يجد نفتالي بينيت نفسه في عام 2015 في دوّامة المجتمع الإسرائيلي، فمن ناحية يعتبر بينيت نجم صاعد في السياسة الإسرائيلية، فضلاً عن كونه رمز الاتجاهات الهادئة في المجتمع الإسرائيلي إذ يمتاز حليق الرأس بجسمه الرياضي وأرصدته البنكية المكدسة بالملايين وعندما يتكلم الانجليزية تبدو لكنته أقرب إلى الأمريكية.
أنتج بينيت هذا حملة فيديو ذكية تستهدف الإسرائليين العصريين والعلمانيين. ويظهر في الفيديو سيدتين من أعضاء حزبه من بين الحشود على استعدادٍ للتصويت له إلى أن يصرحوا ممازحين عن مشكلة وجود بينيت آخر في الحزب اليميني.
كان بينيت، الذي يرتدي قلنسوة كبيا المحاكة على رأسه الحليق على الدوام، الرئيس السابق لمجالس المجتمعات المحلية في مستوطنات يهودا والسامرة وغزة، وهي مجموعة الضغط التي تمثّل المستوطنيين اليهودين في الضفة الغربية. واليوم، وبعد سنوات من العمل السياسي، بات بينيت زعيم حزب البيت اليهودي المتطرف، وهو حزب سياسي ساهم في إعادة هيكلة إلى جانب الحفاظ على المعايير الأساسية لليمين الديني الصهويني.
كيف تمكن نفتالي من إدارة هذا التكتل السياسي الدقيق بين الإخلاص لليمينية الصهوينية الدينية والإنخراط مع التيار الحر السائد في إسرائيل؟
لا بد للمرء أولاً بأن يفهم المعضلة التي ينبثق منها. فقد ولدت الصهيونية الدينية قبل قرن من الزمان وانتفعت إلى حدٍ كبير من حركات القرن التاسع عشر التي سعت إلى الجمع الصارم بين الشعائر الدينية اليهودية والمشاركة في المجتمع الحديث.
وفي قديم الزمان، حصر حكام أوروبا اليهود بين جدران الأحياء اليهودية، حيث تم منعهم من دخول التيار الإقتصادي أو الثقافي. ولكن تغير هذا في القرن التاسع عشر: تهاوت جدران الأحياء اليهودية، ومنح القادة الليبراليون اليهود الحقوق القانونية الكاملة، وتساءل اليهود حول كيفية الرد على هذا الوضع الغريب حيث أصبحوا ظاهرياً مواطنين متساويين. وظهرت العديد من الأجوبة على هذا التحدي، ولا يزال الجدل بين هذه المجموعات المختلفة، حتى يومنا هذا، ما يُميّز التاريخ اليهودي الحديث.
وقد أجاب البعض أنه يتعين على اليهود الاستمرار في كل من مراقبة التعاليم الدينية والمشاركة في المجتمع على نطاق أوسع. وينبغي إستمرار تعليم الأطفال النصوص الدينية إلى جانب تلقيهم التدريب العلماني بما في ذلك التعليم الجامعي. وفيما يتعلق بالشعائر الدينية، لا وجود للحلول الوسط. ولكن إلى جانب الإلتزام الديني الصارم، قد يُسمح بالمشاركة في المجتمع الحديث.
الفجوة بين المتدينيين والعلمانيين
عندما ظهرت الصهيونية بعد قرن، لفتت بشكلٍ طبيعي أنظار اليهود بعيداً عن هذه المدرسة. فقد دعت الصهيونية بشكلٍ كبير إلى ضرورة بناء اليهود دولة خاصة بهم. في تلك الدولة، لن يبتعد اليهود عن العالم الحديث ولكن لن ينغمسوا فيه أيضاً، بدلاً من ذلك، سيعملون على بناء مؤسساتهم الخاصة التي من شأنها أن تحافظ على الهوية اليهودية فضلاً عن كونها جزء من النظام الدولي الليبرالي الحديث. رأى الحاخامات إمكانية تطبيق هذه الفكرة وبدأت شراكتهم مع الصهاينة العلمانيين (وكذلك الإشتراكيين) في بناء الدولة.
وفي نفس الوقت، كان للحاخامات إتجاهين. أولاً، وبالنسبة لهم لن تكون الدولة اليهودية نسخة عن أوروبا وسطى تتحدث الألمانية كما اقترح الملحد ثيودور هرتزل، حيث يستمتع الرجال الذي يرتدون القبعات بعروض الأوبرا في حين يتحاشى الحاخامات السلطة السياسية. وبدلاً من ذلك، في الصهيونية الدينية، تمتلك الدولة هوية يهودية عامة وذات توجه ديني.
ثانياً، فقد واجه حاخامات الصهيونية الدينية مشكلة لاهوتية: في التقاليد اليهودية، تحدث قمة العودة إلى صهيون فقط عند عودة المسيح. وإبان عهد الإنتداب البريطاني، تدفق اليهود إلى أرض إسرائيل بأعداد هائلة وأكثر من أي وقتٍ مضى حيث كانوا يسعون لإنشاء دولة ذات سيادة. تتمثل إحدى الإحتمالات في أنّ اليهود استبقوا عودة المسيح وبالتالي يكونون بذلك انتهكوا القانون اليهودي. هذه وجهة النظر التي يتبناها تيار الحريديم المعادي للصهيونية (المتشددين)، ومن ناحية لاهوتية، يُفسر سبب رفض الحريديم الخدمة في جيش الدفاع الإسرائيلي (IDF) أو الاندماج في المجتمع الإسرائيلي على نطاق أوسع.
يتمثل الإحتمال اللاهوتي الآخر في أنه في حال أعاد اليهود السيادة في أرض إسرائيل، فهذه علامة على أنّ عصر الميسحانية قريب. وهذا هو الرأي المقبول، على مدى العقود، من قِبل المزيد والمزيد من الصهاينة المتدينين. فضلاً عن ذلك، فقد منح نصر إسرائيل السريع عام 1967 المزيد من الأدلة على الخطة الإلهية، وكذلك كانت فرصة استيطان يهودا والسامرة، مهد التاريخ والدين اليهودي.
ومع مرور الوقت، أدى شعور القطاع القوي بالغرض السياسي إلى تحوله إلى اليمين. هذا الشعور بوجود الهدف، حتى وإن كان هدف ميسحاني، يفصل أيضاً الحزب الديني الوطني عن التيار الاجتماعي السائد في إسرائيل. كما أن العزلة الجغرافية للمجتمعات الوطنية الدينية المتجانسة على قمة جبل الضفة الغربية، تُجبر أيضاً النشطاء السياسيين على الإبتعاد عن السياسة على أرض الواقع.
التأثير المتزايد
ومع ذلك، فإن النشاط السياسي للقطاع لم يفصله فقط عن التيار السياسي الإسرائيلي السائد، بل ساعد أيضاً في إعادة تشكيله. أصبح المعكسر الديني الوطني مؤثراً في السياسة، وفي البيروقراطية الحكومية، وفي الجيش. وبدأت الموارد المالية بالتدفق على المستوطنات من النظام السياسي، لدرجة إلى أن المستوطنة الواحدة في الضفة الغربية باتت تتلقى أموالاً حكومية لتطويرها أكثر من تلك التي تحظى بها مناطق بأكملها في إسرائيل.
كما نجحت الصهيونية الدينية ثقافياً، إلى الحد الذي وفقاً لدراسة حديثة أجراها معهد إسرائيلي للديمقراطية، يتشابه ما نبسته حوالي 21 بالمائة من اليهود الإسرائيليين مع القطاع فيما يتعلق بنمط الحياة والتوقعات المستقبلية، حتى وإن كان العديد منهم غير حريصين من ناحية دينية. وبعيداً عن كونهم منعزلين، أصبح القطاع الديني الوطني بشكلٍ تدريجي دعامة متميزة في المؤسسة.
من جهة، أصبح بعد ذلك القطاع الديني الوطني أكثر بعداً عن التيار السائد في إسرائيل، إلا أنه من جهة أخرى، أصبح أكثر اندماجاً فيه.
البيت اليهودي: جاذبية أكبر
واجه نفتالي بينيت هذا التناقض، فقد ترعرع نفتالي في أسرة صهيونية متدينة. وفي الجيش، خدم في وحدة القوات الخاصة ماتكال، وهي ذات الوحدة التي خرج منها بنيامين نتنياهو وإيهود باراك. وفي مرحلة البلوغ، أسس بينيت مشروعاً تكنولوجياً حقق أرباحاً وصلت إلى 145 مليون دولار عام 2005. وبعد ذلك خطى بينيت خطوات جدية نحو المعترك السياسي، حيث تولى منصب رئيس هيئة الاركان لزعيم المعارضة في ذلك الحين بنيامين نتنياهو ورئيس لوبي المستوطنين قبل أن يتم انتخابه لرئاسة البيت اليهودي.
عندما تولى بينيت زمام الأمور في البيت اليهودي، كان مجرد حزب صغير ورصين يمتلك القليل فقط من مقاعد الكنيست التي تهتم حصراً للعناصر الأساسية في المعسكر الديني الوطني. اختار تمثيل القطاع بأمانه ولكن ليس بالضرورة لجلب الإسرائيليين من خارج الصهيونية الدينية.
إلا أن بينيت كانت لديه رؤيا مختلفة: باعتباره نجم شاب في “أمة ريادة الأعمال”، استغل مصداقية الشارع وسحره الشخصي لتوسيع نطاق حزبه. فقد عمد بينيت إلى تشجيع انضمام الإسرائليين الأقل تديناً، وحتى العلمانيين إلى الحزب. حافظ الحزب على جوهره الفكري والثقافي في المعسكر الديني الوطني، إلى أنه سعى إلى إضافة مؤيدين للحزب يرونه باعتباره البديل والخيار السياسي الأكثر جاذبية. يُمثل حليف بينيت السياسي أييلت شاكيد، وهو علماني يقطن في أحد الأحياء الراقية شمال تل أبيب النهج الجديد ليصبح رمز البيت اليهودي.
وربما استنتج بينيت أن استراتيجيته يمكن أن تسفر عن فوائد كبيرة للقطاع الديني الوطني. فبدلاً من أن يحصر نفسه باعتباره حزب سياسي صغير مهمش، يمكن للقطاع اكتساب سلطة سياسية هائلة. فهم بينيت بالفطرة ما أظهرته دراسة المعهد الإسرائيلي للديمقراطية في وقت لاحق: لدى العديد من الإسرائليين إنسجام كبير مع المعسكر الديني الوطني، حتى وإن كانوا هم أنفسهم ليسوا جزءاً من جوهرها. يمكن أن تكون هذه المجموعة هدفاً طبيعياً لتوسع البيت اليهودي سياسياً ويمكن أن تزيد إلى حد كبير تمثيل الحزب في الكنيست، الذي من شأنه أيضاً أن يمكّن الحزب من توجيه المزيد من الموارد المالية نحو المستوطنات والمزيد من الغنائم نحو المؤسسات الدينية الوطنية.
وفي انتخابات عام 2013، نجحت استراتيجية بينيت، حيث رفع حزب البيت اليهودي تمثيله في الكنيست إلى اثني عشر مقعداً من أصل أربعة مقاعد سابقاً (أو سبعة مقاعد إذا ما أخذنا بعين الإعتبار المقاعد الثلاث من الأحزاب الدينية الأخرى التي يُشارك فيها بينيت). ومع اقتراب حملة عام 2015، يبدو أن البيت اليهودي لا يزال قادراً على رفع عدد ممثليه أكثر.
ومع مرور الأسابيع الأولى للحملة، سارت الأمور وفقاً لخطة بينيت الاستراتيجية. ففي أول شريط مصور لحملته الإنتخابية، ارتدى بينيت ملابس عصرية وتجول في شوارع تل أبيب ساخراً من خصومه السياسيين لإعتذارهم عن خطايا لم يرتكبوها. أما في الفيديو الثاني، فيظهر بينيت كنجم يقوم بنفسه بتحرير مقاطع لخصومه السياسيين الجبناء وهم يرتعدون خوفاً أمام وسائل الإعلام الدولية، بينما يقف بينيت أمامهم دون أن يعتذر عن شيء. في حين أن الفيديو الثالث، يُظهر سيدتين علمانيتين تتحدثان بحماس عن نجمهما بينيت ومآثره الكبيرة على الإقتصاد الإسرائيلي.
ولكن يرى آخرون في المعسكر الديني الوطني الأمور بطريقة مختلفة. فقد عملوا على مدى قرون لإنشاء مؤسسات مجتمعات مستقلة، وذلك من خلال إبقاء أجزاء أخرى من إسرائيل بعيدة. صوتوا لصالح الحزب الذي هو حزبهم، بينما هددت رؤيا بينيت بالحرية وجهة نظرهم الأصولية. كيف يمكن “للبيت اليهودي” الإنتشاري والأكثر تعددية أن يكون موطن جوهر القطاع الديني الوطني نفسه؟
النزاهة المهددة؟
ازداد التوتر لسنوات، وفي يناير 2015 طفح الكيل. سعى بينيت إلى استقطاب ما يُسمى بناخبين “اليهود المزراحيون التقليديون” وهم يهود من أصول شرق أوسطية الذين ليسوا علمانيين تماماً ولا متدينين متشددين تماماً. يُمثل هذا القطاع حصة كبيرة من سكان إسرائيل بوجهات نظرهم السياسية اليمينية وولعهم بالتقاليد الدينية، إذ يشكلون توسعاً طبيعياً آخر لإئتلاف بينيت. كما أعلن بينيت أنه سيُضيف إلى قائمة المرشحين إلى الكنيست عن البيت اليهودي لاعب كرة القدم السابق إيلي أوهانا، وهو نجم سابق في فريق بيتار القدس وناشط، منذ فترة طويلة، في حزب الليكود، حيث يُعتبر أوهانا من أشد المؤيدين لليهود الشرقيين (مزراحيم) ويعدّ الوجه الأمثل لتسويق حملة بينيت الإنتخابية.
ولكن هذه الاستراتيجية لم تقنع زملاء بينيت من القادة والنشطاء في البيت اليهودي. لماذا يُعتبر أوهانا الذي حقق إنجازات رياضية مؤهل أكثر من الآخرين للكنيست من وجهة نظر بينيت؟ كيف يمكن لحزب ديني أن يكون ممثله أوهانا الذي ينتهك بلعبه مباريات في فترة ما بعد ظهر السبت حرمة يوم السبت لدى اليهود ويجر في ذلك آيضاً آلاف المتفرجين في الملعب وعبر شاشات التلفاز؟ في حين يرى البعض أن في الأمر خبث أكبر من مجرد المشاركة في المبارايات: لماذا يتحول القطاع الديني الوطني، الذي يُسيطر عليه الأشكناز (اليهود من أصول أوروبا الشرقية والوسطى) إلى اليهود المزراحي الأقل تأثيراً مثل أوهانا؟
نمت معارضة ترشيح أوهانا على المستوى الشعبي. وبعد عدة أيام، انسحب أوهانا في حين تراجع بينيت عن قراره. ويبدو أن التخلي عن أوهانا أثنى اليهود الشرقيين عن التصويت للبيت اليهودي بعد أخذهم الأمر بعين الإعتبار. ولا زال هناك ناخبين آخرين انشقوا عن البيت اليهودي لصالح التصويت لحزب يميني بديل آخر.
ومنذ الفشل الذريع لحملة أوهانا الانتخابية، بدأ بينيت العمل مجدداً على حملته التي تهدف إلى حشد الدعم الديني الوطني الأساسي. ولا تزال الجدوى طويلة الأمد لاستراتيجية حزبه وقطاعه، أكثر من أي وقتٍ مضى، سؤالاً مطروحاً. هل سيواصل القطاع الديني الوطني مسيرته نحو الإتجاه السائد الإسرائيلي، أم أنه سيعزز أصوله الفكرية والثقافية؟ سيكون لإجابات هذه الأسئلة تأثير كبير على المجتمع والسياسة الإسرائيلية.