وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

مقتل قاسم سليماني والتصعيد الخطير في سياسة الاغتيال الأمريكية

Qassem Soleimani
قائد قوات القدس التابعة للحرس الثوري الإيراني الجنرال قاسم سليماني أثناء حضوره للاحتفالات التي أقيمت بمناسبة مرور ٣٧ عاماً على انطلاق الثورة الإسلامية وذلك يوم ١١ فبراير ٢٠١٦ بالعاصمة الإيرانية طهران. المصدر: STR / AFP.

نشر موقع “The Conversation” مقالةً للوكا ترنتا، المحاضر في العلاقات الدولية بجامعة سوانزي، تناول فيها العلاقة بين الضربة الأخيرة التي أودت بحياة قاسم سليماني وتاريخ سياسة الاغتيال الأمريكية بين الحظر القانوني والممارسة الفعلية ابتداءً من عهد رونالد ريغان ووصولاً إلى عهد باراك أوباما. ويعمل ترنتا في مقالته على توضيح أن الضربة الأخيرة تمثل سابقةً من نوعها وستترتب عليها تبعات.

وكانت الساعات الأولى من يوم ٣ يناير الماضي قد شهدت شن الحكومة الأمريكية غارة جوّية أسفرت عن مقتل الجنرال الإيراني قاسم سليماني، قائد فيلق القدس الذي يعد بمثابة جناح النخبة في قوات الحرس الثوري الإيرانية.

ويعد هذا الاستهداف بمثابة التطور الأخير والأكثر إثارةً في حربٍ ما تزال رحاها تدور بالوكالة بين الولايات المتحدة وإيران وجرت العديد من جولاتها على أرض العراق، لا سيما الهجوم الأخير الذي تم شنّه على مبنى السفارة الأمريكية في هذا البلد. وألقت إدارة ترامب باللوم في هذا الهجوم على إيران. إلا أن السلطات الإيرانية ممثلةً بوزير خارجيتها جواد ظريف وجهت أصابع الاتهام نحو الولايات المتحدة بممارسة نوع من “الإرهاب الدولي” عبر قتلها لسليماني، الأمر الذي تم وصفه بـ “التصعيد شديد الخطورة والغباء”.

ويبدو أنه الوقت ما زال مبكراً للغاية للحديث عن عواقب العملية الأمريكية الأخيرة، إلا أن مقتل الجنرال الإيراني يُعد علامةً واضحة على وجود تصعيدٍ في سياسة الاغتيال والاستهداف الأمريكية. كما أن هذا العمل يُعد سابقةً خطيرة على مستوى السياسة الدولية.

وبرّرت وزارة الدفاع الأمريكية الغارة المسيّرة في بيان لها أوضحت فيه أن سليماني “كان يخطط لمهاجمة الدبلوماسيين والموظفين الأمريكيين في العراق والمنطقة”. وأكدت الوزارة على تصنيف الحكومة الأمريكية لفيلق القدس كمنظمة إرهابية أجنبية، مشدّدة في الوقت نفسه على أن الهدف من الهجوم تمثل في حماية الأفراد الأمريكيين في الخارج، ناهيك عن ردع احتمال شن أي هجماتٍ مستقبلية.

لكن من المعروف أيضاً أن سليماني مسؤول رسمي أجنبي، كما أنه لا يوجد دليل على كونه يمثل تهديداً وشيكاً على المواطنين الأمريكيين. ولم يُدْل أحدٌ بتفاصيل عن مصدر هذا القلق. وبحسب ترنتا، فقد جرت العادة على اعتبار هاتين النقطتين – أي نوعية الهدف المقتول وطبيعة التهديد – بمثابة العاملين الفاصلين في أي قرارٍ تتخذه الحكومة الأمريكية للقيام بعملية استهدافٍ بالقتل أو لشن أية ضربات استباقية.

تبرير الهجمات: من ريغان إلى أوباما

حظر قرارٌ تنفيذي صدر في منتصف سبعينيات القرن الماضي الوكالات التابعة للحكومة الأمريكية من الضلوع بأي عمليات اغتيال. وعلى الرغم من الالتزام بقرار حظر الاغتيالات هذا، إلا أن إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق رونالد ريغان عملت على خلق المساحة القانونية والسياسية التي تحتاج إليها للتعامل مع من وصفهم في مقالته ترنتا بالإرهابيين عندما ترى واشنطن ضرورة القيام بذلك. في ذلك الوقت، كانت الآراء القانونية لوكالة الاستخبارات المركزية والبنتاغون ترى أن استخدام القوة في مواجهة الإرهاب أمرٌ مختلف بالكامل، ولذلك فهو يخرج من دائرة قرار حظر الاغتيال.

العنصر الأساسي في تبرير إدارة ريغان، والذي تمت صياغته بوضوح في قرار الأمن القومي التوجيهي رقم ١٣٨، يتمثل أن كون هذه الإجراءات استباقية وأنه يجري اتخاذها في حال الدفاع عن النفس ضد الأهداف التي تشكل تهديداً وشيكاً على الأفراد والمصالح الأمريكية.

Qasem Soleimani
مشيعون يحملون كفن القيادي العسكري الإيراني قاسم سليماني باتجاه ضريح الإمام علي في مدينة النجف المقدّسة وسط العراق أثناء الترتيب لمراسم الجنازة يوم ٤ يناير ٢٠٢٠. وهتف آلاف العراقيون “الموت لأمريكا” اليوم أثناء تشييعهم لمقتل أبو مهدي المهندس وسليماني اللذان قتلا في هجومٍ أمريكي تم شنه بطيارة مسيّرة أشعلت فتيل حربٍ إقليمية بالوكالة بين واشنطن وطهران. المصدر: Haidar HAMDANI / AFP.

وفي سابقةٍ مهمة وقعت قبل مقتل سليماني، رأى بعض أعضاء إدارة ريغان أن الاستهداف لا يقتصر فقط على الإرهابيين بل يضم قادة الدول الداعمة للإرهاب. وعلى هذا الأساس، ورغم استمرار بعض الخلافات، فإن هناك دلائل أولية وثانوية عديدة تؤكد محاولة إدارة ريغان اغتيال الزعيم الليبي معمّر القذافي في غارة جوية تم توجيهها لمنزله ولمقر حكمه في عام 1986. بيد أن القذافي نجا من الضربة التي ينكر أعضاءٌ من إدارة ريغان أنه كان هدفها الصريح، لافتين إلى أن الهدف المرجو من تلك الضربة كان الردع، وهو نفس الهدف الذي دفع إدارة ترامب للقيام بضربتها الأخيرة بحسب ترنتا.

وبعد كارثة الحادي عشر من سبتمبر، فقد باتت سياسة مكافحة الإرهاب الأمريكية تقوم على استهداف الإرهابيين والمشتبه بضلوعهم في أعمالٍ إرهابية. إلا أن ارتفاع عدد الهجمات من الطائرات المسيّرة بشكل ملحوظ كان خلال فترة باراك أوباما الرئاسية الأولى على وجه التحديد.

أما في ولايته الثانية، فقد قام أوباما بمجهود متأخر وغير مقنع إلى حدٍّ ما لتتماشى سياسة مكافحة الإرهاب الأمريكية مع المعايير القانونية الدولية لاستخدام القوة في الدفاع عن النفس. واستند هذا المجهود على الحجة القائلة بأن الإرهابيين المستهدفين يشكلون تهديداً وشيكاً على الولايات المتحدة، لكن إدارة أوباما تبنت معايير فضفاضة لتحديد مفهوم متى يكون التهديد وشيكاً. ووضع هذا التبرير القانوني سابقة دولية جعلت دولاً أخرى (مثل تركيا وباكستان) تسعد باتباعها.

إلا أن ضربة الطائرة المسيرة التي قتلت سليماني ذهبت إلى أبعد من حدود السياسة الأمريكية المعاصرة ويبدو أنها صرّحت بما ظل مضمراً في سنوات إدارة ريغان. فالممارسة الأمريكية أكدت على عدم تفعيل قرار حظر الاغتيالات على الجهات الفاعلة الإرهابية من غير الدول التي تشكّل تهديداً وشيكاً. وسليماني كان مسؤولاً في حربٍ غير معلنة بالوكالة بين الولايات المتحدة وإيران. ولأنها لم تكن حرباً معلنة، فهذا يجعل من سليماني هدفاً مشروعاً (حاله في ذلك حال الجنرال ياماموتو الذي تم استهدافه واغتياله خلال الحرب العالمية الثانية). وعلى الرغم من تمتّع سليماني بمنصبٍ عسكري، فإنه كان مسؤولاً رسمياً أجنبياً، ولهذا الأمر يبدو أن اغتياله يقع ضمن حدود قرار الحظر، أو أنه يتحدى الحظر بصراحة على أقل تقدير.

سياسة ترامب

يقدم التبرير الذي نشرته وزارة الدفاع تفاصيل للأعمال السابقة لسليماني، إذ ذُكر فيه أنه: “نسّق الهجمات على قواعد التحالف في العراق خلال الشهور الماضية – بما في ذلك هجوم 27 ديسمبر – والتي تسببت في مقتل وإصابة العديد من الأفراد الأمريكيين والعراقيين. كما وافق الجنرال سليماني على الهجوم على السفارة الأمريكية في بغداد”.

إلا أنه ليس هناك ثمة دليل تفصيلي عن التهديد الوشيك الذي شكّله سليماني. وقد تبدو هذه نقطة بسيطة، لكنها محورية في التبرير القانوني للضربة الجوية. فجميع الدلائل تشير إلى أنه لم يُقتل لأنه شكّل تهديداً وشيكاً، بل كان رداً على الأحداث الأخيرة وردعاً لأي هجمات محتملة في المستقبل.

وبالفعل، ذكرت آنيس كالامار، المقرِّرة الخاصة المعنية بحالات الإعدام خارج نطاق القضاء في الأمم المتحدة، أن الولايات المتحدة ربما تكون قد تصرفت بشكل غير قانوني في هذه الحالة.

ويختتم ترنتا مقالته بالتالي: “ترفض إدارة ترامب حتى هذه اللحظة شرح وتبرير سياستها في الاستهداف بالقتل، إلا أن هذه العملية الأخيرة تقوّض أهم القواعد الدولية والأمريكية المطبقة على مستوى كبح عمليات الاغتيال، بل إنها تضع سوابق دولية أخطر في عمليات الاستهداف بالقتل”.

“الآراء الواردة في هذه المقالة تعبّر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر فنك”.