من الهجمات الإلكترونية إلى الطائرات المدنية التي تم إسقاطها، وعقوبات النفط والحروب بالوكالة، ومنذ الثورة الإيرانية عام 1979، لم تكن العلاقات بين الولايات المتحدة وطهران سلسة قط. ولكن مع انتخاب الرئيس الأمريكي دونالد ترمب، وصلت واحدة من الفترات القليلة التي شهدت تخفيفاً للتوترات بين الدولتين – ويرجع الفضل في ذلك إلى حدٍ كبير إلى الاتفاق النووي في عهد أوباما – إلى نهاية مفاجئة. والأسوأ من ذلك، أن موجة العنف المبطن في الخليج الفارسي في مايو ويونيو 2019 قد دفعت البلدين تقريباً نحو صراعٍ مفتوح.
بحار خطرة
يمثل الخليج الفارسي واحداً من أكبر نقاط التجارة الدولية، وخاصة بالنسبة للمواد النفطية، وبالتالي يقدم للجهات الفاعلة الإقليمية موقعاً واضحاً لخنق التدفقات التجارية. ونظراً لتصميم الولايات المتحدة والدول الغربية الأخرى على استمرار تدفق النفط عبر الخليج (العديد منها لديها أصول بحرية في المنطقة لضمان ذلك)، يمكن أن يصبح الممر المائي برميل بارود جيوسياسي حقيقي في حال تعرضه لظروفٍ خاطئة.
في الأسابيع الأخيرة، كان الخليج الفارسي نقطة اشتعال التوترات بين الولايات المتحدة وإيران. بدأت المشكلة بالقصف الواضح لأربع ناقلات نفط (إماراتية ونرويجية وسعودية) في الخليج الفارسي في مايو. ووجد تحقيقٌ مشترك أن جهةً فاعلة تابعة للدولة كانت مسؤولة على الأرجح عن الهجوم، حيث ألقت الولايات المتحدة باللوم على إيران، رغم تحفظات الإمارات.
وفي يونيو، تعرضت ناقلتي نفط لهجومٍ أثناء وجودهما في المياه الدولية، حيث تعرضت كل منهما لأضرارٍ فوق سطح المياه. ضربت المتفجرات التي يبدو أنها استخدمت في الهجوم المياه فوق الأمواج، مما أثار اقتراحات بأن الناقلات لم تكن تحاول إغراق السفن. سارع وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو إلى إلقاء اللوم على إيران، مستشهداً بتخمينات المخابرات والأسلحة المستخدمة ومستوى الخبرة المطلوبة والتشابه مع الهجمات الأخرى الأخيرة.
وعليه، انحاز معظم حلفاء الولايات المتحدة إلى رواية واشنطن عن مسؤولية إيران عن الهجمات، وأشارت تقارير الجهات الخارجية عن الهجمات إلى الجهات الفاعلة المدعومة من الدولة الإيرانية باعتبارها المذنبة. ومع ذلك، هناك غموض يلف الأدلة التي نشرها الجانبان مما يُتيح مجالاً للروايات المتناقضة. وصلت هذه الشكوك إلى أعلى المستويات السياسية في بعض البلدان، بما في ذلك ألمانيا واليابان. فقد جادل زعيم حزب المعارضة البريطاني، جيريمي كوربين – وهو داعية للسلام منذ زمنٍ طويل – علناً بأن الأدلة الأمريكية لم تكن كافية لتبرير الدعم الذي لا جدال فيه.
وفي أعقاب الهجمات الثانية، سارعت الولايات المتحدة إلى نشر لقطاتٍ لما وصفوه بأنه قاربٌ إيراني يزيل أحد الألغام غير المنفجرة، وذلك بهدف تكثيف الضغط الدبلوماسي العالمي على طهران وإجبار إيران على العودة إلى المفاوضات. ردت إيران بعرض لقطاتٍ خاصة أظهرت البحارة الذين تم إنقاذهم وذكرت إن وضعهم “الصحي بأفضل حال،” وسط نفي الاتهامات الأمريكية. يهدف تدفق الأدلة هذا بوضوح إلى كسب الحرب الإعلامية وتمهيد الطريق لكسب الحجة لتكثيف التدابير العسكرية على كلا الجانبين، سواء كانت مُعلنة أم سرية. فقد عززت الولايات المتحدة بالفعل وجودها العسكري في المنطقة، على الرغم من أنها بعيدة كل البعد عن خوض غمار الحرب.
لحسن الحظ، لم يصب أحد في الهجمات، إلا أنها أثارت ردود فعلٍ عنيفة. فقد أسقطت إيران طائرةً عسكرية أمريكية بدون طيار، مما أشعل خلافاً جديداً حول أدلةٍ تُثبت من على خطأ. تبع ذلك شن الولايات المتحدة هجوماً التكرونياً على المنشآت العسكرية الإيرانية، التي زعمت أنها خططت له منذ الهجوم الأول على ناقلة النفط.
دوافع شائنة: إيران
يبدو أن الجزء الأكبر من اللوم عن هذه الهجمات قد بات في جعبة إيران. ففي النهاية، لطالما خاضت البلاد منافسةً إقليمية طويلة الأمد مع الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية. ولكن مع عدم حدوث أي اختراقاتٍ في أي من النزاعاتٍ الإقليمية (مثل تلك الموجودة في اليمن أو سوريا)، أصبحت التوترات الإيرانية مع الخصوم المتجاورين الآن مستقرة نسبياً في ظل الجغرافيا السياسية في الشرق الأوسط. ويبدو أنه لم يكن هناك دافعٌ واضح من شأنه أن يدفع إيران إلى اقتراف مثل هذه الأعمال العسكرية المحفوفة بالمخاطر ضد جيرانها. ومع ذلك، كانت الولايات المتحدة تضغط باستمرارٍ على طهران بفرض عقوباتٍ اقتصادية وانسحابها من الاتفاق النووي المبرم عام 2015 مما زاد الأمور سوءاً. فقد قامت إيران بزرع ألغامٍ في الخليج الفارسي منذ الفترة التي سبقت ثمانينات القرن الماضي، ودخلت في مناوشاتٍ أحياناً استهدفت العمليات العسكرية الأمريكية كعرضٍ للقوة. ويبدو أن هذه الهجمات، إذا ما أمرت بها إيران، تمثل فرداً للعضلات – تذكيرٌ بالإزعاج الذي يمكن أن تسببه القوات الإيرانية في حال اندلاع صراعٍ فعلي.
المشكلة الوحيدة في هذه النظرية هي الهجوم الثاني. تُظهر الضربتان في الإطار الزمني القصير نسبياً استعداداً حقيقياً، من جانب الإيرانيين، لاختبار رد الفعل الدولي. وفي ظل انهيار الدبلوماسية بين الولايات المتحدة وإيران وتدهورها إلى حد توجيه الإهانات (مع وصف وزير الخارجية الإيراني الولايات المتحدة وحلفائها الإقليميين بـ “الفريق ب”)، فمن الواضح أن هناك فرصة ضئيلة لعتابٍ جاد بين إدارة ترمب والقيادة الحالية في طهران. ومن الجدير بالذكر أنه ليس بالغريب على إيران استخدام القوة لجذب الانتباه. وفي هذا السياق، يُمكن أن تفسر هذه الهجمات كمحاولةٍ لمعرفة المدى الذي يمكن لإيران من خلاله الدفع بهذا الموقف الذي يلفت الانتباه داخل المناخ الجيوسياسي الحالي.
دوافع شائنة: الولايات المتحدة الأمريكية
على الجانب الآخر، من الصعب عدم التشكيك في موقف الولايات المتحدة، باعتبارها مراقب ثالث لهذا التصاعد. المستشارون الرئيسيون في البيت الأبيض لإدارة ترمب معروفون بمواقفهم المتشددة تجاه إيران، أهمهم جون بولتون، مستشار الأمن القومي لترمب، إذ لطالما كان يأمل بشن بعملٍ عسكري ضد الحكومة الإسلامية الإيرانية، والأكثر إثارة للقلق، أنه في ألفينيات القرن الماضي، انخرط على نحوٍ كبير في عملية صنع القرار التي دفعت الولايات المتحدة إلى شن حربٍ استمرت لعقد من الزمن في العراق بسبب معلومات مخابراتية وهمية لوكالة المخابرات المركزية. ولكن، لا يبدو أن هذه الهجمات تحمل ثقل تقارير أسلحة الدمار الشامل سيئة السمعة، وحتى الآن لا يتم استخدامها بطريقةٍ مماثلة للترويج للحرب. بيد أنهم يعرضون روايةً مألوفة عن “حكومة شرق أوسطية فاسدة لها تاريخٌ طويل برعاية الإرهاب مما يشكل تهديداً للمخاوف الدولية أو السلام.”
فقد أقر ترمب بنفسه بأن بولتون يضغط نحو شن عملٍ عسكري عنيف، ويخشى كثيرون ما إذا كان معسكره سيكون قادراً على تحويل هذه الهجمات إلى حججٍ قوية بما فيه الكفاية لنشر القوات الأمريكية على الأرض. وحتى الآن، تمكن ترمب – الذي يستمتع على ما يبدو بسيطرته الشخصية على اندلاع الحرب في الشرق الأوسط – من الحد من رغبات إدارته الأكثر عنفاً. وما زال يجد وقتاً للتهديد بـ “محو” إيران عبر تغريداته على تويتر؛ إذ لا يزال التهديد الخطابي أحد أدواته الرئيسية في عالم السياسة الخارجية.
إن عدم توازن القوى بين الولايات المتحدة وإيران يؤكد على الهيمنة العسكرية لواشنطن (حتى وإن كان ذلك باهظ الثمن) على إيران. تدرك طهران ذلك، وآخر ما ترغب فيه البلاد اضطرارها للتعامل مع غزوٍ عسكري. بالإضافة إلى ذلك، فإن الفشل الواضح للتفجيرين اللذان حصلا في عرض البحر لا يعودان بالفائدة على سمعة الجيش الإيراني. ومع ذلك، فإن تصعيد الخطاب العسكري وشبح العدو منذ زمنٍ طويل والذي يلوح في الأفق يلاقيان استحساناً لدى كلٍ من حكومتي ترمب وروحاني. وإلى أن تندلع الحرب على أرض الواقع، يمكنهم حشد مؤيديهم واللعب على النغمة القديمة “نحن ضدهم.” إلى جانب ذلك، استغلت كل من إيران والولايات المتحدة الحادث للتباهي برحمتهم، حيث زعم ترمب أن التكلفة البشرية للغارات الجوية ما أوقفته عن شن الحرب، بينما زعمت إيران أنه كان بإمكانها إسقاط 35 طيار أمريكي بدلاً من الطائرة بدون طيار التي أسقطتها.
سحب الزناد أصبح أسهل
في الأيام التي أعقبت تراجع ترمب العلني، خرجت أنباءٌ عن شن هجوم إلكتروني أمريكي على منشآتٍ عسكرية إيرانية. وفي حين أن هذا الهجوم قد لا يبدو ذو تأثيرٍ من الخارج (إذ نستذكر هنا هجوماً إلكترونياً مشتركاً بين الولايات المتحدة وبريطانيا وإسرائيل بهدف عرقلة برنامج تخصيب اليورانيوم الإيراني في ألفينيات القرن الماضي دون الحاجة إلى هجومٍ لإبادته)، إلا أن القلق الحقيقي يتمثل في كيفية تطور مثل هذه الهجمات. إن أي هجومٍ سري وغير مرئي يمكن إنكاره بشدة دون أي خطرٍ على الأرواح الأمريكية مثل هذا الهجوم الإلكتروني يقلل من حدود استخدامه. لربما يرحب القادة العسكريين الذين يحرصون على استعراض عضلاتهم، بمثل هذه الأخبار، ولكن في عالمٍ بات يُعرف بفضل التكنولوجيا بالقرية الصغيرة، إذا ما تحولت الأهداف من أهدافٍ عسكرية بحتة إلى أهداف مزدوجة الاستخدام (إذ عادةً ما تعتبر العقيدة العسكرية الأمريكية البنية التحتية للعدو هدفاً عسكرياً قابلاً للتطبيق، على عكس المزيد من القراءات الإنسانية لقانون الحرب الدولي)، فإن المدنيين من سيعانون. سواء كانت شبكات الكهرباء، أو شبكات السدود، أو حتى الاتصالات السلكية واللاسلكية، فإن الهجمات على البنية التحتية ستكلف المدنيين ثمناً باهظاً. إن مثل هذه الهجمات الإلكترونية – التي يتم اتخاذها في لحظة بينما نتوقع شن هجومٍ فعلي- قد تمثل بداية جديدة مثيرة للقلق في الصراع في الشرق الأوسط. ويبدو أن الحرب قد تم تجنبها حتى الآن، لكن ينبغي أن نكون أكثر قلقاً بشأن شكل الصراع الإقليمي القادم.