وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

تدخّل أمريكي لدفع قطار التطبيع المتعثّر مع إسرائيل

التطبيع، كما يراه البعض، محاولة إلغاء جذري وشامل ومنهجي ومخطط للأمة العربية وتاريخها وثقافتها وقيمها الأخلاقية والدينية ومقاومتها، وشخصيتها القومية.

قطار التطبيع المتعثّر
صورة تم التقاطها يوم 15 سبتمبر 2020 لأعلام الولايات المتحدة وإسرائيل والإمارات والبحرين أثناء عرضها على أسوار مدينة القدس القديمة، وذلك دعماً لاتفاقيات التطبيع التي تم توقيعها مع الإمارات والبحرين. المصدر: Menahem KAHANA / AFP.

خالد محمود

بينما يتعثر مجددا قطار التطبيع العربي الإسرائيلي ويكاد يخرج عن الطريق المرسوم إليه، تدخل واشنطن مجددا لتعيد الأمور إلى نصابها.

وبعودة بنيامين نتنياهو إلى السلطة في تل أبيب، تتسع الفجوة بين الموقفين الرسمي والشعبي في الدول العربية حيال التطبيع. وبطبيعة الحال، فإنّ الحكومة الإسرائيلية الجديدة وممارساتها ستحمل المزيد من الآثار السلبية على عملية السلام المجمدة بين إسرائيل وفلسطين المحتلة. كما أن تطرّف هذه الحكومة يضائل من احتمالات انضمام المزيد من الدول العربية إلى مسار السلام.

توسيع الدائرة

في الاجتماع الأول للحكومة الإسرائيلية السابعة والثلاثين، حدّد نتنياهو لوزرائه رابع أهداف هذه الحكومة والمتمثل بـ “توسيع دائرة السلام بشكل كبير”. ويشير هذا الهدف إلى رغبة رئيس الوزراء الإسرائيلي في استمرار قطار التطبيع العربي الإسرائيلي.

نتنياهو، الذي شكّل حكومته السادسة مؤخراً، اعتبر أن هذا الهدف “في متناول اليد”، وكأن المسألة محسومة فعلياً. وفي ظهوره الأخير عبر الفيديو أمام قادة ونشطاء إيباك، أرجع رئيس الوزراء الإسرائيلي تفاؤله إلى أن “القادة العرب غيروا وجهات نظرهم تجاه إسرائيل ويروننا الآن شركاء وليسوا أعداء”.

ويعتقد البعض أن نتنياهو يميل إلى مساعدة القادة العرب في تحسين علاقاتهم مع الولايات المتحدة مقابل المضي قدماً في التطبيع مع هؤلاء القادة ودولهم. والآن، يدور السؤال الأهم حول قدرته على كسب ود واشنطن، سيّما وأن إدارة الرئيس الأمريكي الحالي جو بايدن اعتبرت أنه لا يتعاون بشأن القضية الفلسطينية.

لكن نتنياهو يضع عينيه على السعودية، تحديدا بعد عودته لرئاسة الحكومة الإسرائيلية. وفي مقابلة أجراها مع قناة العربية السعودية، اعتبر أنّ السلام مع الرياض “سيخدم هدفين: فهو سيشكل نقلة نوعية إلى سلام شامل بين إسرائيل والعالم العربي، وسيغير منطقتنا بطرق لا يمكن تصورها”.

ومن باب الزعم بأن هذا التطبيع “سيُسهّل السلام بين فلسطين وإسرائيل”، يقدم نتنياهو رؤية واضحة تضع رسمنة العلاقات مع الدول العربية غير المطبعة قبل مسار السلام في المنطقة.

في المقابل، أظهر استطلاعا أجراه معهد واشنطن أنّ أقلية من الناس ينظرون بإيجابية إلى “اتفاقيات إبراهيم”. وبحسب الاستطلاع، فإنّ ما يزيد عن ثلثَي مواطني البحرين والسعودية والإمارات ينظرون بشكل غير إيجابي للاتفاقيات التي أبرمتها إسرائيل مع بعض دول الخليج برعاية أمريكية.

ومع ذلك، يعتقد مسؤول أمريكي أن بعض الخطوات التي ستقوم بها إسرائيل، ستحدّد إذا كانت ستصعّب ضمّ دول جديدة إلى مسار التطبيع أم لا.

وفي إطار المساعي الرامية لدعم قطار التطبيع، فقد نظّمت واشنطن اجتماعا ضمّ إسرائيل والدول العربية المطبّعة معها مطلع العام الجاري. ويأتي ذلك في إطار مساعي واشنطن لحضّ حكومة نتنياهو اليمينية على ضبط النفس.

وطبقا لما أعلنه وزير الخارجية الأمريكي أنطوني بلينكن، فقد ناقش كبار المسؤولين من حكومات البحرين ومصر وإسرائيل والمغرب والإمارات والولايات المتحدة فرص تعزيز “المبادرات التي تشجع التكامل الإقليمي والتعاون والتنمية لصالح شعوبهم والمنطقة الأوسع”. وجاءت تصريحات بلينكن على هامش الاجتماع الافتتاحي لمجموعات عمل منتدى النقب الذي استضافته الإمارات مؤخرا.

وتدّعي الولايات المتحدة أنّ هذه المبادرات ستساهم في تعزيز الاقتصاد الفلسطيني وتحسين نوعية حياة الشعب الفلسطيني. وتستند واشنطن في رؤيتها تلك على إقرار منتدى النقب بإمكانية بناء شبكات تعاون تعزّز المصالح المشتركة والاستقرار الإقليمي والازدهار في الشرق الأوسط.

وترى واشنطن أن الاستقرار الإقليمي الجديد سيخلق زخماً في العلاقات الإسرائيلية الفلسطينية. وبحسب تلك الرؤية الأمريكية، فإنّ هذا الأمر سيقود إلى حلٍّ تفاوضي للصراع الإسرائيلي الفلسطيني، وذلك في إطار الجهود الرامية لتحقيق سلام عادل ودائم وشامل.

لكن هذه الآمال العريضة والأحلام الوردية تصطدم بحقيقة لا يمكن إنكارها، وهي أن نتنياهو يتولى السلطة على رأس أكثر الحكومات يمينية في تاريخ إسرائيل. وتشمل هذه الحكومة شخصيات متطرفة تدعم بقوة توسيع المستوطنات في الأراضي الفلسطينية المحتلة.

المونديال

بعد عامين من إقامة دول خليجية عربية علاقات مع إسرائيل، تمكنت تل أبيب من لمس مشاعر الشعوب العربية المناوئة لها بشكلٍ مباشر. بالرغم من جهود التطبيع المبذولة رسميا مع مختلف الدول العربية، أدركت إسرائيل أنها ما زالت بعيدة عن أن تكون محلّ ترحيب.

وفي مقابل الهرولة الرسمية العربية للتطبيع، يبدو الواقع معارضاً لمساعي الحكومات بحسب استطلاعات الرأي. وكشف مونديال قطر أيضاً عن مشاكل واضحة في تطبيع العلاقات العربية الإسرائيلية. ويمكن القول إن ما جرى على هامش استضافة قطر لكأس العالم كشف بما لا يدع مجالا للشك عن تحديات كبيرة تواجه طموحات ما وصفه بعض المحللين بـ “السلام الدافئ على نطاق أوسع”.

وروى صحفيون إسرائيليون معاناتهم خلال المونديال الكروي. وتركت تجربة المونديال لدى بعض الصحفيين الإسرائيليين انطباعاً بأنّ “الكراهية والاستياء” لا يتعلق فقط بالاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية، بل بوجود إسرائيل ذاته.

في قطر، أعادت إسرائيل عبر إعلامها اكتشاف العرب مجددا وأنها لا تزال غريبة عنهم. كما أتاح المونديال فرصة للتعبير الشعبي العربي للمرة الأولى عن رفض إسرائيل.

ووضع المونديال الإسرائيليين أمام المرآة. وتهاوت السردية التي جرى تسويقها على مدى عامين، عبر الزعم بأن اتفاقات التطبيع قد أسست لفك ارتباط الشعوب العربية بفلسطين وقضيتها. وانبرى معلقون إسرائيليون لانتقاد الفشل في “تسويق الرواية الصهيونية والإسرائيلية بشكل صحيح للفضاء الشعبي العربي المحيط بإسرائيل”. أما البعض الآخر فخلص إلى أنّ القضية الفلسطينية لا زالت، رغم كلّ شيء، في سلم أولويات الشعوب لا الحكومات.

الرهان الشعبي

يشير “التخلي الرسمي العربي” عن القضية الفلسطينية إلى أنّ الاعتماد بات كليًا الآن على الشعب الفلسطيني وصلابة إرادته في المقاومة. كما أنّ هذا التخلّي يصطدم برفض الشعوب العربية وإفشالها لكافة أشكال التطبيع مع إسرائيل. وبطبيعة الحال، فإنّ هذا الاختلاف يزيد من عمق الهوّة الفاصلة بين الشعوب العربية وأنظمتها الحاكمة.

الحملة الدبلوماسية الرامية لتحفيز مطبّعين جدد من العالم العربي تستهدف دولاً تعتمد سياساتٍ براغماتية. هذه الحملة لا تستهدف تلك الدول التي تستند إلى سياساتٍ متأثرة بالرأي العام.

ويعتقد مصطفى كامل السيد، أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة، أنّ المحصلة النهائية لخطوات التطبيع هذه هي استمرار التوتر بين إسرائيل والفلسطينيين والسوريين واللبنانيين. ويعود السبب في ذلك، وفقاً للسيّد، إلى “إصرار إسرائيل على الاحتفاظ بأراض فلسطينية وسورية تحت احتلالها ومواصلة تهديدها بآلتها الحربية لهم”. كما أنّ استمرار التوتّر يرتبط بإهدار الدول العربية المطبّعة لما صادق عليه حكامها من مواثيق وقرارات تتعلق بدعم القضية الفلسطينية.

وهناك من يرى أن التطبيع العربي الإسرائيلي الأخير، الذي يتواكب مع انهيار عربي شامل وضعف فلسطيني غير مسبوق، يتجاوز القضية الفلسطينية إلى رسم خريطة نفوذ جديدة في المنطقة كلها.

وبحسب تحليل صادر عن معهد واشنطن، فإن موجة التطبيع الراهنة تتعارض مع تنامي انعدام الدعم الشعبي لـ”اتفاقيات إبراهيم” في الخليج.

وتفترض الدول الخليجية أنّ إنشاء روابط مع إسرائيل سيساعدها على تحصين صلاتها الأمنية الخاصة بالولايات المتحدة. كما أن هذه الدول تظن أنّ إسرائيل ستغيّر من وضعها في بعض الأوساط في المؤسّسة السياسية والدبلوماسية الأمريكية، بما يكفل حصولها على معدّات وتكنولوجيا عسكرية متطوّرة.

في المقابل، ثمة جزم بأنّ عدم حل القضية الفلسطينية يشكّل عائقاً مهماً في الطريق نحو تحقيق السلام والتطبيع أمام أوساط المجتمع المدني في العالمين العربي والإسلامي.

ولهذا، فإنّ مساعي السلام فشلت في التغلب على عقود من الارتياب والعنف بين إسرائيل والفلسطينيين وحلفائهم العرب. ولم تعترف معظم الدول العربية بإسرائيل أو تقيم معها علاقات دبلوماسية واقتصادية رسمية بسبب ما تعتبره إحباطا لطموحات الفلسطينيين في إقامة دولتهم المستقلة.

وتخلص دراسة إلى أن التطبيع يشكل تهديدا حقيقيا على ثوابت الأمة العربية الإسلامية. فالشعوب الرافضة والمعارضة للتطبيع لا تستطيع إجبار حكوماتها على التخلي عن تطبيعها مع إسرائيل، لأنها لا تضع مطالب مواطنيها على سلم أولوياتها.

ورغم اعتقاد الأنظمة المطبعة للعلاقات مع إسرائيل أن التطبيع يساعدها في حماية أمنها، وتقريبها من واشنطن، تبقى العلاقة مع إسرائيل مدفوعة بحسابات الأنظمة وليس الشعوب.

وبات واضحا أنه لا علاقة للتطبيع بحلّ قضية فلسطين، وأنّ من قام بذلك فلأسبابٍ تخصّه، لا علاقة لها بتحقيق العدالة في فلسطين. كما أنّ إسرائيل فهمت التطبيع على أنه قبول لها بصهيونيتها وعنصريتها وسياستها الاستيطانية.

ومع ملاحظة استغلال إسرائيل ما يمكن وصفه بالاضطراب النفسي الذي يعيشه العرب وأزمة الثقة بالنفس، فإنّ رهان إسرائيل على التطبيع من دون أن تدفع مقابلا غير مطمئن.

وسقطت التمنيات الأممية بانبثاق سبل جديدة للتعاون من أجل دفع السلام الإسرائيلي-الفلسطيني عقب موجة التطبيع التي اشتعلت جذوته قبل نحو ثلاث سنوات.

والتطبيع، كما يراه البعض، محاولة إلغاء جذري وشامل ومنهجي ومخطط للأمة العربية وتاريخها وثقافتها وقيمها الأخلاقية والدينية ومقاومتها، وشخصيتها القومية. كما أنّه يحوّل هذه الأمة إلى كم من الأفراد يعيشون في آلية اقتصادية اجتماعية ثقافية جديدة. ويشير التطبيع إلى فرض الهيمنة “الصهيونية” على العرب، وإعلانهم الهزيمة الحضارية والانهيار القومي والانتحار الجماعي.

لكن ثمّة قناعة كشف عنها استطلاع للرأي برفض الغالبية العظمى من العرب (84٪) الموافقة على اعتراف بلدانهم الأصلية بإسرائيل. ويعود السبب الأساس في هذا الرفض إلى اعتبارات تتعلق بعنصرية إسرائيل تجاه الفلسطينيين وسياساتها الاستعمارية التوسعية.

هذا الموقف السلبي تجاه إسرائيل لا ينبغي أن يفاجئ أحد. فكلّ اتفاقيات السلام العربية الإسرائيلية تمّت مع النخب الحاكمة والرسمية وليس الشعوب التي لا تخضع للابتزاز أو المساومات ولا تعرف الإدارة الأمريكية، حتى الآن، مفتاح التعامل معها.