التعقيدات المحيطة بملف التطبيع السوري التركي تفتح تلقائيًا باب السؤال عن الشروط المتبادلة التي سيطرحها كل من الطرفين قبل استكمال المصالحة.
علي نور الدين
يتصدّر مشروع التطبيع أو المصالحة بين أنقرة ودمشق جدول أعمال الدولتين، في ظل اهتمامٍ لافت بهذا المسار من جانب الرئيسين السوري بشار الأسد والتركي رجب طيّب أردوغان.
الواضح حتّى اللّحظة، هو أنّ التفاوض بين الطرفين يُدار بوساطة روسيّة فاعلة جدًا، وتسامح أو غض نظر أميركي، إلى جانب حماسة سعوديّة وإمارتيّة لافتة للنظر.
وبينما فضّلت قطر الابتعاد قليلًا عن هذا المشهد، تكتفي إيران بالترحيب الشكلي والحذر بهذه العمليّة، وسط توقّعات بتأثّر مصالحها في سوريا سلبًا بهذه التطوّرات.
أمّا التعقيدات المحيطة بملف المفاوضات بين سوريا وتركيا، فتفتح تلقائيًا باب السؤال عن الشروط المتبادلة التي سيطرحها كل من الطرفين، قبل الموافقة على استكمال المصالحة والتطبيع بين البلدين.
كما تطرح أسئلة حول المصالح التي تحرّك أبرز الأطراف الإقليميّة والدوليّة، عند مقاربة مسار التطبيع التركي السوري.
أهداف وشروط دمشق: المشروعيّة والسّيادة والتوازنات
لا يصعب على المراقب تتبّع أبرز أهداف ومصالح دمشق في مسار المصالحة مع أنقرة، وهو ما يمكن أن يؤشّر إلى طبيعة الشروط التي سيضعها الأسد قبل استكمال المحادثات.
فالهدف الأوّل من هذا المسار بالنسبة لنظام الأسد، سيكون أولًا بإعادة تثبيت مشروعيّته، عبر استعادة العلاقات الدبلوماسيّة وإنهاء القطيعة السياسيّة التي أحدثتها الحرب في سوريا. وهذا ما سعت سوريا بشكل دؤوب إلى تحقيقه طوال السنوات الماضية، عبر تطبيع علاقاتها مع بعض الدول التي دعمت الثورة السوريّة، مثل السعوديّة والإمارات. تطبيع العلاقات مع أي دولة، سيعني الإعتراف بالتمثيل السياسي للنظام السوري القائم، وتجاوز السعي لإزاحته.
إلا أنّ النظام السوري يملك في الوقت عينيه حسابات أخرى ترتبط بالعلاقة مع تركيا. إذ أنّ اعتراف أردوغان بمشروعيّة حُكم الأسد في سوريا، يفترض أن يُثبّت فكرة سيادة النظام السوري على أراضيه، بمقتضى القانون الدولي.
وهذا ما أشار إليه بيان وزارة الخارجيّة السوريّة خلال شهر تمّوز/يوليو 2024، الذي ربط أي مبادرة لتحسين العلاقات مع تركيا بعمليّة “انسحاب القوّات المتواجدة بشكلٍ غير شرعي من الأراضي السوريّة.” وخلال الشهر ذاته، أكّد ذلك الأسد في تصريحاته، إذ أومأ إلى وجود “متطلبات يفرضها القانون الدولي”، لإعادة العلاقات مع أنقرة.
بهذا المعنى، بات الأسد يربط مصالحته مع تركيا، بوضع مسارٍ واضح لإنسحاب القوّات التركيّة الموجودة في الشمال السوري، وضم هذه المناطق إلى الأراضي الخاضعة لسيطرة الحكومة السوريّة المركزيّة. وهذا ما سيعني تلقائيًا تفكيك أطر الحكم الذاتي القائمة في شمال سوريا، المدعومة من تركيا والجماعات السوريّة المسلّحة المنشقة عن النظام.
وفي النتيجة، سيكون النظام قد مضى بتفكيك مخلّفات الحرب السوريّة، وبإعادة توحيد الجغرافيا السوريّة تحت هيمنته. هذه العمليّة، التي تمثّل إحدى أهداف الأسد من التطبيع مع أنقرة، باتت أهم شروطه خلال المفاوضات.
بموازاة ذلك، يرى النظام السوري تقاطعًا واضحًا في المصالح، بينه وبين تركيا، فيما يتعلّق بالحالة التي تشكّلها قوّات سوريا الديمقراطيّة –ذات الأغلبيّة الكرديّة- في شرق سوريا. فنظام الأسد يتطلّع لإعادة ضم تلك المناطق إلى نطاق سيطرته المباشرة، دون ترك أي مجال لحالات انفصاليّة محتملة. وعلى النحو عينيه، يرى أردوغان في تلك الجماعات المسلّحة الكرديّة خطرًا على أمن بلاده قومي، لكونها تمثّل –برأيه- امتدادًا لإيديولوجيا حزب العمّال الكردستاني، الذي خاض صراعات انفصاليّة داخل تركيا.
بهذا الشكل، يطمح النظام السوري إلى التعاون أمنيًا مع أنقرة، لإنهاء سيطرة المسلّحين الأكراد شرق نهر الفرات. وبينما يراهن نظام الأسد على حلفائه الروس لتحقيق هذه الغاية، يمكن لأنقرة أن تمارس ضغطًا سياسيًا موازيًا على حلفائها في واشنطن، لتحقيق الغاية نفسها. مع الإشارة إلى أنّ قوّات سوريا الديمقراطيّة تستفيد من دعم عسكري ومالي أميركي مباشر، كما تستمد قوّتها من تواجد القواعد العسكريّة الأميركيّة في مناطقها.
أخيرًا، ثمّة الكثير من التحليلات التي ترى أنّ دمشق تحاول تنويع علاقاتها وشراكاتها الأمنيّة والاقتصاديّة مع الخارج، بغية تخفيف نفوذ الجماعات المسلّحة المدعومة من حليفتها طهران، داخل الأراضي السوريّة. فعلى الرغم من الحلف الإستراتيجي الذي يجمع دمشق وطهران حاليًا، لا يرغب النظام السوري بالارتماء كليًا تحت نطاق الهيمنة الإيرانيّة، بما يجعل سوريا مجرّد مساحة نفوذ للجماعات المدعومة من الحرس الثوري الإيراني.
ومن المعلوم أن النظام السوري اعتمد على مر السنوات الماضية على الوجود العسكري الروسي المباشر، لخلق حالة موازية وموازنة، مقابل النفوذ الذي حصلت عليه طهران، داخل مناطق سيطرة النظام السوري.
ولتأكيد هذه النقطة، يشير كثيرون إلى بعض الخطوات التي قام بها النظام السوري مؤخرًا، مثل تحييد جبهة الجولان من جهة الأراضي السوريّة، عن كل المواجهات التي خاضتها الجماعات المسلّحة المدعومة من إيران ضد إسرائيل، منذ اندلاع الحرب على قطاع غزّة. كما تعامل الإعلام الرسمي السوري ببرودة شديدة، إزاء “جبهات المساندة” التي دعمتها طهران لهذه الغاية.
بمعنى أوضح، وعلى الرغم من وجود الجماعات المسلّحة المدعومة من طهران على أراضيه، رفض النظام السوري أن تكون أرضه جزءًا من خارطة العمليّات العسكريّة التي تدعمها طهران، منذ تشرين الأوّل/أكتوبر 2023، ما يؤشّر إلى تمايز يحمل دلالات سياسيّة كبيرة.
تركيا: هواجس النازحين والأكراد
وعلى المقلب الآخر، لا يبدو أنّ تركيا ستبدي الكثير من الاعتراض على فكرة سحب قوّاتها من سوريا في المستقبل، كما أشار وزير الخارجيّة سيرغي لافروف في شهر أيلول/سبتمبر 2024، الذي يتوسّط حاليًا بين الطرفين.
غير أنّ تركيا ستفرض بطبيعة الحال بعض الشروط، التي تضمن سلامة الجماعات المُسلحة المحليّة التي تعاونت معها في شمال سوريا، وهذا ما يمكن تحقيقه بمجموعة من المصالحات المحليّة بين النظام والمعارضة. وتجدر الإشارة إلى أنّ روسيا تملك خبرة سابقة في نسج مصالحات من هذا النوع، تمامًا كما حصل في منطقة درعا السوريّة من قبل.
لكن تركيا تملك بعض الهواجس والأهداف التي ستسعى لتحقيقها في مسار التطبيع مع النظام السوري، وفي طليعتها التنسيق لإنهاء خطر المسلّحين الأكراد، الموجودين قرب حدودها في شرق سوريا. وكما أشرنا سابقًا، يمثّل هذا الهدف نقطة إلتقاء ما بين مصالح دمشق وأنقرة، إلا أن تحقيق هذا الهدف المشترك يستلزم مسارًا أمنيًا وسياسيًا معقدًا. وهذا ما يفسّر إصرار أنقرة حاليًا على “إنضاج” الملفّات العالقة بين الجانبين على مستوى أجهزة المخابرات، في المرحلة الأولى، قبل الانتقال إلى المفاوضات السياسيّة المباشرة.
الهدف الثاني المعلن من جانب أنقرة، هو معالجة أزمة اللاجئين السوريين في تركيا، التي تحوّلت مؤخرًا إلى مادّة مثيرة للسجال السياسي في الداخل التركي. هكذا، سيحاول أردوغان تحقيق مكسب سياسي يمكن استعراضه داخليًا أمام الجمهور التركي، في حال توصّل إلى تفاهم مع النظام السوري، بما يسمح بإعادة جزء من اللاجئين السوريين الموجودين في تركيا. وهذا ما سيسمح لأردوغان بتجاوز مشكلة المزايدات التي يتعرّض لها، من جانب المعارضة التركيّة، في مسألة اللاجئين السوريين بالذات.
الحسابات الإقليميّة المعقّدة
مواقف الأطراف الدوليّة والإقليميّة الأخرى، تبدو متأثّرة بموقعها في معادلات الصراع الداخلي في سوريا. فروسيا المنخرطة عسكريًا في هذا الصراع، إلى جانب نظام الأسد، تبدو مهتمّة بالتوسّط الفاعل لإنجاز التطبيع السوري التركي. وهذا الموقف ينطلق طبعًا من علاقة تبادل المصالح القائمة حاليًا ما بين أنقرة وموسكو، في العديد من الملفّات الدوليّة الأخرى، ما سيسمح لهما بتعميق شراكتهما داخل سوريا في حال إنجاز المصالحة بين أردوغان والأسد.
بهذا المعنى، ستسمح عمليّة المصالحة هذه بتفعيل الدور الروسي داخل سوريا، عبر التعاون المباشر مع أنقرة ودمشق في حل القضايا المعلّقة هناك.
من ناحيتها، تُظهر الولايات المتحدة موقفًا مُعلنًا “لا يدعم” مسار التطبيع، قبل وضع حل سياسي كامل للأزمة السوريّة. غير أن الجانب الأميركي لم يعلن مواقف حاسمة ومتشدّدة تعرقل هذا المسار، وهو ما بدا كتسامح أو تساهل من جهة واشنطن، إزاء الوجهة التي تتخذها حليفتها أنقرة في سوريا. وهذا ما يُشابه موقف واشطن بشأن عمليّات التطبيع التي تم إنجازها بالفعل، ما بين النظام السوري وحلفاء الولايات المتحدة في منطقة الخليج.
هذا التسامح الأميركي، ينطلق من فهم واشنطن للديناميّات التي تحكم الصراع الداخلي في سوريا اليوم. إذ يبدو أن الإدارة الأميركيّة تدرك سعي نظام الأسد لتقليص اعتماده على النظام الإيراني، في سياسته الخارجيّة، والانفتاح سياسيًا واقتصاديًا وأمنيًا على أطراف إقليميّة متنوّعة.
وذلك ما لا يتعارض أصلًا مع أهداف واشنطن وحلفائها في الشرق الأوسط، ومنهم السعوديّة والإمارات وتركيا، الذين لا يرغبون بوضع المنطقة الممتدة بين طهران وبيروت بكاملها تحت قبضة الهيمنة الإيرانيّة.
من هذا الزاوية أيضًا، يمكن تفسير الترحيب والحماسة التي تبديها كل من السعوديّة والإمارات، للمحادثات التي تجري بين دمشق وأنقرة حاليًا. بل وذهبت السعوديّة إلى حد التواصل المباشر والعلني مع تركيا، على مستوى وزراء الخارجيّة، لتغطية هذا المسار سياسيًا وتشجيعه.
هنا يبدو مفهومًا موقف النظام الإيراني، الذي يُجامل حليفه في موسكو عبر مواقف مؤيّدة –بشكلٍ متحفّظٍ وهادئ- لمسار التطبيع التركي السوري، دون إبداء الحماسة الواضحة لهذا المسار. أظهرت وثائق إيرانيّة مسرّبة في شهر تموز/يوليو 2024، لمحاضر اجتماعات مسؤولين إيرانيين وسوريين، خشية الجانب الإيراني من إقصائه عن المحادثات التي تجري بين أنقرة ودمشق. كما عكست خوف المسؤولين الإيرانيين من قيادة تركيا لملف إعادة الإعمار وعودة اللاجئين إلى سوريا، وهو ما سيأتي على حساب نفوذ طهران السياسي والاقتصادي.
أمّا الطرف الأهم والغائب عن المشهد، فهو قطر، الشريك السياسي والاقتصادي التقليدي لتركيا، في معظم ملفات الشرق الأوسط. فقطر، وبخلاف سائر الدول الخليجيّة، لم تبادر حتّى اللّحظة إلى الانفتاح على سوريا، ولا إلى محاولة مزاحمة النفوذ الإيراني داخل مناطق النظام.
وعلى هذا الأساس، لم تتصرّف هذه الدولة بوصفها معنيّة بمسار التطبيع أو المصالحة، كما لم تطرح أولويّات خاصّة بها في هذا الملف. ويبدو أن القطريين يتجنّبون في الوقت الحالي الدخول في هذا المعمعة، لتفادي التورّط في أي صراعات نفوذ يمكن أن تهدد مصالح قطر في ملفّات أخرى.
في النتيجة، وعلى الرغم من وضوح مطالب الطرفين السوري والتركي في هذه العمليّة، وتقاطع مصالحهما في بعض الملفّات، من المؤكد أن إنضاج هذه التسوية سيحتاج إلى فترة طويلة من المفاوضات.
فمسائل مثل الانحساب التركي من شمال سوريا، أو تواجد المسلّحين الأكراد على الحدود التركيّة، أو عودة اللاجئين السوريين، ترتبط بمتغيّرات سياسيّة شديدة التعقيد، وبإشكاليّات لا يسهل حلّها خلال فترة قصيرة من الزمن. ومع ذلك، من الممكن أن يتّفق الطرفان على مبادئ أساسيّة أو أرضيّة مشتركة، خلال الأشهر المقبلة، للانطلاق بعدها نحو التفاوض على الإشكاليّات الرئيسة.