بعد قرابة العشرين عاماً، أعلن الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما، في 13 يناير 2017، قبل أيامٍ من نهاية ولايته الرئاسية، أنّ حكومة الولايات المتحدة سترفع العقوبات التجارية المفروضة على السودان. وبعد شهرين، أجرى السودان والمملكة العربية السعودية تمارين عسكرية للقوات الجوية السودانية والسعودية في قاعدة مروي الجوية، شمال السودان، وهي أول عملية من نوعها منذ قطع السودان العلاقات مع إيران في عام 2015.
يُذكر أن السودان كان واحداً من أكثر الدول عزلة وأكثرها عنفاً في افريقيا منذ تولي الرئيس عمر البشير السلطة في يونيو 1989. وفي السنوات الماضية، صدرت عشرات القرارات الأممية ضد السودان بما فيها قرار بتوجيه اتهامات بارتكاب جرائم ضد الإنسانية والإبادة الجماعية بواسطة المحكمة الجنائية الدولية للرئيس البشير وعدد من مساعديه الكبار والصغار بارتكاب جرائم حرب وإصدار مذكرة اعتقال بحقة في 4 مارس 2009.
ومع رفع العقوبات الأمريكية، سيكون السودان، لأول مرة منذ تسعينيات القرن الماضي، قادراً على التجارة مع الولايات المتحدة، مما يسمح له بشراء المعدات وقطع الغيار، التي تشتد الحاجة إليها، وجذب الاستثمارات إلى اقتصاده المنهار.
وفي المقابل، وافق السودان على التعاون في توصيل المساعدات الإنسانية للمناطق الواقعة تحت سيطرة المتمردين، والكف عن دعم المعارضة المسلحة في جنوب السودان، ووقف قصف مناطق المتمردين والتعاون مع عملاء المخابرات الأمريكية.
ضغوط امريكية متواصلة
بدأت العلاقات السودانية الأمريكية السودانية بالتوتر الحاد عقب عام واحد من تولى الرئيس البشير للسلطة أثر دعم الخرطوم للغزو العراقي للكويت في عام 1990. تواصل تدهور العلاقات بتبني الخرطوم سياسات داخلية وخارجية إسلامية راديكالية، كما اتهمت البلاد بتمويل الإرهاب الدولي. وفي منتصف التسعينيات، عاش زعيم تنظيم القاعدة السابق، أسامة بن لادن في العاصمة الخرطوم كضيفٍ من ضيوف الحكومة السودانية.
بدأت العقوبات الأمريكية على السودان بقرار من الرئيس جورج بوش الابن في نوفمبر 1997 فرض فيه مقاطعة مالية وتجارية على السودان وجمد الأصول السودانية في أمريكا ومنع تصدير التكنولوجيا للسودان وحظر على الشركات الامريكية الاستثمار في السودان. وفي عام 1998، قام عملاء بن لادن بتفجير السفارتين الامريكيتين فى كينيا وتنزانيا مما اسفر عن مصرع اكثر من 200 شخص. رداً على ذلك، قصفت القوات الامريكية مصنعا للأدوية في الخرطوم بأمر من الرئيس كلينتون في بزعم أنه يصنع أسلحة كيماوية.
وبعد هجمات 11 سبتمبر2011 على مركز التجارة العالمي في نيويورك، استشعرت الخرطوم مخاطر العداء لأمريكا ووقعت اتفاقاً للتعاون في مجال مكافحة الإرهاب. غير أن الإجراءات الأميركية تواصلت ضد الخرطوم، وصدر “قانون سلام السودان” عام 2002 الذي ربط العقوبات الأميركية بتقدم المفاوضات مع الحركة الشعبية لتحرير السودان. وفي عام 2006، وفرض الكونغرس عقوبات إضافية ضد “الأشخاص المسؤولين عن الإبادة الجماعية وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية،” التي بقيت تجدد سنوياً.
لمَ رفعت العقوبات الامريكية عن السودان
احتفت الحكومة السودانية بحفاوة بالغة بالقرار الأمريكي برفع العقوبات التجارية عنها، بالرغم من بقاء العقوبات الأمريكية السياسية والاقتصادية على حالها. كما أن القرار لم يشمل استبعاد السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب. ومع ذلك، اعتبرتها إدارة أوباما تفويضاً جديداً لها بصفحة جديدة في العلاقات الدولية.
فقد أشار مسؤولون أمريكيون إلى التطورات الإيجابية التي حدثت مؤخراً وتعاون السودان في محاربة الإرهاب، بما في ذلك سماح الحكومة السودانية لنشطاء أمريكيين بزيارة منطقة حدودية مقيدة بالقرب من ليبيا، فضلاً عن اتخاذ التدابير للحد من الهجرة غير الشرعية إلى أوروبا بالقبض أيضاً على متهمين دوليين بالاتجار بالبشر.
ورأت إدارة الرئيس أوباما منذ عام 2012، أن العقوبات “لم تعد تخدم المصالح الأميركية، وتمدّد الصين ماضٍ على حساب أمريكا” ومصالحها الإقليمية في القرن الأفريقي. وعبرت عن مخاوفها من اعتماد السودان الكامل على الصين، فقد دخلت الصين في الاستثمار النفطي في السودان في تسعينيات القرن الماضي، سيما عقب خروج شركة شيفرون الأميركية.ومع تحول 75% من الإنتاج النفطي إلى جنوب السودان بعد انفصاله عام 2011، يعكف السودان والصين حالياً إرساء سبلٍ جديدة للتعاون، بما في ذلك الاستثمار الزراعي والاستثمار في قطاع التعدين وإنتاج الطاقة.
يضاف إلى ذلك، إن الاضطرابات التي سادت عقب “الربيع العربي” في تونس ومصر وليبيا واليمن وسوريا ومن قبلهم في العراق، اضرت بالمصالح الاستراتيجية الامريكية في المنطقة وسمحت بانتشار وتوسع نفوذ الحركات الإرهابية الأصولية المتطرفة. فقد أدركت الولايات المتحدة أن سقوط النظام في الخرطوم قد يقود إلى فوضى وعدم استقرار في كامل منطقة شرق افريقيا، وأنه من الأفضل تطويع النظام في الخرطوم والتعامل معه عوضاً عن الضغط عليه.
ويرى مراقبون أن هناك أسباباً أخرى لرفع العقوبات، مثل محدودية جدوى سياسة العقوبات اجمالاً. ففي يناير2016، كانت الولايات المتحدة من ضمن أعضاء مجلس الأمن الدولي، الذين أجروا دراسة ومراجعةً لأنظمة العقوبات، فوجدوا أنّ تجربة فرض العقوبات على 16 دولة خلال العقدين المنصرمين، أثبت أن العقوبات كانت أداة قليلة الفعالية في تعزيز السلام والأمن الدوليين.
اختراق تاريخي
إن لتجدد العلاقات السودانية السعودية أهمية مماثلة، فقد تدهورت العلاقات السودانية السعودية لنفس أسباب تراجع العلاقات الامريكية- السودانية تقريباً: كان موقف السودان من حرب الخليج الأولى عام 1991 هو السبب المباشر ثم تلتها سياسات الحكومة السودانية الراديكالية واحتضانها للحركات الإسلامية المعتدلة والمتشددة المعادية السعودية، وتقارب العلاقات مع إيران، مما أصاب وتراً سعودياً غاية في الحساسية، والتي تضمنت افتتاح مراكز ثقافية إيرانية في السودان، فضلاً عن إرسال الطلاب السودانيين للدراسة في إيران.
وصل التردي في العلاقات بين البلدين، الذيّن يفصل بينهما البحر الأحمر، ذروته الدرامية في الرابع من أغسطس عام 2013 حين منعت السلطات السعودية، طائرة الرئيس البشير من عبور الأجواء السعودية في طريقه لإيران لحضور مراسم تنصيب الرئيس حسن روحاني.
فكيف تحولت هذه العلاقة الخشنة المضطربة بين البلدين، للتصالح والتفاهم والتعاون؟
تغيرات محلية وإقليمية
ثمة ظروف محلية وإقليمية متحولة كثيرة حتمت على الطرفين إعادة النظر في علاقاتهما وانتهاج سبيل مغاير. بالنسبة للخرطوم كانت المصاعب الاقتصادية المتفاقمة هي المحرك الأساسي للبحث عن مخارج جديدة. فالتبعات الاقتصادية للحصار الأمريكي الأوربي السعودي أكبر بكثير مما تحتملها مواردها المحدودة، خاصة بعد انقطاع موارد نفط الجنوب بانفصالها وإعلان دولتها المستقلة. وبعد الحرب الأهلية التي نشبت منذ عام 2015، توقف ما كانت تدفعه دولة الجنوب مقابل تصدير نفطها بالأراضي والموانئ السودانية. كما أن توتر العلاقات بالسعودية لم يحرم السودان من مساعداتها السخية فحسب، بل أغلق عليها أبواب منطقة الخليج بأكملها. وعلاوة على أن المصارف والنظام المصرفي السعودي كان قد أصبح الطريق الوحيد للتجارة الخارجية السودانية بعد امتناع البنوك الامريكية والأوربية من التعامل مع السودان خشية العقوبات الامريكية.
كما بدلت السعودية أولويات سياساتها الإقليمية إلى حدٍ كبير بانتقال عرش آل سعود للملك سلمان بن عبد العزيز في 23 يناير 2015. كما اتبع ولي ولي العهد، الشاب محمد بن سلمان، سياسة خارجية تقاطعت بوضوح مع سياسيات عمه الراحل الملك عبد الله بن عبد العزيز. وبعد الإصلاحات التي طرأت على الحرس الوطني السعودي، بدأت السعودية “عاصفة الحزم” في مارس 2015، بسلسلة من الهجمات الجوية على المتمردين الحوثيين في اليمن.
أدت مشاركة السودان في التدخل العسكري باليمن إلى تحسنٍ ملحوظ في العلاقة بين الرياض والخرطوم، التي وصل أول جنودها إلى عدن، وهي مدينة ساحلية في اليمن، في أكتوبر 2015.
تعززت العلاقات بشكلٍ أكبر منذ أن قطع السودان علاقاته بطهران. وانتهت القطيعة مع السعودية رسمياً بتوجيه دعوة للرئيس البشير لزيارة الرياض في 23 يناير 2017 ، بعد عشرة أيامٍ على رفع العقوبات الأمريكية، حيث التقى بالعاهل السعودي الملك سلمان وولي ولي العهد. وقتها أكد الطرف السوداني بامتنان أن السعودية لعبت دوراً فاعلاً في رفع العقوبات الامريكية عن السودان.
التعاون العسكري
اسهم تحسن العلاقات السياسية بين البلدين في تخفيف الضغوط السياسية والاقتصادية التي كانت تعاني منها الخرطوم، وبدأت بشائر استثمارات سعودية كبيرة في الاقتصاد السوداني إضافة لمساعدات مالية حكومية مباشرة مهمة، إضافة إلى تحسين علاقات أيضا بدول وإمارات الخليج الغنية.
لكن التعبير الاوضح عن هذه الأجواء يتصدره المشهد العسكري، فقد أجرت القوات الجوية السودانية ونظيرتها السعودية تمريناً عسكرياً مشتركاً في قاعدة مروي الجوية شمال السودان في الفترة ما بين 29 مارس إلى 14 أبريل 2017.
وذكرت مصادر من البلدين أن المناورات التى شملت المئات من أفراد القوات الجوية، تهدف إلى تطوير قدرات تخطيط وتنفيذ العمليات القتالية للمقاتلات الجوية وتبادل الخبرات ورفع الكفاءة والجاهزية القتالية.
شاركت القوات الجوية السودانية بأكثر من عشرين طائرة حربية، والتي شملت أسراب من طائرات ميج 29 ومقاتلات سوخوي 25. في حين نشرت السعودية مقاتلات F15، ومقاتلات تايفون FGR4.
وكان البلدان قد اجريا تمارين عسكرية بحرية مشتركا باسم “الفلك” في مضيق باب المندب الاستراتيجي في 19 يناير 2017 على مدار أسبوع، بهدف التدريب على ردع أي عدوان أو علميات إرهابية يمكن أن تعيق الملاحة في مضيف باب المندب في البحر الأحمر والتي تطل عليه اليمن وجيبوتي وارتريا.
وعلى الرغم من التحديات الداخلية التي لا يزال السودان يواجهها، بما في ذلك العنف المستمر في دارفور، فإن هذه الأحداث الأخيرة تشير إلى نهاية عزلة البلاد الطويلة، وإمكانية الاستقرار في منطقة تشهد تغيراً مستمراً.