لا يزال وضع النازحين في لبنان محفوفاً بالمخاطر في ظل غياب دور فعّال للدولة اللّبنانية. وحتى يتم التوصل إلى حلّ، سيستمر المعاناة اليومية.
دانا حوراني
عزمت فاطمة، 67 عامًا، على البقاء في بيتها في النبطية الفوقا، وظلّت صامدةً مع زوجها وأبنائها الأربعة طوال الحرب التي بدأت في السابع من أكتوبر 2023. إلا أن كل شيء قد تغير يوم الاثنين 23 سبتمبر عندما شنّت إسرائيل سلسلة من القصف البساطي على جنوب لبنان، ووادي البقاع، ثم ضاحية بيروت الجنوبية. عندها وفي ذلك اليوم، أدركت فاطمة أنه قد حان وقت الفرار.
قالت فاطمة لفنك بينما كانت تُجلس أبناءها في السيارة قبل توجهها هي وزوجها نحو بيروت: “كانت الصواريخ تتساقط من حولنا، ولا نعرف إن كان الصاروخ التالي سيسقط فوق رؤوسنا”.
وأضافت: “لا نعرف أيهما أخطر، أن نخاطر بحياتنا على الطريق، أم نبقي في البيت منتظرين سقوط صاروخ في أي لحظة”.
وسط صراخ الأطفال وهدير الصواريخ الذي لا ينقطع والانفجارات التي لا تعرف فاطمة موقعها، قاد الزوج السيارة بلا وجهة. ولم يكن أمامهم إلا البحث عن ملاذ مع العائلة في ضاحية بيروت الجنوبية التي كانت آمن نسبيًا من جنوب لبنان. فحتى ذلك اليوم، كانت الهجمات الإسرائيلية على الضاحية المكتظة بالسكان متقطعة ومحدودة إلى حد ما.
قالت فاطمة بصوت شجيّ: “نظرت إلى بيتي من ورائي بقلب مثقل. أعرف أنني إن رحلت، فإنني قد لا أجده عندما أعود”.
في المساء، أطلقت إسرائيل وابلاً من الغارات الجوية على مناطق واسعة من لبنان، ما جعله اليوم الأكثر دمويةً منذ اندلاع المواجهات بين إسرائيل وحزب الله. فقد أفادت السلطات أن الهجمات أسفرت عن مقتل أكثر من 500 شخص، معظمهم من النساء والأطفال، وإصابة أكثر من 1800 آخرين. ووفقًا لوزارة الصحة اللّبنانية، ارتفع إجمالي عدد القتلى إلى 2083شخصًا ،بينهم 127 طفلًا على الأقل. مع العلم بأن هذه الأرقام يتم تحديثها يوميًا.
وفي محاولة يائسة للهرب، نزح السكان بأعدادٍ كبيرة.
ووجدت فاطمة وعائلتها أنفسهم عالقين في ازدحام مروري استمر 16 ساعة في رحلة لا تتجاوز عادةً ساعة ونصف.
قالت فاطمة: “كنا محظوظين، على الأقل لم نكن قريبين من القصف ولم تتعطل سيارتنا كما حدث مع آخرين”.
وفي الأيام التالية، تصاعدت حدة الاشتباكات مع استمرار القصف اليومي على جنوب لبنان ووادي البقاع وضاحية بيروت الجنوبية. وفي يوم الجمعة 27 سبتمبر، ألقت إسرائيل عشرات القنابل على مجمع سكني في الضاحية، مما أدى إلى مقتل زعيم حزب الله حسن نصر الله وعدد غير معروف من المدنيين، بعد أن سوّت الغارات عدة مبانٍ سكنية بالأرض.
وفقًا للحكومة اللّبنانية، نزح ما لا يقل عن 1.2 مليون شخص جرّاء الهجمات الإسرائيلية، 90% منهم في الأسبوع الأخير من شهر سبتمبر. وقد لجأ بعضهم إلى المدارس، بينما ينام الآلاف الآن في المساجد أو تحت الجسور أو في الشوارع، خصوصًا بعد أن تجاوزت الملاجئ قدرتها الاستيعابية.
كانت لمى، 19 عامًا، وعائلتها من بين العديد من العائلات التي كانت لتظل بلا مأوى لولا وجود أقاربهم في بلدة عرسال التابعة لقضاء بعلبك.
فقد نزحت عائلتها بالفعل من منزلهم في بلدة عيترون جنوب لبنان، واستقروا مؤقتًا في قرية العين في منطقة البقاع.
قالت لمى لفنك: “كانت القنابل تقترب أكثر فأكثر، وكنا نعلم أنه علينا الفرار على الفور”.
وخلال رحلتهم إلى عرسال، أوقفهم السكان المحليون عند نقطة تفتيش، ومنعوهم من الدخول لكونهم سوريين.
أوضحت لمى: “اضطُررنا إلى الاتصال بشخصٍ يعرف سكان البلدة لمساعدتنا على العبور”، والذي أوضح لهم أنهم سوريون سيقيمون مع أقاربهم، وليس في مدرسة مخصصة للنازحين اللّبنانيين.
وجدير بالذكر أنه قد قُتل العديد من السوريين المقيمين في لبنان في الغارات الجوية الإسرائيلية، وكان أكبر عدد من الضحايا في بلدة يونين بوادي البقاع. ففي 26 سبتمبر، أدت غارة إسرائيلية إلى مقتل 20 شخصًا، 19 منهم سوريون.
وفقدت غالبية الأسر في الجنوب أعمالها وبيوتها، مما ترك السكان يعانون من انعدام الأمن الاقتصادي. وكان اللاجئون السوريون من بين الأكثر تضررًا، إذ لم يكن ذلك أول نزوح لهم. ودعا المسؤولون اللّبنانيون السوريين للعودة إلى بلادهم نظرًا إلى حجم الأزمة.
وعلى الرغم من ارتفاع عدد العابرين من لبنان إلى سوريا في الأيام الأخيرة، فإن معظم السوريين ما يزالون داخل لبنان الذي يستضيف نحو 1.5 مليون لاجئ سوري وأكثر من 11 ألف لاجئ من جنسيات أخرى، وفقًا للمفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين. وتشير التقديرات إلى أن ما لا يقل عن 185 ألف شخص عبروا إلى سوريا من لبنان فرارًا سعيًا إلى الأمان، 70% منهم سوريون، والباقي لبنانيون.
وفي 4 أكتوبر، أكدت الأمم المتحدة على إغلاق المعبر الحدودي إلى سوريا نتيجة غارة جوية جديدة نُفذت فجرًا.
قالت رولا أمين، مسؤولة الإعلام والاتصال لمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين: “كانت هناك ضربتان جويتان أحدثتا حفرة ضخمة في الأرض الواقعة بين سوريا ولبنان، ما جعل عبور المركبات صعبًا للغاية”.
أما في عرسال، فقد تمكنت عائلة لمى من الإقامة في منزل أحد أقاربهم، والذي باتت تتقاسمه الآن خمس عائلات أخرى.
وأضافت لمى: “تفقد كل إحساس بالخصوصية والحياة الطّبيعية، إذ وبمجرد أن تبدأ في التأقلم مع مكان جديدٍ بعد النزوح، يتم انتزاعه منك مرة أخرى”.
وعلى الرغم من توفر الأساسيات مثل الكهرباء والمياه، فإن الوصول إلى الإنترنت نادر. فوجدت لمى نفسها مضطرة إلى التأقلم مع روتين جديد. فبعد أن كانت تستمتع بصباحاتها كطالبة جامعية، أصبحت الآن محاطة بالبالغين والأطفال في منزل مكتظٍ يكاد ينعدم الهدوء فيه.
قالت لمى: “نحن عائلة كبيرة تحاول البقاء، لكننا لم نتلق أي مساعدة. لا نعتقد أن هناك دعمًا كبيرًا للسوريين، لكن علينا مساندة بعضنا بعضًا، فنحن في حالة حرب”.
ومع انخفاض درجات الحرارة، لم تتمكن عائلة لمى من أخذ جميع متعلقاتهم قبل مغادرتهم منازلهم في العين.
وأوضحت لمى: “حذرنا سكان البلدة من أننا إذا غادرنا عرسال، فلن يُسمح لنا بالعودة عبر نقطة التفتيش. لذلك لم نعد مرة أخرى لأخذ أغراضنا”.
في الوقت عينه، لاقت العاملات المنزليات المهاجرات نصيبهن من التمييز وسط الأزمة الحالية. فقد تُرك 176 ألف عامل مهاجر في لبنان، أغلبهم من النساء العاملات في المنازل، ليدبروا أمورهم بأنفسهم.
ففي وسط بيروت، تُرك العشرات من العمال المهاجرين في الشوارع بعد أن رفضت الملاجئ استقبالهم، وقال بعضهم لوسائل الإعلام المحلية إن أصحاب العمل فروا من البلاد تاركينهم عالقين في بيروت.
وقد بات البحث عن مأوى يشكل تحديًا كبيرًا، وعند العثور عليه، غالبًا ما تكون الأولوية للمواطنين اللَبنانيين. ومع ذلك، تدخلت منظمات غير حكومية محلية، مثل حركة مناهضة العنصرية، لتقديم المساعدة.
وبالمثل، يعاني النازحون في قضاء المتن من غياب المساعدات الحكومية، إذ تعاني المدارس المكتظة من نقص الموارد اللازمة لاستيعابهم. وبينما قدمت مبادرات فردية بعض المساعدة، مثل تلك التي أطلقتها أبرشية أنطلياس المارونية وحركة الفوكولاري، فإن هذه الجهود لا تستطيع أن تحل محل مسؤولية الدولة في توفير احتياجات مواطنيها.
كثف الجيش الإسرائيلي تحذيراته للسكان اللّبنانيين في مختلف المناطق، مما أدى إلى موجات نزوح واسعة النطاق. وفي 3 أكتوبر، وجّه المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي أفيخاي أدرعي تحذيرات لسكان عدة قرى جنوب لبنان بضرورة إخلاء منازلهم فورًا. تضمنت المناطق المتضررة البياضة، وبيوت السياد، والرشيدية، ومعشوق، والبص، وشبريحا، وطير دبا، والبرغلية، ومخيم القاسمية، ونبي قاسم، وبرج رحال، والعباسية، ومعركة، وعين بعال، ومحرونة، وبافلية، وديركيفا، وصريفا، وأرزون، ودردغيا، وضهر برية جابر، وجبل العدس، وشحور، وبرج الشمالي. كما دعا الجيش السكان إلى تجنب التحرك نحو الجنوب، مشيرًا إلى أن “أي توجه جنوبًا قد يعرضكم للخطر”. وغالبًا ما كانت هذه التحذيرات تصدر ليلاً، تليها ضربات جوية بعد دقائق.
كانت رانيا وعائلتها يأملون في البقاء في مخيم الرشيدية الذي يأوي اللاجئين الفلسطينيين في جنوب لبنان كما فعلوا خلال حرب 2006 مع إسرائيل. لكن تصاعد العنف والتحذيرات المتكررة هذه المرة لم تترك لهم خيارًا آخر.
وصفت رانيا شعورها بالضغط النفسي المستمر بسبب أصوات مسيّرات الاستطلاع الإسرائيلية التي تحلق في السماء، وقالت لفنك: “كان القصف يزداد كل يوم، وفي وقت ما كان المنزل بأكمله يهتز، ولم نستطع النوم”.
وعندما صدرت أوامر الإخلاء أخيرًا، وصفت رانيا الفوضى التي تبعت ذلك بأنها كانت “مثل نهاية العالم”.
نزحت مئات العائلات، باحثة عن مأوى في مدارس الأونروا أو منازل الأقارب أو حتى مساكن مستأجرة. وأشارت رانيا إلى صعوبة إيجاد مأوى بسبب التحديات المالية ونقص وسائل النقل، إذ قالت: “بعض الناس لا يملكون مالًا يمكّنهم من الرحيل، ولم تكن هناك سيارات أجرة متاحة، إذ بلغ سعر التوصيلة القصيرة إلى صيدا ما يصل إلى 100 دولار”.
وعلى الرغم من المخاطر، فضل العديد من الشباب البقاء في المخيم، غير راغبين في مغادرة منازلهم. بصوت يحتبس الدموع، قالت رانيا: “يرفض أخي المغادرة، يقول إنه يشعر بالاختناق عندما يفكر في التخلي عن المخيم. لقد قرر البقاء هو وأصدقاؤه والأطباء العاملون في المستشفى القريب”.
بالإضافة إلى ذلك، تفاقم الاستغلال الاقتصادي في المخيم. فعلى حد قول رانيا: “في الأسبوع الماضي، لاحظنا أن المتاجر تخزن البضائع، استعدادًا لرفع الأسعار. وأسطوانة الغاز التي كانت تكلف 1.2 مليون ليرة الآن تكلف 4 ملايين”.
على الرغم من أن رانيا وجدت مأوى مؤقتًا مع عائلتها في صيدا، فإنها يئست من إيجاد مكان لها وعائلتها، لكن الأسعار المرتفعة ورفض بعض أصحاب العقارات تأجير منازل لأشخاص من الجنوب يجعل البحث عن منزل أمرًا صعبًا.
وأوضحت: “نحن، أبناء مخيم الرشيدية، لدينا ارتباط عميق بالقرى المحيطة وبأهل الجنوب. نحن مدينون لهم بالكثير لدعمهم لنا، لكن البعض من أصحاب العقارات يترددون في استقبال أي شخص من الجنوب”.
رغم أن صيدا تبدو آمنة في الوقت الحالي، تلاحق رانيا مخاوف من أنها قد لا تعود أبدًا إلى الرشيدية.
قالت بصوت مرتجف: “مغادرة المخيم أشبه بتمزيق جزء من نفسك. إنه ليس وطننا، لكنه جزء منا. نحن مرتبطون بشوارعه وأحجاره. عندما نرى مدخل صور قبل المخيم مباشرة، نشعر بعودة الروح إلى أجسادنا”.
في الوقت عينه، اضطرت زينب، المقيمة في برج البراجنة بضاحية بيروت الجنوبية، إلى المغادرة في 24 سبتمبر، قبل أن تتعرض المنطقة لقصف إسرائيلي عنيف.
وأوضحت زينب لفنك: “شعرت أنه من مسؤوليتي إخراج عائلتي. لم أستطع النوم وأنا أفكر في ما قد يحدث لهم”.
انتقلت زينب وعائلتها إلى عاليه في جبل لبنان، لكن الرحيل العاجل وبرودة الطقس دفعهم يغادرون دون أخذ ملابس الشّتاء. وأكدت: “لا أعلم ماذا حدث لمنزلنا، ولا أحتمل التفكير في ذلك الآن. الأولوية لعائلتي”.
تشعر زينب بمرارة شديدة، حيث تطل شرفتها الجديدة على الحي الذي فرت منه، مما يجعلها تسمع وترى القنابل التي تسقط على برج البراجنة وهي تدرك أن منزلها وذكرياتها معرضة لخطر التدمير.
وقالت: “نجبر أنفسنا على النوم، لكننا لا نجد راحة حقيقية”.
زعمت إسرائيل أن ضرباتها تستهدف البنية التحتية لحزب الله، لكن استراتيجيتها الأوسع، المعروفة باسم “عقيدة الضاحية“، تهدف إلى إلحاق أضرار غير متناسبة بالمناطق المدنية، خصوصًا في الأحياء ذات الأغلبية الشيعية. تم تنفيذ هذه العقيدة، التي سُميت على اسم ضاحية بيروت، خلال حرب 2006، ويتم إحيائها الآن، مما تسبب في دمار واسع النطاق ونزوح المدنيين.
لم يسلم المسيحيون اللّبنانيون أيضًا من تبعات الحرب. ففي الأسبوع الماضي، تلقى سكان قرية عين إبل الجنوبية تحذيرات عبر هواتفهم، مما اضطرهم إلى الفرار من منازلهم. وفي 2 أكتوبر، استُهدف منزل في قرية دبل المسيحية في جنوب لبنان في الساعات الأولى من الصباح، مما أدى إلى مقتل عدد من أفراد عدة عائلات. حتى قبل تكثيف الهجمات الإسرائيلية، كان سكان عين إبل ودبل وغيرهما من البلدات المسيحية يديرون شؤونهم اليومية مع الإصرار على عدم مغادرة منازلهم والثبات في أرضهم، لكن الآن تظل كل الأمور غير مؤكدة.
بينما ما تزال نهاية الحرب غير واضحة ويزداد الخوف يومًا بعد يوم، تنتظر زينب ورانيا ولمى وفاطمة بقلوب مرهقة اليوم الذي سيتمكن فيه من العودة إلى ديارهم. ويتمسكن بالأمل في أن وقف إطلاق النار سيمنحهن الفرصة للعودة، لكن الخطر ما يزال قائمًا. ومع غياب دورفعّال للدولة اللّبنانية، تتزايد التساؤلات حول الجهة التي ستتحمل مسؤولية رعاية النازحين وتوفير المساعدة والمأوى الضروري. وحتى يتم التوصل إلى حلّ، سيبقى النزوح القسري جزءًا من معاناتهم اليومية.