الحالي، وفقًا لخطة الكهرباء الشاملة التي عملت عليها الحكومة. وبعد نهاية السنة، سيكون على الدولة التدرّج في زيادة ساعات التغذية على مدى السنوات المقبلة، لتصل إلى التغذية الشاملة على مدار اليوم خلال العام 2026.
خط الغاز العربي
هكذا أيقظت الأزمة الماليّة في لبنان خط أنابيب الغاز الموجود أساسًا، والمتوقّف عن العمل منذ العام 2012. فهذا الخط، المعروف بخط الغاز العربي، تم البدء بتشييده منذ العام 2003، وعلى مراحل عديدة، إلى أن تم ربطه بشمال لبنان خلال العام 2009. وفي ذلك الوقت، استخدم لبنان الخط لاستقدام نحو 28 مليون قدم مكعّب من الغاز يوميًّا، لتوليد الكهرباء في محطات شمال لبنان. إلا أنّ الأحداث الأمنيّة التي شهدتها سوريا لاحقًا تسببت بأضرار بالغة في خط الأنابيب هذا، وهو ما أفضى إلى توقّفه عن العمل منذ عشر سنوات. مع العلم أن خط الغاز العربي تعرّض أيضًا إلى أضرار أخرى في شبه جزيرة سيناء خلال العام 2012، خلال فترة الاضطرابات الأمنيّة التي شهدت عمليّات طالت خطوط الغاز.
في خلاصة الأمر، وفي حال تفعيل خط الغاز العربي، سيكون بالإمكان البناء على هذه التجربة خلال السنوات المقبلة، من خلال دراسة إمكانيّة ربط شبكة الغاز بتركيا من ناحية الشمال في مرحلة لاحقة، أو بالعراق شرقًا. ومشاريع من هذا النوع، ستسمح لخط الغاز هذا بتصدير فوائض الإنتاج باتجاه السوق الأوروبيّة عبر تركيا، أو باتجاه السوق العراقي الذي اعتاد على استيراد هذه المادّة من إيران. ربما لهذا السبب بالتحديد، أبدت الإدارة الأميركيّة الكثير من التشجيع لفكرة إعادة إحياء خط الغاز هذا، بل ووعدت بإصدار الإعفاءات اللازمة من عقوبات قانون قيصر. فهذا النوع من المشاريع المحتملة في المستقبل، قد تسهم في تقليل اعتماد العراق على الغاز الإيراني من ناحية، وفي تلبية حاجة أوروبا من الغاز البديل عن الغاز الروسي من جهة أخرى.