Chronicle of the Middle East and North Africa

الأصابع المصرية في أزمة أثيوبيا

الأصابع المصرية أزمة أثيوبيا
صورة تم التقاطها يوم ٣ نوفمبر ٢٠١٢ لرجل وهو يحمل شمعة في حفل أقامته بلدية العاصمة الأثيوبية أديس أبابا لتأبين ضحايا نزاع تيغراي. المصدر: EDUARDO SOTERAS/ AFP.

خالد محمود

لم يكن من فراغ هذا التحذير الذي أطلقه مؤخرا قائد القوات الأمريكية العاملة في إفريقيا “أفريكوم” من أن استمرار الصراع في إثيوبيا قد يوفر فرصة للخصوم لشن شكل من أشكال الهجوم، بما في ذلك تصور قيام مصر بضربة عسكرية تستهدف سد النهضة الذي تبنيه أثيوبيا على نهر النيل غير عابئة بالمصالح الحيوية والاستراتيجية لكل من مصر والسودان.

وبينما يعاني نظام رئيس الحكومة الأثيوبية آبي أحمد من مخاطر حقيقية، تهدد بانقسام الدولة التي تضم أكثر من مئة مليون نسمة في منطقة القرن الإفريقي وشرق إفريقيا، على وقع الحرب الأهلية التي تشنها قوات الجيش الاثيوبي ضد المتمردين في إقليم تيغراي، فان التساؤل حول دور مصري ما في هذه الأزمة لا يأتي من العدم.

ثمة هواجس أثيوبية غير معلنة بأن لمصر أصابع خفية في تحريك الوضع الحالي في تيغراي، حيث يعاني الجيش الأثيوبي مع حليفه الجيش الأرتيري المجاور من تداعيات هجمات متتالية يشنها المتمردون في تهديد واضح ومباشر لسلطة أحمد، الحائز جائزة نوبل للسلام، وما يعنيه ذلك من احتمال انفصال الإقليم وتفكك الدولة الأثيوبية القائمة أصلا على تعدد العرقيات والاثنيات.

الموقف الرسمي

الأصابع المصرية أزمة أثيوبيا
صورة تم التقاطها يوم ٢٤ مارس ٢٠١٥ للرئيس المصري عبد الفتاح السيسي (يسار) ورئيس الوزراء الإثيوبي السابق هايلي مريام ديسالين في مؤتمر صحفي عقداه عقب لقائهما في أديس أبابا. المصدر: AFP/ Zacharias Abubeker.

على المستوى الرسمي للدولة المصرية، لم يدلِ الرئيس عبد الفتاح السيسي ولا وزير الخارجية سامح شكري بأي تصريحات حول الوضع الراهن في الداخل الأثيوبي، ذلك أن الحديث المصري منصب ومركز بشكل مستمر على وضع سد النهضة في إطار العلاقات المصرية الأثيوبية.

القاهرة نأت بنفسها عن الادلاء بأي تعليقات أو تصريحات رسمية أو إعلامية قد تفسر بشكل خاطئ. كما ظلت طول الوقت تتحدث فقط عن مخاوفها من التأثيرات المحتملة للسد الأثيوبي على مستقبل وحياة المصريين.

ولم يمنع التزام القاهرة الصمت حيال الحرب التي باتت تهدد مستقبل نظام أديس أبابا، البعض من ترديد تكهنات بوجود أصابع خفية للجانب المصري في تطورات النزاع الأثيوبي.

الحديث هنا يشير بوضوح إلى دور ما لجهاز المخابرات المصرية في إثارة النزاعات العرقية في الدولة الأثيوبية، وإلى تورطه في تقديم دعم لقوات المتمردين من جبهة تيغراي.

لكن الحاصل على الأرض أن القاهرة تدرك أكثر من غيرها أن مشكلة سد النهضة من صنع تلك الجبهة، وأن التورط في نزاع إقليمي على بعد مئات الكيلو مترات منها، لن يكون سهلا.

حديث المبالغة والتمني

تعتقد مصادر ديبلوماسية وسياسية مصرية، أن الموقف الرسمي المصري يكتفي فقط بالمتابعة عن كثب لما يحدث دون تورط مباشر أو غير مباشر.

المصادر التي طلبت عدم تعريفها اعتبرت أن الحديث عن دور مصري في أثيوبيا هو من قبيل المبالغة والتمني، بالنظر إلى تأثر الرأي العام المصري بما يجري هناك.

في مقاله المعنون “النذر المظلمة فوق أديس أبابا!“، يتساءل عبد الله السناوي عبر صحيفة الشروق أين مصر من ذلك كله، لافتا الى أن رئيس الوزراء الأثيوبي يكتفي بالتلميح دون التصريح بشأن دور مصري ما في دعم وتسليح تيغراي.

من وجهة تلك النظر، فإن “من مصلحة مصر استقرار إثيوبيا وعدم شيوع الفوضى المسلحة عند منابع النيل شريان الحياة فيها”، باعتبارها بديهيات في مقتضيات الأمن القومي المصري.

لكن السناوي يلفت الى أن نسب ميلس زيناوي، الزعيم التاريخى لتيغراي، مشروع السد الأثيوبي إليه، فهو من وضع حجر أساسه فى عصره، وشرع في بنائه تحت إشرافه. وكان زيناوي من فكر قبل آبي أحمد في أن يكون السد رافعة الدور الأثيوبي الجديد في قيادة القارة بالهيمنة على مياه نهر النيل.

وعلى هذا النحو، “تختلف الوجوه والسياسات، لكن يبقى مشروع السد بأبعاده وأهدافه شبه نقطة إجماع وحيدة فى بلد تمزقه صراعاته العرقية”، من دون أن يوجد “ما ينبئ بأن الحكام الجدد المحتملين سينتهجون سياسة أخرى إذا لم تكن هناك في المكان عين حمراء مصرية تردع أية تجاوزات تنال من حق البلد في الحياة”.

وبعيدا عن الموقف الرسمي المصري، تتعرض استثمارات بعض رجال الأعمال المصريين لمتاعب واضحة في إقليم تيغراي بإثيوبيا نتيجة لتوقف أعمال التشغيل بسبب الحرب الدائرة هناك.

وهددت تطورات الوضع المعقدة الاستثمارات المصرية في الإقليم، بعدما لوح علاء السقطي، نائب رئيس اتحاد المستثمرين في مصر بتصفية أعماله البالغ قيمتها عشرة ملايين دولار أمريكي والحصول على تعويضات بقيمة 40 مليون دولار أمريكي لما لحق بمشاريعه من خسائر. وكان السقطي قد أسس مصنعين في الإقليم عام 2015 مع بعض المستثمرين المصريين وشريك إثيوبي. ويختص المصنع الأول أحدهما في تصنيع محولات الكهرباء، علماً بأن هذه منتجات هذا المصنع يجري تسليمها لشركة تابعة للجيش. أما المصنع الآخر فيختص بالأثاث الخشبي.

وفقا لما قاله السقطي الذي يترأس المنطقة الصناعية المصرية الإثيوبية، فإن الشركة تعرضت لبعض المضايقات في الإقامة وفي المعاملة بالمطار. كما بدأ مصنعها بتصدير منتجاته إلى كينيا وغيرها من الدول بعد توقف شركة الجيش عن استلام المحولات.

وسحب السقطي كل طاقم العمل المكوّن من 17 مصريا من الإقليم الأغنى نسبيا بين أقاليم إثيوبيا الأخرى وأقلها سكانا حيث يمثل 6% من إجمالي السكان البالغ عددهم نحو 110 ملايين نسمة.

ورفض السقطي مقترحات إثيوبية بالحصول على مواقع بديلة لإقامة المشروعات الصناعية بدلاً من مواقع النزاع في تيغراي. وتعاقد مع مكتب محاماة فرنسي لرفع دعاوى قضائية ضد حكومة أديس أبابا أمام المحكمة الاقتصادية فى باريس.

ويبلغ حجم الاستثمارات المصرية في إثيوبيا 750 مليون دولار، بينما يصل حجم التبادل التجاري إلى 170 مليون دولار. وتتركز معظم الاستثمارات المصرية فى مصانع الكابلات الكهربائية والبنية التحتية والأخشاب والتغليف وغيرها.

مخاوف انهيار الدولة الأثيوبية

الأصابع المصرية أزمة أثيوبيا
صورة عامة تم التقاطها يوم ٢٦ ديسمبر ٢٠١٩ لسد النهضة بالقرب من غوبا في إثيوبيا. ومن المتوقع أن يصبح السد أكبر سد مائي في إفريقيا حيث سيكون ارتفاعه ١٤٥ متراً وطوله ١.٨ كيلومتراً من الخرسانة. المصدر: EDUARDO SOTERAS/ AFP.

الفسيفساء الأثيوبية قابلة للتفسخ. هذا ما تشي به التطورات والمخاوف الأمريكية المعلنة من انقسام الدولة العملاقة الرابضة في تلك المنطقة الحيوية من القارة الإفريقية.

وعلى الرغم من بدء وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن لجولة إفريقية على مقربة من أثيوبيا تشمل كينيا ونيجيريا والسنغال، إلا أنه لم يدرج العاصمة الأثيوبية على قائمة هذه الجولة. ويعد هذا بمثابة تعبير عن امتعاض أمريكي واضح من سياسة الحكومة الأثيوبية.

بلينكن الذي دعا مجددا لهدنة لوقف إطلاق النار في الصراع الدائر في إثيوبيا، احتل ملف الحرب الأهلية الدائرة في إثيوبيا مكانا لافتا على جدول أعماله في نيروبي. وفي مؤتمرٍ صحفي عقده برفقة وزيرة الخارجية الكينية رايتشيل أومامو، اعتبر بلينكن تلك الحرب بمثابة “خطر متزايد يهدد وحدة الدولة الإثيوبية وسلامة أراضيها”.

وتعهد بلينكن بدعم جهود الوساطة التي يقوم بها أولوسيجون أوباسانجو رئيس نيجيريا الأسبق، بصفته الممثل الأعلى للاتحاد الإفريقي في منطقة القرن الإفريقي، معربا عن اعتقاده بوجود “فرصة وضرورة لا غنى عنها” لأن تتوقف جميع الأطراف وتتحدث وتتراجع للوراء كي تتدفق المساعدات الإنسانية ويجلسوا إلى الطاولة أيضا.

حديث المسؤول الأمريكي جاء بعدما فرضت بلاده عقوبات على الجيش والحزب الحاكم في إريتريا لتدخلهما في النزاع الإثيوبي.

العقوبات التي تم إعلان فرضها رسميا تستهدف قمة الأجهزة العسكرية والاستخبارتية لإريتريا، بما في ذلك قوة الدفاع الإريترية “اي دي اف” ورئيس مكتب الأمن القومي الإريتري أبرهه كاسا نيمريم و”صندوق هيديري”، وهو شركة قابضة تابعة لحزب الجبهة الشعبية للديمقراطية والعدالة، إضافة الى هاغوس غبريويت كيدان المستشار الاقتصادي للحزب الوحيد المسموح به في إريتريا وينتمي إليه الرئيس الإريتري أسياس أفورقي، ويعد نظامه أحد أكثر أنظمة  العالم عزلة والخاضع لعقوبات دولية.

بموجب هذه العقوبات، أدرجت الولايات المتحدة على لائحة العقوبات ستة أهداف ترتبط بالحكومة الإريترية والحزب الحاكم بموجب الأمر التنفيذي الذي وقعه الرئيس الأمريكي جو بايدن في شهر سبتمبر 2021 استجابة للنزاع في إثيوبيا.

وكان واضحا أن هذه الإجراءات تستهدف فرض تكاليف على من يطيلون الأزمة وإجبارهم على دفع ثمن لتدخلهم، خاصة وأنه منذ اندلاع النزاع في منطقة تيغراي عام 2020 شاركت القوات الإريترية، التي تنكرت بملابس عسكرية اثيوبية قديمة، في تأجيج العنف وارتكبت مذابح وعمليات نهب واعتداءات جنسية في جميع أنحاء اثيوبيا.

وتحسبا لاحتمال انفجار إثيوبيا من الداخل، وتداعيات ذلك على دول أخرى في المنطقة، تتمسك أمريكا بإجراء محادثات جديدة بين أديس أبابا والمتمردين. كما تنتظر واشنطن نتائج وساطة يقوم بها الرئيس النيجيري السابق أولوسيغون أوباسانجو المبعوث الخاص للاتحاد الإفريقي، بعد الانتصارات الكبيرة التي حققتها جبهة تحرير شعب تيغراي على الأرض مؤخرا ومحاولتها التقدم صوب العاصمة.

تاريخ العلاقات المصرية الإثيوبية

الأصابع المصرية أزمة أثيوبيا
الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك مبتسماً أثناء تحيته لمسؤولين حكوميين جاؤوا للاطمئنان على سلامته لدى وصوله على مطار القاهرة يوم ٢٦ يونيو ١٩٩٥ عقب محاولة اغتياله في إثيوبيا، حيث تعرضت حينها سيارته لكمين من قبل مسلحين مجهولين. وكان مبارك يعتزم حينها حضور قمة منظمة الوحدة الإفريقية المخصصة للرؤساء الأفارقة في أديس أبابا. المصدر: MONA SHARAF/ AFP.

وفقا لتقرير صادر عن الهيئة العامة المصرية للاستعلامات، يعود تاريخ العلاقات المصرية الإثيوبية إلى عهود مصر القديمة، والتي لم تكن سياسية فقط، بل كانت دينية وثقافية أيضا. وبدأت العلاقات الدينية في القرن الرابع الميلادي منذ ارتبطت الكنيسة الإثيوبية بالمصرية.

وشهد رواق الجبرتة الخاص بالطلبة الإثيوبيين في الجامع الأزهر الشريف تخرّج المؤرخ عبد الرحمن الجبرتي (ذي الأصول الإثيوبية) وصاحب كتاب (عجائب الآثار في التراجم والأخبار).

بدأت العلاقات الدبلوماسية بين البلدين نحو عام 1930. وكانت فى أوج قمتها فى عهد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر والإمبراطور الإثيوبي هيلا سلاسي. وتعبيرا عن ذلك، كتب عبد الناصر فى مقدمة كتاب “أضواء على الحبشة”: “نحن شريكان في هذا النهر الخالد الذي يفيض الخير والبركة على شاطئيه من هضبة الحبشة إلى المقرن من أرض السودان إلى المصب في البحر المتوسط”.

في عهد الرئيس الراحل أنور السادات، خيّم التوتر بسبب إريتريا بعد دعم الخرطوم لحركة تحرير إريتريا، ومساندة إثيوبيا لحركة جنوب السودان (أنيانا).

وبعد إعلان السادات في 1979 اعتزامه تحويل جزء من مياه النيل لري 35 ألف فدان في سيناء، أعلنت إثيوبيا أن هذا المشروع ضد مصالحها. وتقدمت أديس أبابا بشكوى إلى منظمة الوحدة الأفريقية تتهم فيها القاهرة بإساءة استخدام مياه النيل.

وبعدما هدد الرئيس الإثيوبي منجستو بإمكان تحويل مجرى نهر النيل، صعّد السادات من حدة خطابه تجاه إثيوبيا وأعلن أن مياه النيل خط أحمر مرتبط بالأمن القومي المصري.

وسعت مصر في عهد الرئيس الراحل حسنى مبارك عام 1984 عبر اتصالات مستمرة مع السودان وإثيوبيا لإنهاء الخلافات المتعلقة بالمشكلة الإريترية. واتبعت القاهرة سياسة أقرب إلى الحياد حتى عام 1995، فيما يتعلق بالخلافات بين إثيوبيا والصومال، بسبب الصراع حول إقليم أوجادين.

لكن على إثر محاولة اغتيال مبارك الفاشلة على يد إرهابيين فارين من مصر، في العاصمة الإثيوبية أديس أبابا عام 1995، توقفت العلاقة بين البلدين وأعمال المجلس المصري الإثيوبي 17 عاماً كاملة.

وبعد ثورة يناير 2011، حدث تقارب نسبي بين مصر وإثيوبيا. وسعى الرئيس الحالي عبد الفتاح السيسي لتحويل العلاقات إلى تعاون وانتفاع، ترجمه ارتفاع إجمالي المشروعات المصرية التي حصلت على تصاريح حكومية في إثيوبيا منذ عام 1992 حتى الآن، إلى 58 مشروعا، باستثمارات تصل إلى نحو 35 مليار دولار.

ووفقا لتقديرات 2017، بلغ حجم التبادل التجاري بين مصر وإثيوبيا نحو المليار دولار سنويا في المتوسط. وارتفعت الصادرات الإثيوبية (اللحوم المبردة والأبقار الحية) لمصر، إلى نحو ٤٠٠ مليون دولار.

ما لا يقوله هذا التقرير هو أن القاهرة التزمت طيلة الوقت بسياسة واضحة في شأن العلاقات مع أثيوبيا، وهي إقامة علاقات مع القوة الحاكمة دون التورط في الشأن الداخلي الأثيوبي.

تلك الاستراتيجية الثابتة تفرض بالضرورة على صناع القرار المصري التركيز على بقاء أثيوبيا موحدة بدون تفكك، خشية تأثير ذلك المباشر على السودان وبالتالي على مصر، مع ما قد يصاحبه من مشكلات عسكرية واقتصادية في حال دفع تأزم الوضع مئات الآلاف من السكان على النزوح صوب حدود السودان.

وبانتظار تحقيق تقدم قد لا يحدث بالضرورة في ملف سد النهضة، تعتقد القاهرة أن مشاكل أثيوبيا الداخلية كفيلة بتعطيل الاستمرار في بنائه وتشغيله.

user placeholder
written by
Dima
All Dima articles