وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

الهولوكوست والنكبة: صدماتٌ متقاطعة

يواصل إلياس خوري مساهمته الأدبية المحفزّة للتفكير حول تشابك المصائب بين الهولوكوست والنكبة

Holocaust
زائر يتجول بين اللوحات الإسمنتية للنصب التذكاري للقتلى اليهود في أوروبا (نصب الهولوكوست التذكاري) في برلين- 26 أكتوبر 2019. Photo: John MACDOUGALL / AFP

عنوان الكتاب: الهولوكوست والنكبة: قواعد جديدة للصدمة والتاريخ. نيويورك. دار نشر جامعة كولومبيا، 2018.

بشير بشير وعاموس غولدبيرغ.

كانت المحرقة (الهولوكوست) والنكبة من الأحداث المؤلمة والصادمة للغاية في التاريخ اليهودي والفلسطيني. فقد كان للحدثين، المتفاوتين بمظهرهما وحدّتهما، تأثيرٌ حتمي على التاريخ اللاحق ووعي وهويات كلا الشعبين. أصبحت المحرقة عنصراً محورياً للهوية اليهودية، لا سيما في أواخر سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، في إسرائيل وحول العالم، بينما باتت النكبة وعواقبها المستمرة ركناً أساسياً من الهويات الفلسطينية والعربية منذ عام 1948.

بالنسبة للفلسطينيين، لا تتمحور النكبة فحسب حول هزيمتهم وتطهيرهم العرقي من فلسطين وخسارتهم وطنهم، ولا حتى أنهم باتوا شعباً يعيش الشتات كلاجئين خارج وطنهم وكأقليةٍ ممزقة تعيش في ظل احتلالٍ على أرضهم، بل تُمثل النكبة أيضاً خراب مئات القرى والأحياء الحضرية إلى جانب تدمير النسيج الثقافي والاقتصادي والسياسي والاجتماعي للشعب الفلسطيني. إنها التصدّع العنيف الذي لا يمكن جبره للتطور الحديث للثقافة والمجتمع والوعي الوطني الفلسطيني. إنها الاستعمار المتواصل لفلسطين والمستمر حتى يومنا هذا من خلال الممارسات والسياسات الاستعمارية مثل المستوطنات اليهودية، والإستيلاء غير القانوني على الأراضي، وفرض الحصار على غزة، وإخلاء القرى.

كانت المحرقة إبادةً جماعيةً متطرفة قُتل فيها ما بين خمسة إلى ستة ملايين يهودي على يد الألمان وآخرين خلال الحرب العالمية الثانية في اضطهاداتٍ قاسية وإعداماتٍ بالرصاص وغرف الغاز (خلال نفس الفترة، أُبيد أيضاً ملايين الأفراد من المجتمعات والجماعات العرقية الأخرى المستهدفة مثل غجر الروما والسنتي، والبولنديين، والمثليين، والشيوعيين، وأسرى الحرب السوفييت، والمعارضين السياسيين، وذوي الإعاقة). انتهت المحرقة في عام 1945 بهزيمة ألمانيا النازية، لكن حصولها وذِكراها وتداعياتها غيرت بشكلٍ كبير مسار التاريخ اليهودي والوعي اليهودي بشكلٍ عام. فقد تم تدمير حضارة غنية إلى حدٍ كبير في غضون فترة قصيرة من الزمن. وبدلاً من أوروبا، احتل مركزان يهوديان آخران، أحدهما في فلسطين (التي أصبحت دولة إسرائيل عام 1948) والآخر في الولايات المتحدة، مركز الصدارة.

لم يبدأ الصراع بين اليهود والعرب على فلسطين في منتصف القرن العشرين، فترة المحرقة والنكبة، بل في أواخر القرن التاسع عشر، مع تأسيس الحركة الصهيونية والاستيطان اليهودي الحديث في فلسطين. ومع ذلك، لا شك في أن أحداث الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضي غيرت إلى حدٍ كبير مصير المجموعتين ووعيهما فيما يخصهما وفيما يخص الصراع بينهما. لا تمثل المحرقة ولا النكبة مجمل الهوية اليهودية أو الفلسطينية في أوائل القرن الحادي والعشرين؛ ومع ذلك، كلاهما مكونان محوريان، بل وربما حاسمان، في الهوية الجماعية والوعي لكلٍ من الشعبين. المحرقة لليهود والنكبة للفلسطينيين (والعديد من العرب) هي ما أطلق عليه المؤرخ ألون كونفينو مصطلح “مواضٍ تأسيسية،” أو ما أسماه عالم النفس الاجتماعي فاميك فولكان “الصدمات المختارة.” وعليه، فكلاهما هويتان وطنيتان يلعب فيهما بُعد الكارثة والصدمة دوراً مركزياً، وحيث يتمحور السرد الوطني بشكلٍ كبير حول تعزيز فكرة حالة الضحية والخسارة.

Nakba
فنانون يجهزون تماثيل صغيرة تمثل اللاجئين الفلسطينيين في صالة عرض الحوش في القدس، تحضيراً لمعرض جين فرير بمناسبة ذكرى “النكبة” في 12 مايو 2008. Photo: AHMAD GHARABLI / AFP

تختلف الروايات الوطنية الصهيونية والفلسطينية السائدة اختلافاً كبيراً بالتأكيد، على الرغم من أنهما تشتركان بشكلٍ ملحوظ بالصيغة والقواعد. إحدى السمات المشتركة لكلا الروايتين التاريخيتين السائدتين هي أن كل واحدة تعتمد – إلى جانب تبني الكارثة التأسيسة – على الإنكار المتزامن والفعّال (الصريح أو الضمني) لكارثة الآخر. ومن هذا المنطلق، تعتبر رواياتٍ تستند إلى معارضة ثنائية، وهي سمة من سمات السيميائية البنيوية. فكل طرفٍ مقتنع بأنه الضحية الأساسية للتاريخ، بينما ينكر أو يقلل من معاناة الطرف الآخر من أجل إثبات صحة مطالبه.

الهدف من هذا الكتاب هو تخفيف وتحدّي الانقسام بين هاتين الروايتين السائدتين، إذ يسعى إلى تجاوز الحدود المزدوجة ثنائية التفرّع التي تفرضها هذه الروايات الوطنية على التاريخ والذاكرة والهوية لأخذ كلتا الروايتين بعين الاعتبار. نقترح سجلاً آخر للتاريخ والذاكرة – سجلاً يُكرّم تفرد كل حدثٍ وظروفه وعواقبه، فضلاً عن اختلافهما، بيد أنه سجلٌ يقدم أيضاً إطاراً تاريخياً ومفاهيمياً مشتركاً يمكن من خلاله معالجة كلتا الروايتين. نقترح صيغة وقواعد مختلفة تماماً للتاريخ والذاكرة، حيث يكون الجمع بين “المحرقة والنكبة” أو “النكبة والمحرقة” منطقياً تاريخياً وثقافياً وسياسياً.

نحن نؤمن أن النظرة العالمية الحصرية المزدوجة التي تقدمها الروايات الوطنية التقليدية، على الرغم من كونها متجذرة بعمق والقوة المهيمنة في تشكيل الهويات الوطنية المعارضة لليهود والفلسطينيين، هي وجهة نظر معيبة تاريخياً ومدمرة أخلاقياً وسياسياً. لذلك سعينا إلى تجاوز مثل هذه الصيغة الوطنية والحصرية- على المستوى الرمزي للروايات الوطنية والتاريخية، من ناحية، ولكن أيضاً (وليس أقل أهمية) على المستوى الأخلاقي – السياسي المتعلق بإدراك الحقوق الفردية والجماعية لكلا الشعبين. ومن هذا المنطلق، يهدف هذا الكتاب إلى “دفع التاريخ ضد التيار،” على حد تعبير والتر بنيامين. وعلى الرغم من أن كلمات بنيامين أصبحت مبتذلة إلى حدٍ ما، إلا أنها مناسبة تماماً في هذه الحالة، وتقدم وصفاً دقيقاً لما سعينا إلى القيام به في هذا المجلد.

من الناحية السياسية، نعتقد أن فكرة “الفصل/ التقسيم” – النموذج السائد لمناقشة إسرائيل/ فلسطين منذ لجنة بيل في عام 1937 – فشلت. علاوةً على ذلك، فإن الانفصال هو فكرة غير أخلاقية ومستحيلة، إذ يجب تطوير الخطاب والسياسة الثنائية القومية بدلاً من ذلك (بثنائية القومية لا نعني بالضرورة دولة ثنائية القومية). في مواجهة التاريخ، تعني ثنائية القومية في أذهاننا، أولاً وقبل كل شيء أمران رئيسيان 1) أن النكبة هي جزءٌ أساسي من التاريخ الإسرائيلي والصهيوني الذي يتعين على الإسرائيليين تحمل المسؤولية عنه، في حين أن المحرقة – بطريقة مختلفة تماماً – هي أيضاً جزءٌ من التاريخ الفلسطيني ذلك أنه لا يمكن تجنب تداعياتها المحلية وأهميتها العالمية. 2) لا يملك الإسرائيليون ولا يمكنهم السيطرة على خطاب التاريخ والذاكرة والصدمة. وفي حين يستلزم هذا الإطار المنطقي القائم على المساواة إنهاء الاستعمار ورفع جميع أشكال التفوّق والإمتيازات اليهودية الصهيونية، فلا بد أن يكون بالغ الدقة وأن يفسح المجال لكلا الصدمتين برفض تراتبية المعاناة. ونعتقد أن طريقة التفكير هذه تدعم بل ويجب أن تؤدي إلى مصالحة تاريخية وحلول سياسية ثنائية القومية تتحدى “الفصل.” لكن يعدّ هذا بطريقةٍ ما مشروعاً جماعياً اجتمع فيه كبار العلماء العرب واليهود والدوليين لاستكشاف إمكانية إنشاء لغة مشتركة لمناقشة هذه الصدمات معاً.

إلى جانب المُقدمة الرئيسية المؤطرة، ينقسم هذا الكتاب إلى أربعة أجزاء تقترح جميعها أشكالاً مثمرة من الإرتباطات بين المحرقة والنكبة. الجزء الأول مخصص لتحديد وفحص الموارد الفكرية والمفاهيمية التي تمكن صياغة تاريخية وسياسية جديدة يمكن من خلالها التفكير في المحرقة والنكبة معاً بشكلٍ بنّاء. في حين يركز الجزء الثاني من الكتاب على التحديات الناجمة عن الجمع بين المحرقة والنكبة في الروايات التاريخية المهيمنة ومنهجياتها والآراء الشهيرة. بينما يُعنى الجزء الثالث بالترحال واستخدامات الرموز والدلالات المرتبطة بالصدمات في العلاقة بين المحرقة والنكبة في الأدب والشعر والفنون. الجزء الرابع مكرّس لأحدث روايات إلياس خوري، أولاد الغيتو: إسمي آدم، الرواية الأولى من ثلاثيته. في هذا العمل متعدد المستويات، يواصل خوري مساهمته الأدبية المحفزّة للتفكير حول تشابك المصائب اليهودية والفلسطينية.

نُشر عرض كتاب “الهولوكوست والنكبة: قواعد جديدة للصدمة والتاريخ”  لأول مرة باللغة الإنجليزية على ترافو- بلوج للدراسات عبر الأقاليم https://trafo.hypotheses.org/16427 في 19 يونيو 2019، ويتم إعادة نشره بموافقة المؤلفين والمنتدى للدراسات عبر الأقاليم في برلين.

المحرران:

  • بشير بشير بروفيسور زميل في قسم العلوم الاجتماعية والعلوم السياسية والإعلام في الجامعة المفتوحة في إسرائيل وزميل أبحاث مرموق في معهد فان لير في القدس.
  • عاموس غولدبيرغ بروفيسور زميل في قسم تاريخ الشعب اليهودي واليهوديّة المعاصرة، ويترأس معهد أبحاث اليهودية المعاصرة في الجامعة العبرية في القدس.

ملاحظة

الآراء الواردة في هذا المقال تعبّر عن آراء الكاتب (الكتّاب)، وليس المقصود منها التعبير عن آراء أو وجهات نظر فَنَك أو مجلس تحريرها.