مع الحضور المتنامي لتنظيم الدولة الإسلامية “داعش” في شمال افريقيا والتهديد الخطير الذي يشكله هذا على المغرب، فضلت الحكومة المغربية اتباع استراتيجية يتم من خلالها احتواء ودمج، بشكلٍ تدريجي، السفليين الجهاديين الذين ينبذون العنف ويُشار إليهم في الوقت الراهن باسم “السفليين” (نسبة إلى السلفية، وهم المسلمون في عهد النبي محمد)، كنموذجٍ يحتذى به، في النظام السياسي للبلاد باسم الديمقراطية.
كانت أولى مظاهر السلفية الجهادية في المغرب تفجيرات الدار البيضاء في 16 مايو 2003، والتي أسفرت عن مقتل 44 مغربياً وجرح العديد. اعتبرت هذه الهجمات صفعة على وجه كلٍ من الحكومة والأمة على حد سواء، ذلك أن جميع الإرهابيين كانوا من أبناء البلد. أدت هذه الهجمات إلى حملة واسعة النطاق على السلفيين الجهاديين.
ومع ذلك، وفي أعقاب الربيع العربي ومقتل الزعيم الليبي معمر القذافي، وفشل الإسلام السياسي والحضور المتنامي لـ”داعش” والجماعات الإرهابية المماثلة في شمال افريقيا، تبدّل موقف الحكومة المغربية اتجاه السلفيين تدريجياً. هذا التغيير موثق بأربعة أساليب.
أولاً، في عاميّ 2011 و2012، صدر مرسوم ملكي تم بموجبه العفو عن خمسة شيوخ من السلفيين الجهاديين (منظرين ومصدري الفتاوى)، فضلاً عن بضع مئات من أتباعهم ممن أدينوا بتهم التطرف والإرهاب. لم يتم اطلاق سراح بعض هؤلاء المعتقلين السلفيين-الجهاديين فقط من السجن، بل منحت لهم الفرصة أيضاً للانخراط في العملية السياسية السلمية. كانت هذه خطوة غير مسبوقة.
ثانياً، أمّ الشيخ محمد الفزازي، وهو شخصية بارزة في الفكر السلفي وشيخ متطرف سابق، بصلاة الجمعة بحضور الملك في 28 مارس 2014. أكدّ هذا الموقف على تغير موقف النظام اتجاه الفزازي، الذي كان قد تبنى في وقتٍ سابق أيديولوجية الجهاد المتطرف والفكر التكفيري (أي إعلان أن شخص ما كافر، وإخاضعه/إخضاعها للعقاب “المناسب”- النبذ أو القتل).
ثالثاً، في 4 أبريل 2015، قامت وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالتعاون مع المجلس العلمي الأعلى، بتنظيم ندوة حظيت بتغطية إعلامية كبيرة بعنوان “السلفية: تحقيق المفهوم وبيان المضمون.” تمت مناقشة التوصية الرئيسية لهذه الندوة، ألا وهي ضرورة التوفيق ين السلفية والصوفية، من قِبل رجل الدين المغربي، الدكتور مصطفى بنحمزة بحضور الملك في يوليو 2015، خلال الدروس الدينية في شهر رمضان الفضيل.
رابعاً، في 6 نوفمبر 2015، وبمناسبة الذكرى الأربعين للمسيرة الخضراء، أصدر الملك محمد السادس عفواً ملكياً عن 37 معتقلاً سلفياً، الذين أدينوا جميعهم بتهمٍ تتعلق بالإرهاب. وكان من بينهم شخصية بارزة وهو الشيخ حسن الخطاب، متطرف سلفي سابق سيء السمعة.
تُشير هذه الحقائق الأربعة إلى بزوغ حقبة جديدة للعلاقة ما بين النظام المغربي والسلفيين في البلاد. ومن المتوقع أن تساهم هذه العلاقة الجديدة في قيادة التعاون ما بين المعسكرين باعتبارها وسيلة لمواجهة التهديدات التي تحدق بأمن واستقرار المغرب.
كما تشهد العلاقة الجديدة بين النظام المغربي والسلفية على فشل استخدام الصوفية في احتواء السلفيين، ذلك أن هذه المحاولات لم تقنع السلفيين الجهاديين نبذ العنف. بدأ المغرب في استخدام الصوفية كوسيلة لضمان الأمن ومواجهة التطرف السلفي الجهادي في أعقاب الهجمات الإرهابية في الدار البيضاء. وقع تنفيذ هذا النهج على عاتق وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، بقيادة الوزير الصوفي أحمد توفيق. وعلى الرغم من الجهود الجبارة التي بذلتها الوزارة، إلا أنّ الاتجاه الصوفي لم يستطع حقاً كبح السلفية الجهادية والأيديولوجيات التكفيرية التي هددت أمن المغرب. وفي هذا السياق، أصبحت السياسة الحالية لاحتواء السلفيين من خلال التوفيق بين عقيدتهم والصوفية، الخيار الأكثر قابلية للتطبيق بالنسبة للحكومة. الندوة المذكورة آنفاً، فضلاً عن غيرها من الوقائع المذكورة أعلاه، اعتبرت هذا التوفيق واحداً من أهدافها المركزية.
بالنسبة للحكومة المغربية، كانت هذه الخطوة الجديدة موضع ترحيب، لأنها تعزز السلطة الدينية في شخص الملك بصفته أمير المؤمنين، وتخدم الديمقراطية على حد سواء. وعلى صعيدٍ آخر، فإن تحديد المرجعية الدينية في مؤسسة النظام الملكي ما هو إلا وسيلة لاحتواء الأصوات الأخرى التي قد تودي بحياة هذه السلطة. وبالنسبة لبعض النقاد السياسيين، مثل محمد المسبح من مركز كارنيغي للشرق الأوسط، فإن إدماج السلفيين في الحياة السياسية هو الخطوة الصحيحة.
تولي الحكومة المغربية اهتماماً خاصاً لمنظري السلفية أمثال عبد الكريم الشاذلي، ومحمد عبد الوهاب رفيقي الملقب بـ”أبو حفص،” وعمر الحدوشي، ومحمد الفزازي، ومن خلالهم، العديد من أتباعهم الداعمين لهم والذين ينفذون فتاويهم. وعلى الرغم من أنّ هؤلاء الشيوخ يتفاوتون في تطرفهم، إلا أنّ معرفتهم الدينية وقدرتهم على الوصول إلى جمهور عريض من خلال الوعظ في المساجد وعبر وسائل الإعلام الالكتروني، تشهد على مكانتهم القوية في المجتمع، وبخاصة بين الطبقات الأقل فقراً. دفع الموقف الجديد للحكومة العديد منهم، على سبيل المثال الشيخ محمد الفزازي، إلى صرف النظر عن إصدار فتاوى تتعلق بالجهاد في سوريا.
رافقت استراتيجية “احتواء” السلفيين من خلال السماح لهم الانضمام إلى الأحزاب السياسية التي يختارونها، وعززتها سلسلة من المناقشات الوطنية بشأن هذه المسألة. ويتم حالياً دمج أعداد متزايدة من السلفيين في الأحزاب السياسية والمجتمع المدني، حيث يعبر جميعهم عن ولائهم للمؤسسات المغربية والدعوة لاتباع منهج اللاعنف.
بالنسبة لإدريس الكنبوري، فإن نهج المغرب الجديد اتجاه السفلية مجرد وسيلة لتجريد الإسلاميين في الحكومة من السلطة الدينية عن طريق جعلها أكثر اعتدالاً وخلق التوتر بين الطرفين. وأيضاً، يرى الكنبوري، أنّ دمج السلفيين في أحزاب مؤيدة للنظام هو أيضاً وسيلة لتحييد السلفيين، على الرغم من أنها قد تجعل المجتمع المغربي أكثر اسلامية.
إنّ تحسين العلاقات مع السلفيين لا يعني ضمان أنّ الأخيرة ستلتزم بالسلام. فعلى الرغم من نجاح التجربة المصرية في هذا الصدد، إلا أنّ الخوف من السلفيين لا يزال واقعاً.
ففي النهاية، يمكن القول أن السلفية في المغرب تقدّم الفرص وتُثير التساؤلات على حد سواء، إلا أنّ النقطة الأخيرة قد تبدو أقل شأناً من خلال ثلاث عوامل: الحذر المغربي الشديد والتعصب فيما يتعلق بقضايا الأمن، وعملية إدماج السلفيين في الأنظمة السياسية المغربية والتي تنطوي فقط على السلفيين المواليين للنظام، وحقيقة أنّ مشروع إنشاء حزب سياسي سلفي خالص خيار غير قابل للتطبيق حقاً على أرض الواقع في الوقت الحالي (المستقبل فقط سيثبت أو يدحض هذه الفرضيات).