دانا حوراني
يرى المشاركون في المظاهرات التي انفجرت في شوارع لبنان قبل ثلاث سنوات أن غاية الغضب الشّعبي كانت الإطاحة بالمؤسسة السّياسية الفاسدة التي هيمنت على السّلطة لأكثر من ثلاثةِ عقودٍ.
وكانت الاحتجاجات الواسعة التي اندلعت في 17 أكتوبر 2019 تطالب بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية، وأثارت رغبة الشّعب في التغيير. لكن بعد بضعة أسابيع فقط من الانتفاضة، بدأت قيمة العملة المتهاوية بالفعل أمام الدولار في هبوط حاد، ما أدى إلى حلقة مفرغة من ارتفاع الأسعار والتضّخم المفرط. فأغلقت البنوك أبوابها، وأوقفت عمليات سحب صغار المودعين للعملة الصّعبة، فحالت بين الناس وبين أموالهم.
وبالرّغم من ذلك ،أعطت الاستقالة المبكرة لحكومة سعد الحريري اللّبنانيين شعورًا بالنجاح، لكن سرعان ما تلته موجة من تعيين عديمي الكفاءة كالذين سبقوهم. ثم جاء الإغلاق بسبب جائحة كورونا، وانفجار مرفأ بيروت في 4 أغسطس الذي خلّف أكثر من 200 قتيل، ليترك الشّعب منهوك القوى ،خائفًا ومخذولًا، ما وضع حدًا لحراك الشّارع.
لكن النشّطاء والمتظاهرين قالوا لفنك إنهم عندما ينظرون إلى الماضي يرون بوضوحٍ كيف أنَّ الانتفاضةَ قد غيّرت أسلوب حياتهم وتفكيرهم، كما أنّها تركت آثارها في الذاكرة الجماعية اللّبنانية. بينما فتر حماس بعضهم ممّن اعتبروا “17 تشرين” قد تقلّصت إلى مجرد مرحلة انتقالية عابرة دبّرها الانتهازيون السّياسيون وعملوا على الإستفادة منها.
وقال الناشط والمتظاهر وسام موسى، 31 عامًا، لفنك: “كانت نتائج انتخابات مايو 2021 ملفتة، ونتيجة واضحة للانتفاضة. ولقد كان تطورًا جيدًا ومرحبًا به أن نرى وجوهًا جديدة تدخل البرلمان، معظمها ممّن برزوا خلال المظاهرات. لكن يحبطني أن أرى بعض الشّخصيات تستغل شعارات الثورة لتحقيق مكاسب سياسية شخصيّة”.
انتصارات صغيرة
وبعد فرض الحكومة ضريبة على استخدام تطبيقات وسائل التواصل مثل واتساب، اندلع الحراك في الشّارع. ويذكر موسى أن الأيّام الأولى للحراك كانت “أشبه بالحلم”، فقد غمرت الموسيقى والرقص والضّحك والهتافات وسط بيروت “وحسبنا لوهلة أنّها فرصتنا لمحاربة نظام ينكّد عيشنا منذ ولادتنا”.
في ذلك الوقت، كان موسى -مهندس البرمجيات- عاطلًا من العمل لعامٍ ونصفٍ كاملين، فانضم إلى المظاهرات التي يرى أنّها منحته الإرادة والعزيمة لمواصلة المعركة، كما رفعت الوعيّ العام بالحالة السّياسية والاجتماعية الراهنة.
وقال موسى: “لم يعد الناس بعد 17 تشرين يصدقون أي شيء يقوله السّياسيون. فحتى المسؤولون المنتخبون أنفسهم أصبحوا يغيرون كلامهم وخطاباتهم. وبدأ الناس يسائلونهم ويعبرون عن رأيهم دون خوف. إنّهُ نجاحٌ كبير للحراك”.
وأضاف: “لا أرى أن الانتفاضة فشلت. فنحن [المتظاهرون] نعلمُ أن الحراك كان خطوة صغيرة يجب أن تتبعها خطوات أكبر، لكن النخب السّياسية قوّضتها واستحوذت عليها”.
ومن هذه النخب: “الكتائب ” و”القوات اللبنانية” اللّذان استفادا من الانتفاضة لتعزيز موقفهما السّياسي ودعم سردية “المعارضة للمؤسسة”، وذلك من خلال الانضمام إلى المظاهرات، على الرغم من كونهما جزءًا من هذه المؤسسة لعقود طويلة.
وعلى الجانب الآخر، اعتدى الحليفان حزب الله وحركة أمل على المتظاهرين، وتشاجرا معهم ّ لإخماد المظاهرات.
ويرى موسى أنّه في بلد يمتاز بالفشل السّياسي، فلا بارقة أمل إلا في اثنين أو ثلاثة من بين 13 نائبًا منتخبًا من المعارضة الذين ينتقدون عمل البرلمان علنًا منذ انتخابهم.
فقد قال موسى: “قد أكون مخطئًا، ويعود نواب كتلة التغيير في البرلمان إلى السّياسة الواقعية الطائفية. لكن حتى الآن، من الملهم أن نرى الناس يواجهون شخصيّات كان يستحيلُ المساس بها”.
مجموعات جديدة، وأهداف جديدة
وقد اكتسبت منظمات وحركات سياسية مثل “تقدم” و”لنا” و”لِحَقّي” زخمًا نتيجة ثورة 17 تشرين، كما برزت منظمات أخرى مثل “مواطنون ومواطنات في دولة” وغيرها من الحركات المستقلة.
كما أطلق النشطاء والاقتصاديون والمتخصصون الماليون منصة لإعلام الناس بتطورات الأزمة، ثم أسسوا مؤسسات كرابطة المودعين، وجمعية المودعين اللّبنانيين، وجمعية صرخة المودعين للدفاع عن حقوق المودعين.
وتوظف هذه المجموعات إمكاناتها لإعلام الشّعب بتوجهات الدولة الاقتصادية، ومعارضة التشّريعات والسّياسات التي يعتقدون أنها تؤثر سلبًا على المودعين.
إذ ترى المحامية والمتحدثة الرسمية باسم رابطة المودعين، دينا أبو زور، أن الناس قبل الثورة كانوا يثقون بالبنوك ثقة عمياء ولا يستقصون عن طرق عملها.
وقالت أبو زور لفنك: “أصبحنا الآن مصدر المعلومات والدعم للمودعين. فنحن ننصحهم، ونزودهم بالمعلومات، وننظم المظاهرات. ولم يكن هذا ممكنًا لولا الانتفاضة التي أثارت اهتمام الناس بالأمورِ المالية”.
وقد التقى السياسيون والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي برابطة المودعين.
وأضافت أبو زور: “أدت وسائل التواصل الاجتماعي دورًا مهمًا بعد الانتفاضة. فبات الناس يهتمون بمعرفة شؤون البلاد والاستماع إلى الخبراء. كما أظهرت اهتمامًا عالميًا بمشكلات منطقتنا بعدما لفتت الانتفاضة انتباه العالم أجمع”.
وأكدت على أهميّة كسب أراضية جديدة في المعركة المستمرة ضد المؤسسة، وذلك من خلال متابعة السلوك السياسية، ومقاومة الرضا بالقليل، والمشاركة في الانتخابات البرلمانية والمحليّة والطلابية.
أمل ويأس
اعتبر موسى وأبو زور أن انتخابات مايو 2021، التي شهدت انقسامات داخل المعاقل الطائفية، أنّها إحدى النجاحات الكبرى للانتفاضة.
لكن هذا الرأيّ رفضته الناشطة والمتظاهرة البالغة من العمر 27 عامًا لمى الحاج* وهو اسم مستعار لمراعاة الخصوصية.
وبررت الحاج رفضها القاطع بالقول: “أولًا: إن نواب كتلة التغيير في البرلمان والمفترض أنهم يمثلون الانتفاضة فيه يتصرفون بطريقة مريبة. ثانيًا: تُركت الطبقة العاملة التي ألهمت الثورة محبطة دون تمثيل سياسي، إذ تضاءلت كلمة “17 تشرين” إلى فكرة يستطيع أي سياسي تبنيها واستغلالها”.
وأضافت أن السياسيين والشّخصيّات العامة، الذين يدّعون أنهم أعمدة الانتفاضة، استغلوا الخطاب الشّعبي لكسب الشّعبية، وأوهموا أتباعهم بتوقعات زائفة في الوقت نفسه.
فترى الحاج أن الاستخدام المبالغ فيه للعبارات المرتبطة بالانتفاضة خلال الحملات الانتخابية “حوّل الثورة إلى مجموعة من الشّعارات التجارية الفارغة”.
وأردفت قائلةً: “أميل لاعتبار 17 تشرين تمردًا لا ثورة، فقد بذلت النخبة السياسية جهدًا كبيرًا للحيلولة بين المتظاهرين والنجاح في الإطاحة بالمؤسسة”.
لذلك تؤكد الحاج على أن الإطاحة بالنّظام تتطلب اتخاذ خطوات جذرية. وتتفق هنا مع موسى الذي يرى حاجة إلى انتفاضة أخرى في السّنوات القليلة القادمة حتى تُكمل الأجيال الشّابة المهام التي بدأها أسلافهم.
وقال موسى: “أؤمن بالجيل القادم. وأحسبهم سيحدثُون نقلة في قلب النّظام بمجرد وصولهم إلى السلطة. فالمؤسسة اليوم قليلة المناصرين كثيرة الأعداء”.
واختتم بقوله: “لقد رسخت الانتفاضة مُثُلَ المسؤولية والحقوق والمساواة في العقلية اللّبنانية لسنوات قادمة، حتى لو تلاشت السياسات التي طُبقت تحت شعار 17 تشرين يومًا ما”.