وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

قضية محكمة نيويورك تُورط الحكومة التركية بانتهاك العقوبات وغسيل الأموال

 رضا ضراب
مشهد من قاعة المحكمة يُظهر تاجر الذهب التركي الإيراني، رضا ضراب، أثناء شهادته في المحكمة الاتحادية في نيويورك. Photo Flickr

لقرابة  ستة أسابيع، استحوذت إحدى القضايا في محاكم نيويورك على تغطية وسائل الإعلام التركية. ويبدو أن القصة التي تنطوي على مزاعم بالفساد، وتورط المليونير زوج إحدى نجمات البوب، وأنظمة التنصت على الإتصالات والعقوبات الدولية، أقرب ما تكون إلى سيناريو لأحد الأفلام من كونها من واقع الحياة. ولكن ما السبب الذي جعل مثل هذه القضية تُثير مثل هذه الضجة في تركيا، وما انعكاساتها على المستقبل؟

القضية

في 3 يناير 2018 وجدت المحكمة المصرفي التركي محمد هاكان عطا الله مذنباً بتهمة مساعدة إيران بالتهرب من العقوبات، وفقاً لما نص عليه القانون الأمريكي للتقليل من التهديد الإيراني وقانون سوريا لحقوق الإنسان عام 2012. وتضمنت لائحة الاتهام التهرب من العقوبات، والاحتيال المصرفي، وعرقلة إجراءات وزارة الخزانة الأمريكية. وفي نوفمبر 2017، أقرّ تاجر الذهب، رضا ضراب، الذي يزعم أنه زعيم المخطط التركي، بالذنب في عدة قضايا أصغر حجماً، واختار التعاون مع المدعين العامين.

فقد كان كلا الرجلان محور المخطط الذي يورط الحكومة التركية وثاني أكبر مصرف مملوك للدولة في تركيا، بنك خلق، حيث كان عطا الله يشغل منصب نائب المدير العام.

كشفت شهادة عطاالله عن تفاصيل أعماله بين عامي 2012 و2016 في تركيا ودبي، كما كشف النقاب عن مؤامرةٍ بين البنك المركزي الإيراني ووزارة النفط الإيرانية ووزير الاقتصاد التركي السابق محمد ظافر شاغليان، والرئيس التنفيذي السابق لبنك خلق، سليمان أصلان.

وتُشير الدلائل إلى أن شاغليان وأصلان وفرا لإيران إمكانية الوصول إلى مليارات الدولارات من مدفوعات النفط المجمدة بسبب العقوبات الأمريكية، حيث حولت العملية التركية الأموال إلى ذهب والذي تم تهريبه إلى دبي في حقائب.

خلاصة القول هي أن ضراب اعترف أنه ساعد في تحويل “بضعة مليارات من اليورو” من حسابات بنك خلق إلى إيران. في الواقع، قد يكون ضراب ساعد إيران في الحصول على ما يصل إلى 100 مليار دولار، مما يجعلها أحد أكبر محاولات التهرب من العقوبات الدولية في التاريخ الحديث. كما اعترف ضراب أيضاً، الذي اعتقله مسؤولون أمريكيون أثناء قضائه عطلةً في ديزني لاند عام 2016، بأنه جنى ما يتراوح بين 100-150 مليون دولار من المخطط.

الفساد

كانت شهادة ضراب محرجةً للغاية للحكومة التركية، وذلك بفضل الادعاءات المتكررة بالفساد داخل حزب العدالة والتنمية الحاكم، كما كانت مؤلمةً بشكلٍ خاص للرئيس رجب طيب أردوغان، إذ صبت أدلته الزيت على الاتهامات طويلة الأمد بالفساد داخل الحكومة.

وترتبط فضيحة الفساد الأخيرة بفضيحةٍ سابقة في عام 2013، عندما قامت السلطات التركية بالتحقيق مع ضراب، وصهر أردوغان ورئيس الوزراء الحالي بن علي يلدريم، في تحقيقٍ تم ربطه في ذلك الحين بالشرطة والمدعين العامين الذين لهم صلات برجل الدين التركي المنفي فتح الله غولن. فقد شهد التحقيق الذي أجري في عام 2013، والذي تمكن أردوغان من إلغائه، بداية الصراع المفتوح بين مؤيدي حزب العدالة والتنمية ومؤيدي غولن.

وادعى ضراب أيضاً أن شاغليان، وزير الاقتصاد آنذاك، قبل رشاوى تتجاوز قيمتها الـ37 مليون دولار سنوياً للسماح له بتطوير اتفاق غسيل الأموال مع إيران. ومن الجدير بالذكر أن ضراب شهد أن أردوغان نفسه وجه المصارف التركية في عام 2012 للمشاركة في مخطط غسيل الأموال.

ومن جهةٍ أخرى، لطالما كان أردوغان من أشد المنتقدين لنظام الرئيس السوري بشار الأسد، إلا أنه من خلال ضراب وعطا الله، كان وزراؤه يساعدون بشكلٍ غير مباشر في تمويل دعم إيران لدمشق.

ومع ذلك، يبدو أن الاعتبارات المحلية، عوضاً عن الجشع المالي، بالرغم من لعبه بالتأكيد دوراً ما، ما حفز هذه الصفقة السرية. فقد ساعدت تجارة الذهب هذه في تعزيز أرقام صادرات تركيا الضعيفة في الوقت الذي كانت فيه هذه الأرقام مضرّةً بفرص إعادة إنتخاب أردوغان.

وبالرغم من كون شهادة ضراب قد آلمت بالتأكيد البعض في أنقرة، إلا أنه يبدو أن هذه الإقرارات لم تفعل شيئاً يذكر لهز أسس الحكومة التركية الحالية، ويبدو أن قبضة أردوغان على السلطة لا تزال في مأمن.

الإدعاءات

عندما تم احتجاز ضراب وعطا الله في الولايات المتحدة، اتخذت الحكومة التركية إجراءاتٍ سريعة لمحاولة الحدّ من الأضرار التي يمكن أن تسببها القضية، وذلك أولاً من خلال الدفع لكبار المسؤولين الأمريكيين السابقين للضغط بالنيابة عنهم، ليدعوا بعدها أن القضية كانت مؤامرةً مناهضة لتركيا وبالتالي فتحت الحكومة التركية تحقيقاتها الخاصة حول اثنين من المدعين العامين الأميركيين المشرفين على القضية، لتحديد ما إذا كان قد تم الحصول على الأدلة بشكلٍ غير قانوني. وبعد أن اتضح أن ضراب قد يتعاون مع المحققين الأمريكيين، وصفه وزير خارجية تركيا بـ”الرهينة” الذي أجبر على الإدلاء بشهادته ضد الحكومة التركية.

كما ضغط أردوغان شخصياً على الحكومة الأمريكية لإطلاق سراح ضراب وربط القضية بالانقلاب الفاشل الذي وقع في عام 2016 ضده، مدعياً أن نفس القوى التي كانت تقف وراء الإنقلاب، الذي يتهم به أتباع غلولن- هي ذاتها تقف خلف قضية ضراب.

وبالإضافة إلى ذلك، ادعى أن القضية جزءٌ من جهود الولايات المتحدة للضغط على حكومته، بما في ذلك باعتبارها أداةً لابتزاز أنقرة للخضوع لسياسة الولايات المتحدة بشأن الأكراد في شمال سوريا، التي تصر تركيا على قمع آمالهم في قيام دولةٍ مستقلة. وقد أدى استخدام القضية لأدلةٍ من فضيحة الفساد السابقة في عام 2013 إلى إدعاء أردوغان مجدداً بأنها مجرد مؤامرةٍ ومكيدة مدعومة من قِبل غولن ضد رئاسته.

وعلى الرغم من أن ضراب كان مفضلاً لدى حزب العدالة والتنمية، وتزوج من إحدى أكبر نجوم البوب في تركيا، إلا أن فقدانه لهذه النعم كان سريعاً. ففي أعقاب شهادته وتعاونه مع السلطات الأمريكية، صادرت أنقرة أمواله، وذلك ظاهرياً كجزءٍ من التحقيق ضد التاجر.

التداعيات الدولية

تأتي هذه القضية في خضم أسوأ تدهورٍ للعلاقات الأمريكية التركية على مدى عقود، ومن غير المحتمل أن تنتهى تداعياتها.

ونظراً للحكم الصادر بالإدانة، قد يكون فرض غرامةٍ أمريكية ضخمة على بنك خلق أو حتى عقوباتٍ تحظر عليه التداول بالدولار أمراً وارداً بشدة. فقد تم على سبيل المثال فرض غرامةٍ على بنك فرنسي رائد بقيمة 8,9 مليار دولار لمخالفاتٍ أقل وطأة تتعلق بانتهاك العقوبات المفروضة على كوبا والسودان وإيران.

وفي أكتوبر 2017، علقت واشنطن تقديم خدمات التأشيرات في تركيا، بعد أن حاولت السلطات التركية اعتقال اثنين من موظفي سفارتها. ردت أنقرة بذات الإجراءات، مما أدى الى جمودٍ دام ثلاثة أشهر قبل أن تتلقى الولايات المتحدة تأكيداتٍ بأن موظفيها لن يكونوا عُرضةً للخطر من قِبل السلطات التركية.

فالليرة التركية تعاني منذ أشهر، ومن المرجح أن تضر هذه الفضيحة، التي ورطت المصارف التركية في عملية غسيل أموالٍ دولية، بصحة الاقتصاد التركي. وبإدراكنا لهذا دون أدنى شك، ستتجه جميع الأنظار إلى واشنطن لنرى كيف سيكون رد فعلها. ومع تنامي عدوانية الخطاب التركي ضد دعم الولايات المتحدة الأمريكية للجماعات الكردية في شمال سوريا، سيكون للعقاب الأمريكي على هذه التجاوزات المالية القدرة على التأثير على المزيد من الأسواق في الشرق الأوسط.