وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

الانتخابات القطرية: مسألة هوية أكثر من مسألة ديمقراطية

الانتخابات القطرية
يسجل المرشحون القطريون أسماءهم لخوض الانتخابات المقبلة في البلاد كأعضاء في اللجنة الاستشارية العليا، المعروفة باسم مجلس الشورى، في العاصمة الدوحة، في 22 أغسطس 2021. المصدر: AFP.

لا يبدو اللغط الذي أثاره القانون الانتخابي في قطر بعد الإعلان عن إقامة انتخابات مجلس الشورى في مطلع أكتوبر ٢٠٢١ متركزاً كما في ظاهره حول استحقاقٍ ديمقراطي قد يفتح الباب للتاثير في شكل الحكم وتفاصيله في البلاد. إلا أنه صراع هويةٍ واضح المعالم في بلدٍ بنيته السكانية لا تحتمل الانقسام أصلاً، سيّما وأن مواطنيه لا يشكلون سوى 10% من عدد سكانه.

هذا الإشكال الهوياتي ولد نتيجة رفض فئة قطرية تقسيمَ الديمغرافية السكانية إلى مستويات، فيها القطري والأكثر قطرية والقطري الخالص، وهو ما لا يرتبط فقط بالقانون الانتخابي. إلا أن هذا القانون وجّه الأنظار نحو الإشكال الدستوري (دستور 2004) الذي صنّف القطريين وخلق مصطلح القطري الأصلي الذي تُرِك تعريفه لرأس السلطة التنفيذية “الأمير”. ويبدو أن هذا الأخير قد رأى في المصطلح مرونة قابلة لاستيعاب أكبر قدر من البراغماتية السياسية، ليكون القطري غير الأصلي هو تلك الجماعات التي كان مشكوكاً بانتمائها الخالص للسلطة، أو التي يتضمن تاريخها ثغرات في العلاقة مع الأسرة الحاكمة، بالتالي تصبح ناقصة الحقوق المدنية، ومبتورة اليد عند فتح الصناديق وإعلان الانتخابات.

القانون الانتخابي الذي أُعلِن مؤخراً يحدّد صفات الناخب والمرشّح، لنجد ثلاث فئات وفق ما يظهر: فئة يحق لها الترشح والتصويت وهم “القطريون الأصليون” الذين تم تعريفهم بأنهم من كانت عائلاتهم موجودة في قطر قبل 1930، وفئة يحقّ لها التصويت دون الترشّح وهم القطريون المجنَّسون الذين ولد أجدادهم في قطر، وفئة لا يمكنها لا الترشح ولا التصويت وهم المواطنون المجنسون العاديون (لم يولد أجدادهم في قطر).

هذه التقسيمات وما تأخذه من بعد هوياتي وقبلي، جعلت أكثر من فئة من القطريين تشعر بالاستياء، خاصة وأنّ الإعلان عن الانتخابات جاء بصيغة بدء الانفتاح الديمقراطي والخوض في نقلة سياسية ستشهدها البلاد وفق القائمين عليها. ويعني هذا فيما يعنيه عدم منح فئة كبيرة من القطريين من المشاركة في هذه النقلة، خاصة أولئك الذين ينتمون لقبائل قطرية سكنت البلاد قبل إعلانها كدولة سنة 1971، والذين لم يمنحهم القانون حقّهم بالترشح وحال دون منح جزء منهم حقّه في التصويت أيضاً. ويأتي في مقدمة هؤلاء قبيلة آل مُرّة التي اعترض أفرادٌ منها على القانون، واتهموه بأنّه يعزّز التفرقة في قطر. هذا الأمر دفع الجهات الأمنية القطرية للتحرك وبدء حملة اعتقالات بتهمة “استخدام وسائل التواصل الاجتماعي في نشر أخبار غير صحيحة وإثارة النعرات العنصرية والقبلية” حيث وصل عدد من تمت إحالتهم إلى النائب العام إلى 7 أفراد.

اعتبر أفراد قبيلة آل مرّة، وهي قبيلةٌ تنتشر في مختلف بلدان منطقة الخليج وغالبية أفرادها موزعون بين قطر والسعودية، أنّ الأسرة الحاكمة تنتقص من انتمائهم الوطني إذ تعتبرهم غير أصليين، وهي بذلك من تثير النعرة القبلية والتفرقة بين أبناء البلد الواحد وليس المعترضون على القانون الانتخابي. ويبدو أن هذا الطرح منطقي الطابع، خاصة عندما نعرف أن لهذه القبيلة تاريخاً من الخلافات مع الأسرة الحاكمة، حيث وقف أفراد منها ضد انقلاب الذي قام به حمد بن خليفة آل ثاني (والد الأمير الحالي) عام 1995 والذي أخذ به السلطة من والده خليفة بن حمد آل ثاني، الوالد الذي حاول استرداد سلطته بعد عام من انقلاب ابنه عليه مستعيناً بأفراد من آل مرّة.

ولعب انتشار آل مرّة في بلدان أخرى وخاصة السعودية والإمارات دوراً في اتهامهم بالعمالة للخارج حينها، لتستمر الأسرة الحاكمة في الدوحة بالنظر لهذه القبيلة على أنها غير منتمية لقطر. وبلغ الأمر ذروته عام 2005 عندما تم تجريد الآلاف من أبناء آل مرّة من جنسيتهم القطرية، فيما تعرض الآلاف منهم للتهميش والحرمان من الحقوق في قطر، وهو ما نبّهت إليه منظمة “هيومان رايتس ووتش” في تقرير لها صدر سنة 2019.

وفي القطيعة الخليجية التي من المفترض أنها انتهت مؤخراً بعد الصلح السعودي القطري في قمة العلا مطلع عام ٢٠٢١، تم توجيه اتهامات لأفراد من القبيلة ذاتها بالتآمر ضد الأسرة القطرية الحاكمة وبتعاملهم مع الرياض خلال أعوام الأزمة الحادة بين البلدين.

الانتخابات القطرية
يسجل المرشحون القطريون أسماءهم لخوض الانتخابات المقبلة في البلاد كأعضاء في اللجنة الاستشارية العليا، المعروفة باسم مجلس الشورى ، في العاصمة الدوحة، في 22 أغسطس / آب 2021. AFP

يدرك المعترضون من آل مرّة وسواهم من آلاف المجنسين القطريين الذين لن يكون لديهم الحق بالترشح أو بالتصويت، أنّ ما يجري لا يحمل ملامح ديمقراطية حقيقة. ولا يكمن السبب فحسب في استبعداهم من التصويت وحصر الحق الانتخابي في فئات قليلة غالبيتها تنال رضا الأسرة الحاكمة، إنما في واقع أن المجلس ذاته محاصر دستورياً من ثلاث نواحٍ، أولها صلاحياته المحدودة، والمتمثلة بالموازنة والرقابة على السلطة التنفيذية، فيما القضايا السيادية المرتبطة بالسياسة الخارجية والأمن متركزة بيد رأس السلطة التنفيذية “الأمير” والحكومة المشكّلة من قبله، حتى أنّ رقابة مجلس الشورى على الحكومة رقابة منقوصة دستورياً إذا أمعنّا النظر فيها. وعلى الرغم من قدرة المجلس على “مساءلة الوزراء”، إلا أنه لا يستطيع إلا توجيه “توضيحات” لرئيس مجلس الوزراء.

كما تبلغ ذروة ضعف صلاحيات المجلس حين نقرأ المادة رقم 108 من الدستور القطري والتي تقول إن “لمجلس الشورى حقّ إبداء الرغبات للحكومة في المسائل العامة، وإن تعذّر على الحكومة الأخذ بهذه الرغبات وجب أن تبين للمجلس أسباب ذلك” وهو ما يعطي المجلس صفة أقل من استشارية. هو بذلك فقط مؤسسة “تبدي رغبات”، لكن لن يتم إهمال رغباتها تماماً، بمعنى أنّ الحكومة لن ترفض الرغبة دون أن تشرح سبب الرفض. ويعني هذا الأمر أن قوّة مجلس الشورى تتأتّى من عدم إهماله تماماً من قبل السلطة التنفيذية، كما أن أهليته في وضع القوانين مبتورة، سيّما وأنه يقدم المشورة للأمير بشأن مشاريع القوانين فقط.

الناحية الثانية هي المادة 104 من الدستور والتي تتيح للأمير أن يحلّ مجلس الشورى بمرسوم يبين فيه أسباب الحل. أما الناحية الثالثة فتكمن في أنّ الانتخابات لا تشمل سوى ثلثي الأعضاء، فيما يقوم الأمير بتعيين الثلث الأخير. ومن المفترض أن يكون هذا الثلث الضامن لوجود الأمير وسياسته ورؤيته وأسلوبه في المجلس، هذا بحال افترضنا أن الثلثين المنتخَبين لن يضمنا ذلك أصلاً، وهو مستبعد بالتأكيد طالما أن المرشحين والناخبين مرّوا بمرحلة فلترة قاسية ضمِنَها القانون الانتخابي.

لا يختلف المجلس التي تهمّ قطر في انتخاب ثلثيه عن مجالس مشابهة في دول جارة، بمعنى أنّ التجربة ليست فريدة بالتأكيد بل إنها قد تكون محاولة للّحاق بركب المحيط وخاصة الكويت، مع أن صلاحيات المجلس المنتخب في الكويت أكبر بكثير مما هي عليه في قطر. وفي هذا السياق، تلفت الدكتورة سينزيا بيانكو، وهي زميلة باحثة في المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، في تصريح لموقع DW الألماني إلى أنّ “انتخاب مجلس الشورى يأتي في سياق جيوسياسي أكثر من كونه دفعًا نحو الديمقراطية، فالبحرين وسلطنة عُمان لديهما هيئات استشارية مماثلة، وحتى الكويت لديها مجلس منتخب بالكامل. لذلك يمكن أن أقول إن قطر تلاحق الجيران من ناحية. ومن ناحية أخرى، يمكن اعتبار ذلك بمثابة تنمية عضوية الحياة السياسية المؤسسية في قطر.. هناك فرصة جيدة أن يثري المجلس الحوار بشأن القضايا الاقتصادية والاجتماعية، لكن جميع القطاعات السياسية الرئيسية، مثل السياسة الخارجية والدفاع والأمن وسياسة الاستثمار مستبعدة”.

منذ المصادقة على دستور قطر الجديد 2004، كان المفترض أن تتم انتخابات لمجلس الشورى، وهو ما تم تأجيله مراراً. وبعد ذلك، صدر قرار أميري بأن تكون الانتخابات في عام 2019، وهو ما لم يحدث. أما اليوم، فقد حان وقت عقد هذه الانتخابات قبل أقل من 450 يوماً من افتتاح مونديال 2022 على الأراضي القطرية التي ينقصها بلا شك ملمح ديمقراطي، وصورة سياسية اجتماعية “مودرن” أمام وفود من مختلف بلدان العالم سوف تقيم في قطر قرابة شهر.

لاعبون وسياسيون واقتصاديون وسياح ومستثمرون من مختلف الجنسيات سيحضرون. لذا، من الأفضل أن يزور هؤلاء قطر جديدة، فيها صناديق اقتراع توافد إليها المواطنون كأي بلد عادي فيه برلمان وحالة من فصل السلطات. أما العملية الانتخابية وصلاحيات المجلس المنتخَب، فهي تفاصيل ستغيب أمام العنوان البرّاق للديمقراطية في بلد خليجي، تمنَعُ فيه الأحزاب السياسية، وتقوده هيئات سياسية واقتصادية معيّنة من قبل أفراد قلّة يرسمون السياسة العامة للدولة ككل.