Chronicle of the Middle East and North Africa

إسرائيل والنصر الاستراتيجي بعيد المنال

من خلال إجبار إيران على اتخاذ موقف دفاعي، تسعى إسرائيل إلى تأمين نصر إسرائيلي أوسع، ولو أن هذا يأتي بكلفة إنسانية كبيرة ويخاطر بإشعال صراع إقليمي أوسع.

إسرائيل والنصر الاستراتيجي
تُظهر هذه الصورة دخانًا يتصاعد من موقع غارة جوية إسرائيلية استهدفت قرية الخيام بجنوب لبنان في 7 أكتوبر، 2024. قال الجيش الإسرائيلي إنه نشر فرقة أخرى للمشاركة في العمليات في لبنان – مما يجعلها المجموعة الثالثة للقوات في لبنان قوة الفرقة لاستخدامها في القتال البري ضد حزب الله. وكالة فرانس برس

إروين فان فين

توالت الهجمات الإسرائيلية على أنظمة الاتصالات التابعة لحزب الله، بالإضافة إلى الغارات الجوية على منصات إطلاق الصواريخ ومخابئها، واغتيال العديد من كبار قادة الحزب، بالإضافة إلى الهجوم البري الإسرائيلي الذي يجري حالياً، ما يخلق مشهداً مخيفاً يتمثل في الردود الهجومية التي تتخذ شكل هجمات بالصواريخ والطائرات المسيّرة من حزب الله على شمال إسرائيل، إلى جانب الهجوم الصاروخي الإيراني المباشر الأخير.

صارت الأجواء مشحونة بالتهديدات بالانتقام، إذ تتوعد إسرائيل إيران بردّ مؤلم، بينما تواصل الولايات المتحدة التأكيد على حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها، رغم إعلانها في الوقت نفسه رغبتها في تجنب اندلاع صراع إقليمي. أما إيران، فهذا يعني لها أن الاختيار سيقع على الأهداف المجاورة في حال ردت إسرائيل، بما في ذلك القواعد الأمريكية في العراق وسفن الشحن في الخليج العربي.

باختصار، لقد أوصلتنا الأحداث المتسارعة في الشرق الأوسط إلى نقطة تجاوزت تقريباً الأطر التحليلية والرؤى المتاحة. لكنها لم تتجاوزها كليًا، فرغم أن ضباب الحرب يجعل من الصعب التنبؤ بما سيحدث بعد ذلك، فإنه يمكن التفكير بشكل نقدي في الوضع الحالي للصراع الإسرائيلي الإيراني وتحديد العواقب المحتملة. لذلك سيكون من المفيد هنا التساؤل في بعض الافتراضات السائدة.

افتراضات سائدة

لقد أصبح واضحاً أن إسرائيل تستهدف توجيه ضربة قاضية لإيران من خلال دفعها أولاً للرد على اغتيال السيدين هنية ونصر الله، بالإضافة إلى هجماتها على حزب الله، حتى توجّه ردًا قاسيًا على أي رد من طهران. بمعنى آخر، لم يعد من الممكن افتراض أن إسرائيل ستتسامح إلى الأبد مع تعرضها للنيران من عدة جبهات. أي إن إسرائيل لن تكبح هجومها ضد حزب الله أو إيران خوفاً من “إمطارها بالصواريخ”، بل إنها تحدت هذا التهديد من خلال اغتيال حسن نصر الله. كما أن آخر هجوم صاروخي إيراني لم يستعد الردع، إذ أوقفت طهران الهجوم فورًا ما لم ترد إسرائيل، وهو ما يُعد دليلاً على الضعف.

ولا شك في أن إسرائيل سوف ترد، فهي لا تخشى إيران بفضل الدعم الأمريكي، ولأن طهران تعاني من الضعف على المستوى المحلي وتفتقر إلى خيارات عسكرية فعالة تلحق ضرراً حقيقياً بها. كان من المحتم أن يؤدي اغتيال إسرائيل للسيد هنية في طهران، إلى جانب تصاعد هجماتها على حزب الله، إلى رد فعل إيراني. كما منح الهجوم الصاروخي الذي شنته طهران القدس الغربية سبباً آخر للتصعيد نحو الحرب الإقليمية التي سعى نتنياهو لتحقيقها منذ فترة طويلة.

لقد بات من الواضح أيضاً أن الولايات المتحدة شريك واعٍ، بل ومستعد للمشاركة في هذه الحرب الإقليمية بصرف النظر عن الانتخابات. أي إنه يجب التخلي عن الافتراضات القائلة بأن الولايات المتحدة ترغب في وقف إطلاق النار في غزة ولا تريد حرباً إقليمية، أو على الأقل ينبغي توخي الحذر من هذه الافتراضات، فواشنطن ستدعم إسرائيل في حرب إقليمية مع إيران ما دامت لا تشارك فيها مباشرةً.

فمنذ أكتوبر الماضي على سبيل المثال، لم تحشد الولايات المتحدة الجهود والتأثير اللازمين لوقف إطلاق النار في غزة، إذ اعتبرت حماية إسرائيل أولوية قصوى، ورأت في تدمير حماس وسيلة مفيدة لإعادة تشكيل الحكم في غزة كأساس لحل القضية الفلسطينية. ولكن في نظر العالم، دعمت واشنطن المجازر التي تُرتكب في غزة وحرضت عليها من خلال جولات دبلوماسية إقليمية متعددة ولكن غير مثمرة، ولغتها المطمئنة التي لم تكن فعالة. ففي ظل وجود رئيس صهيوني، على حد وصفه، في البيت الأبيض عند هذا المفترق التاريخي، تشير تصرفات الولايات المتحدة من جميع النواحي العملية إلى انضمام واشنطن إلى إسرائيل في محاولة لإعادة ترسيخ الهيمنة الإقليمية.

ولم يتبق سوى تحديد مدى هذا المشروع المشترك: هل سيكون كافياً لتفكيك شبكة إيران الإقليمية من شركاء محور المقاومة، وهل تدمير البنية التحتية النووية الإيرانية هو الهدف، أم أن تغيير النظام في طهران ما يزال مطروحاً على الطاولة؟ وعلى الرغم من إدانتهم الخطابية للخسائر التي وقعت في صفوف المدنيين في فلسطين ولبنان، فإن معظم النخب الحاكمة في الشرق الأوسط ترحب على الأرجح بخوض إسرائيل والولايات المتحدة معركة مباشرة ضد إيران، من حيث المبدأ على الأقل نظراً إلى المخاطر العديدة.

وفي الحالتين، بمجرد إنجاز أي منهما، يمكن للولايات المتحدة وإسرائيل صياغة “حل” أجوف للقضية الفلسطينية، والذي من المحتمل أن يصل إلى مستوى الاستعباد والفصل العنصري المستقل بالنظر إلى مواقفهما تجاه الرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية الصادر في 24 يوليو 2024 بشأن عدم شرعية الاحتلال الإسرائيلي، والذي يمكن على أساسه المضي قدماً في التطبيع مع السعودية.

إلى جانب استمرار الولايات المتحدة في التظاهر بأنها تريد وقف إطلاق النار في غزة، فقد منحت إسرائيل طهران والمحور درساً في فن الصبر الاستراتيجي الحقيقي، أي القدرة على استيعاب أضرار محدودة لعدة أشهر متتالية، ثم الرد بقوة وبشكل غير متوقع عندما تسنح الفرصة. لقد جعلت إسرائيل والولايات المتحدة طهران تعتقد أن الوقت في صالحها وأنها تستطيع الاستمرار في مضايقة إسرائيل على جبهات متعددة دون تكاليف كبيرة. ولكن الأدوار انقلبت الآن، وباتت إيران تواجه أزمة حقيقية في سياستها الأمنية الإقليمية، وربما حتى مخاطر جدية تهدد أمنها الداخلي. لكن الولايات المتحدة وإسرائيل تخوضان لعبة محفوفة بالمخاطر بحصار إيران في الزاوية.

سقوط مؤقت، ولكن تستمر الحرب

السبب في ذلك هو أن إيران وشركاءها تكبّدوا خسائر، لكنهم لم يُستبعدوا تماماً من المشهد. فمن المرجح أن يظل حزب الله قادراً على إطلاق المزيد من الصواريخ على إسرائيل رغم خسائره الأخيرة، لكن استخدام هذا السلاح سيؤدي حتماً إلى نشوب حرب إقليمية. وقد يغفل الخبراء الذين يتوقعون زوال حزب الله عن السنوات الطويلة التي بذلها في الاستعداد، ومرونته الكبيرة، وجذوره القوية، وقدرته العالية على الحشد ضد أي هجوم بري إسرائيلي.

وحتى إذا تعرض الحزب للتآكل من الداخل بسبب دوره المتزايد في السياسة اللبنانية منذ عام 2006، وما رافقه من فساد وتراجع في الشعبية، فضلاً عن تعرضه للاختراق الإسرائيلي بعد توسعه في سوريا منذ 2011، فإن الحزب ما زالت لديه الموارد والخبرات والكادر البشري والجمهور الذي يمكن الاعتماد عليه.

علاوة على ذلك، فإن الهجوم الصاروخي الإيراني الأخير على إسرائيل جاء تحذيراً من أن طهران قد أدركت متأخراً أن افتراضاتها السابقة كانت خاطئة، وأن اللعبة الاستراتيجية الجديدة تتضمن مخاطر أكبر. ورغم صعوبة استهداف إسرائيل مباشرة، فإن إيران لديها خيارات أخرى لضرب الولايات المتحدة، على الرغم من أن ممارسة تلك الخيارات ستؤدي بلا شك إلى هجمات على إيران نفسها. لكن هذه الهجمات قد تثني الولايات المتحدة أو تدفعها إلى كبح جماح إسرائيل.

وفي جميع الأحوال، إذا انخرطت الولايات المتحدة في الهجمات الإسرائيلية على إيران، فلن يكون لدى إيران الكثير لتخسره، فتسلسل الأحداث هذا يجعل الهجمات على القواعد الأمريكية في الخليج العربي والعراق أمراً أكثر احتمالاً. وإذا شنت إسرائيل، وحدها أو بمشاركة الولايات المتحدة، هجمات على إيران ولكنها لم تتسبب في أضرار لا يمكن التعافي منها، فمن المحتمل أن تتجه طهران نحو تطوير سلاح نووي بسرعة أكبر.

وإذا تعرضت منشآتها النفطية لضربات شديدة، فقد تلجأ إلى استهداف حركة الشحن في الخليج العربي. في مثل هذه السيناريوهات، ستكون خسائر إيران أقل بكثير. كما أن نقل الأسلحة المتطورة سراً قد يكون وسيلة غير مكلفة بالنسبة لروسيا والصين لتقويض الولايات المتحدة، إذ أن هيمنة الولايات المتحدة وإسرائيل على الشرق الأوسط لا يخدم مصالح موسكو أو بكين بأي شكل من الأشكال.

النصر المنتظر، لكن بأي ثمن؟

لكن، حتى لو تكبد محور المقاومة أو البنية التحتية النووية الإيرانية خسائر كبيرة، فإن أي انتصار تحققه إسرائيل والولايات المتحدة سيكون باهظ الثمن. فالضرر الذي قد يلحق بالبنية التحتية المدنية والعسكرية الإسرائيلية، إلى جانب الأرواح الإسرائيلية، قد يكون هائلاً.

بيد أن المشكلة الأساسية تظل في فلسطين. فنحن نرى ما تقوم به إسرائيل اليوم من نقل التأثيرات العنيفة للاحتلال الإسرائيلي المتعسف وغير الشرعي للأراضي الفلسطينية إلى المنطقة بأسرها من خلال عكس مسار انتقال العنف الذي كان يمر من إيران عبر حزب الله إلى حماس. بمعنى آخر، تدمر إسرائيل حماس للوصول إلى حزب الله ثم إلى إيران، مستغلة قرار نصر الله بجعل وقف إطلاق النار في غزة شرطاً للتهدئة في شمال إسرائيل. بهذه الاستراتيجية، حولت إسرائيل ما كان يُعد قوة إيرانية بارزة، وهي شبكة الجماعات المسلحة المنتشرة في مختلف أنحاء المنطقة، إلى نقطة ضعف رئيسية بقوة السلاح.

كان من الممكن أن يشكل هذا إنجازاً استراتيجياً كبيراً، لكن إسرائيل حققته من خلال التدمير العشوائي الشامل. فقد دمرت غزة وقتلت عشرات الآلاف من الفلسطينيين، من بينهم صحفيون وعمال إغاثة وموظفو الأمم المتحدة، رداً على هجوم حماس في السابع من أكتوبر. كما تسببت إسرائيل في كارثة إنسانية من خلال منع المساعدات وإجبار الفلسطينيين على النزوح مراراً على طول محور نتساريم، ما ساهم في زيادة الاتهامات لإسرائيل بارتكاب الإبادة الجماعية، بالإضافة إلى تأجيج نيران التطرف والعنف في المستقبل. وما يزيد الأمر سوءاً أن المذبحة في غزة جاءت في سياق احتلال دام 57 عاماً للضفة الغربية وغزة، وهو الاحتلال الذي أدانته الأمم المتحدة والمجتمع الدولي مراراً.

ومع ذلك، لم نشهد احتجاجات حقيقية إلا من جنوب إفريقيا وتركيا والحوثيين وحزب الله، وهي احتجاجات وضعت إسرائيل تحت (بعض) الضغط. وبالاستناد إلى تقديرات سابقة لعدد الضحايا نُشرت في مجلة “ذا لانسيت”، قد يصل عدد القتلى في غزة على أيدي إسرائيل إلى ربع مليون عندما تتوقف العمليات العسكرية. والأسوأ من ذلك هو أن وحشية الحملة الإسرائيلية في غزة تتكرر، وإن كان بشكل أقل حدة، في الضفة الغربية ولبنان.

من المتفهم أن تسعى إسرائيل إلى معاقبة المسؤولين عن أحداث السابع من أكتوبر، واستعادة الأمن في شمالها، وإجبار حزب الله على الامتثال لقرار مجلس الأمن رقم 1701، والحد من التهديد الذي تشكله إيران عليها. ولكن الخطأ الاستراتيجي الذي ارتكبته هو الاعتقاد بأن القوة العسكرية العشوائية يمكن أن تكون حلاً لكل المشكلات.

ومن خلال إهمال الحلول السياسية واستمرار احتلالها للأراضي الفلسطينية ومزارع شبعا في لبنان، ورفض التفاوض الجاد، وعدم احترام سيادة لبنان (التي نص عليها قرار مجلس الأمن رقم 1701)، فضلاً عن تجاهل قوانين الحرب الأساسية، فإنها تعيد إنتاج التهديدات التي تحاول القضاء عليها اليوم. ومن الجدير بالذكر أن حماس هي نتيجة مباشرة للاحتلال، وحزب الله إلى حد كبير هو نتاج الغزو الإسرائيلي للبنان.

التكاليف التي ستتكبدها الولايات المتحدة

وجهت الولايات المتحدة، بالتنسيق مع حلفائها الأوروبيين والعرب، ضربة قوية للمعايير الدولية لإدارة الصراعات التي تم وُضعت بصعوبة منذ أوائل القرن العشرين، وأرسلت رسالة واضحة إلى العالم مفادها أن القانون الدولي ينطبق على الجميع باستثناء إسرائيل وأمريكا. حتى إن وزير الخارجية، أنتوني بلينكن، رفض علناً تقرير الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية الذي أكد أن إسرائيل تعرقل المساعدات الإنسانية الممولة من الولايات المتحدة، لتفادي النتيجة المنطقية التي تستوجب وقف تسليم الأسلحة وفقاً للقانون الأمريكي.

إن التجاهل الفج للقانون الدولي يعني أن أحداث العنف المستقبلية لن تعير أي اهتمام له، لا سيما عندما تكون الولايات المتحدة أو حلفاؤها طرفاً فيها. بذلك، تم كسر أحد القيود المهمة على استخدام العنف، وسيكون الثمن مدفوعاً في منافسة شرسة في عالم متعدد الأقطاب حيث لم تعد الولايات المتحدة تحتفظ بميزة “القوة الناعمة” التنافسية.

كما أن هناك شكوكاً بشأن قدرة حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة، خاصة الأردن ومصر، على المشاركة في النظام الإقليمي الجديد الذي تتصوره إسرائيل وواشنطن. وعلى الرغم من أن استقطاب الأنظمة أمر واقع، فإن النخب الحاكمة في هذه البلدان، حتى وإن كانت استبدادية، لا يمكنها تجاهل السخط الشعبي بشكل كامل. فالمنطقة تشهد حالة من الغليان جرّاء الحملات الوحشية التي تشنها إسرائيل، في وقت يحتفل فيه قادتها بتراجع نفوذ حماس وحزب الله. وفي أفضل الأحوال، سيظل السلام بارداً.

الأمر الأكثر إشكالية هو أن الرئيس جو بايدن قد يعرّض بلاده لخطر جسيم، إذا أدت حمايته المطلقة لإسرائيل إلى انزلاق الأوضاع نحو حرب إقليمية قد تسهم في إعادة انتخاب دونالد ترامب، وتمحو أثر “تنازل” بايدن من أجل اختيار مرشح عن الحزب الديمقراطي.

هل من مَخرج؟

لن يسود المنطق ولا سياسات صنع السلام في كل من إسرائيل أو الولايات المتحدة. وإذا تعرضت إيران للحصار، فإنها قد تخوض حرباً حتى النهاية لضمان بقاء نظامها. وقد أظهر الرئيس السوري بشار الأسد للعالم كيفية القيام بذلك على المستوى المحلي، وسترفع إيران هذا النموذج إلى مستوى إقليمي. وستكون النتيجة مزيدًا من البؤس وانتشار الأسلحة النووية.

لذلك، فقد آن الأوان لتشكيل تحالف يضم الدول الأوروبية والعربية للاتحاد من أجل ممارسة ضغوط حقيقية على الحكومة الإسرائيلية لوقف حملاتها التدميرية. هناك فرصة لإعادة تشكيل الحكم في غزة ولبنان بما يضمن شعور الإسرائيليين بالأمان، وتشكيل الفلسطينيين لدولتهم، واستعادة اللبنانيين لسيادتهم، لكن هذه الفرصة قد تفوتنا.

عن الكاتب

 إروين فان فين هو زميل أبحاث في وحدة أبحاث الصراعات في كلينجينديل، ورئيس برنامج الشرق الأوسط التابع لها.

user placeholder
written by
Dima
All Dima articles