بعد تأسيسها عام 1923، تبنت الجمهورية التركية سياسة الحياد رسمياً، وانضمت إلى عصبة الأمم عام 1932 ووقعت على مواثيق إقليمية مع الدول المجاورة لها (وفاق البلقان عام 1934 مع اليونان ويوغسلافيا ورومانيا، وميثاق سعد آباد الموقع مع إيران والعراق وأفغانستان عام 1937 ضد المعارضة الكردية المسلحة). وتحول هذا الحياد الرسمي إلى موقف مناصر لألمانيا في الحرب العالمية الثانية بعد “عملية بارباروسا” التي بدأت في 22 حزيران/يونيو 1941. وتثبت الكثير من الوثائق الألمانية أن رئيس الوزراء التركي شكري سراج أوغلو (1887-1953) أعرب عن أمنيته بأن تمسح القوات الألمانية الاتحاد السوفييتي عن الخارطة.
دفع التهديد السوفييتي في أعقاب الحرب العالمية الثانية بتركيا إلى طلب الحماية من الغرب: انضمت إلى حلف شمال الأطلسي (الناتو، 1951)؛ وشاركت في الحرب الكورية (1951-1953)؛ وأُقيمت فيها قواعد عسكرية أمريكية؛ وبقيت إحدى أهم المناطق العازلة للكتلة الغربية أثناء الحرب الباردة، على الرغم من العلاقات الدبلوماسية والثقافية مع الاتحاد السوفييتي.
خلقت نهاية الحرب الباردة الكثير من الفرص، غير أنها فرضت أيضاً قيوداً على السياسة الخارجية التركية. في بادئ الأمر، بدا التقارب المذهل مع “الجمهوريات التركية” في آسيا الوسطى مؤشراً لظهور كتلة تركية، إلا أنها لم تدم طويلاً؛ فعوضاً عن ذلك، قام زعماء هذه الجمهوريات، والذين سعوا للحفاظ على حكمهم، بطلب الحماية من روسيا لضمان استمراريتهم. ولم يمنع الدعم التركي لأذربيجان في حربها مع أرمينيا انتصار الأرمن في منطقة قرة باغ العليا (1988–1994). وأدى الدعم السوري لحزب العمال الكردستاني المسلح، بالإضافة إلى ظهور منطقة كردية مستقلة في العراق بعد حرب الخليج عام 1991، إلى ظهور قيود أخرى على السياسة الخارجية التركية، مما أجبرها على التركيز بشكل شبه حصري على الشرق الأوسط.
في عهد حكومة حزب العدالة والتنمية
لم يغيّر تشكيل حكومة حزب العدالة والتنمية فوراً السياسات الخارجية التركية في منطقة آسيا الوسطى أو القوقاز أو البلقان، والتي كان يبدو أن وضعها الراهن سيدوم طويلاً. ولكن مع استمرار عضويتها في الناتو، طوّرت تركيا تدريجياً سياسة إقليمية مستقلة في الشرق الأوسط، مدافعة عن العلاقات السلمية بين الدول. وقامت حكومة حزب العدالة والتنمية بالفعل بتطوير سياسة خارجية فاعلة للغاية في الشرق الأوسط، وخاصة منذ تعيين أحمد داود أوغلو (مواليد عام 1959) – أستاذ في العلاقات الدولية – وزيراً للخارجية عام 2009. في نظريته المعروفة بنظرية “العمق الاستراتيجي”، وصف داود أوغلو تركيا بأنها القوة الأساسية في المجال الإمبراطوري/العثماني السابق. وقال داود أغلو إن تركيا كانت تحتاج إلى تطوير سياسة “اللامشاكل” مع جميع الدول المجاورة لها. ولكن هذه السياسة اصطدمت بالواقع الإقليمي المتمثل في الخلافات بين تركيا وإسرائيل وتلك التي بين الدول المجاورة لها مباشرة كإيران وسوريا بشكل خاص.
السياسة الخارجية وسط أزمات المنطقة
لقد فضح اختطاف 49 شخصا دبلوماسيا تركيا مع عائلاتهم من قبل الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) في مدينة الموصل العراقية في 11 حزيران/يونيو 2014 عمق الأخطاء التي ارتكبتها تركيا مؤخرا في سياستها الخارجية اً. فعلى الرغم من التحذيرات المبكرة، يبدو أن الحكومة التركية قد استخفت ربما لأسباب أيديولوجية، بحجم الخطر الذي تشكله هذه الجماعة السنية المتطرفة.
في السنوات الأخيرة، سعى كل من رئيس الوزراء أردوغان ووزير خارجيته أحمد داود أوغلو الى اتباع نهج دبلوماسي مستقل عن الغرب. فمع فقدان احتمالات الانضمام للاتحاد الأوروبي من جاذبيتها في مواجهة المعارضة الصريحة من فرنسا وألمانيا والتراجع الاقتصادي في أوروبا فقد بدأ كلاهما بتغذية الأحلام بأنه قد يكون بمقدور تركيا أن تصبح قوة رئيسية في الشرق الأوسط..
وبعد أن قام حزب العدالة والتنمية بتهميش مؤسسات الدولة التي أنشأها كمال أتاتورك، لم يستطع نجم تركيا في المنطقة لفترة من الزمن. وهذا ما حذا بوزير الخارجية أحمد داود أوغلو بالترويج لسياسة ” لا مشاكل مع الجيران” حيث استردت أنقرة علاقاتها مع أعداء الماضي مثل سوريا بشار الأسد. ولكن النجاح الأولي الذي حصدته تركيا استند إلى العلاقات مع حكومات قوية.
الاضطرابات السياسية التي أعقبت الثورات العربية وسقوط القادة المستبدين في تونس ومصر وليبيا، مجتمعة مع شعور قادة تركيا بالثقة بالنفس والاعتزاز بها، قد جعل أنقرة على خلاف مع معظم جيرانها.
اليوم، إن مقياس عزلة تركيا هو أن أكراد العراق، الذين جرت العادة على أن ينظر إليهم باعتبارهم يشكلون تهديداً، هم الآن أحد أقرب الحلفاء لهذه الدولة في الإقليم. إن العلاقات مع اسرائيل، التي سمحت لتركيا في وقت سابق بلعب دور الوسيط في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، قد انهارت بالفعل جراء أحداث أسطول سفينة مرمرة في غزة، والذي تسبب بوفاة عشرة أتراك في أيار عام 2010.
وفي آب 2011، بينما كانت سوريا تجتاحها القلاقل، قوض رئيس الوزراء أردوغان من العلاقات مع نظام بشار الأسد حيث توقع أن ينهار هذا النظام. ومع إطالة الصراع لشهور وسنوات وظهور صورة مشرذمة أكثر للمقاومة، كانت فيها الجماعات الجهادية تكستب مكانة مهمة، فإن الدول الغربية التي كانت في البداية تشجع تركيا على المشاركة، بدأت بتبني نهج أكثر حرصا.
تركيا، من ناحية أخرى، استمرت بالرهان على سقوط الأسد. وهناك اعتقاد بأنها تعاونت مع قطر لتقديم المساعدات للجماعات السنية المتطرفة مثل جبهة النصرة ودولة داعش وأنها سمحت للمقاتلين من العبور إلى أراضيها..
لقد تأثرت السياسة الخارجية التركية على نحو متزايد بميول قادة البلاد السنيين. انهارت علاقات أنقرة مع بغداد بعد أن دعمت تركيا المعارضين لرئيس الوزراء العراقي نوري المالكي قبل انتخابات عام 2010.تصاعدت حدة التوتر مؤخراً أيضاً مع تركيا، بعد تجاهل اعتراضات واشنطن، وإبرام اتفاق بشأن النفط مع الحكومة الإقليمية الكردية )حكومة إقليم كردستان)، الذي يسمح بتصدير النفط عبر ميناء جيهان العائد لها.
كانت الحكومة التركية أيضاً صريحة في دعمها لجماعة الإخوان المسلمين في مصر. عندما تمت الإطاحة بالرئيس محمد مرسي لدى استيلاء الجيش بقيادة الجنرال عبد الفتاح السيسي في يوليو عام 2013، اتهم رئيس الوزراء أردوغان إسرائيل بالتدخل. سعى رئيس الدولة في تركيا عبد الله غول باتجاه تحسين العلاقات المتدهورة، فقد قام بتهنئة السيسي بعد انتخابه بالرئاسة أيار عام 2014.
تغييرات دبلوماسية
في يونيو عام 2014، اضطرت الحكومة التركية لإجلاء المئات من مواطنيها من ليبيا، فضلاً عن دبلوماسيي القنصلية في بنغازي، وبعد أن أصدر مؤيدو الجنرال المتقاعد خليفة حفتر، الذين شنوا هجوماً ضد الإسلاميين في أيار عام 2014، تحذيراً إلى تركيا، حيث اتهموها بدعم الارهاب.
يبدو أن السلطات التركية قد أدركت بشكل متأخر أن الجماعات السنية المتطرفة تشكل تهديداً في المنطقة. في يونيو عام 2014، قامت الحكومة التركية بتحديث قائمتها للمنظمات الإرهابية، وأضافت جبهة النصرة كجماعة إرهابية على صلة بتنظيم القاعدة تعمل في سوريا والعراق. هذا ولم يكن دعمها للجماعات المتطرفة وقوداً للانقسامات الطائفية في البلدان المجاورة فحسب ولكنه كان يشكل خطراً من خلال تصدير الأزمة إلى تركيا، في الوقت الذي تعاني البلاد من أكثر من مليون لاجئ سوري تدفقوا عبر الحدود منذ بدء الصراع.
لقد أدت الاضطرابات إلى تحولً دبلوماسي كبير لدى دول الجوار. حيث تعيش العراق الآن على شفير الانقسام، حيث أعلن الزعيم الكردي مسعود بارزاني مؤخراً أن أكراد العراق سيسعون إلى الاستقلال. مثل هذه التصريحات، والاستيلاء التام للأكراد على مدينة كركوك النفطية، ومطالب التركمان والعرب أيضاً، قد أثارت كلها رد فعل قوي لدى السلطات التركية مؤخرا. ولكن يمكن ألا ترحب تركيا باحتمال قيام دولة كردية مستقلة، فإنه لم يعد من الممكن تصور أنها سوف تتسامح مع هذا الأمر.
أحيت أنقرة أيضاً محادثات السلام مع حزب العمال الكردستاني (PKK) والساسة الأكراد في البلد، وذلك من أجل معالجة المشكلة الكردية الخاصة بها. ولحرصه على الحصول على دعم الأكراد للانتخابات الرئاسية، قدم الرئيس أردوغان مؤخراً قوانين جديدة لتسهيل معالجة المشكلة، ولكن تظل التنازلات التي تقوم أنقرة بإعدادها لجعل الأمور العالقة المتبقية مقيدة بالحاجة من أجل تجنب استعداء القوميين الأتراك. لقد اكتسبت القضية الكردية أيضاً بعداً جديداً مع الأكراد السوريين لحزب الاتحاد الديمقراطي (PYD)، التابع لحزب العمال الكردستاني، والسيطرة على المناطق الحدودية الآن في شمال سوريا.
يمكن للمخاوف المشتركة إزاء ظهور متطرفي الدولة الإسلامية في العراق والشام “داعش” في كل من العراق وسوريا أن تؤدي إلى تعزيز المزيد من التعاون بين الخصمين القديمين ايران وتركيا. تحافظ الجارتين على علاقات اقتصادية قوية، ولكن توترت تلك الروابط منذ أن وجدوا أنفسهم على طرفي نقيض في الصراع السوري. خلال زيارته لأنقرة في شهر يونيو، صرح الرئيس الإيراني روحاني عزمه على تحسين العلاقات التجارية والدبلوماسية مع تركيا.
تعزيز التجارة كان جانباً هاما ًلسياسة أنقرة الخارجية في السنوات الأخيرة، حيث تتحرى تركيا أسواقاً بديلة لتعويض التباطؤ الاقتصادي في أوروبا. أصبح العراق ثاني أكبر شريك تجاري لتركيا بعد ألمانيا، حيث بلغت قيمة الصادرات التركية قيمة 12 مليار دولار في عام 2013. كما تمر البضائع التركية عبر العراق في طريقها إلى الخليج. وبالتالي ، فإن عدم الاستقرار المستمر قد يضر بالاقتصاد التركي.
ما زالت تركيا طرفا إقليميا له تأثيره، ولكن الأحداث الأخيرة أثبتت محدودية هذا التأثير. من المرجح أن تشجع المخاوف الأمنية تركيا العضو في الناتو على الاعتماد بشكل أكبر على حلفائها الغربيين على المدى الطويل، حتى لو تم تقويض العلاقات إلى حد ما بسبب خطاب رئيس الوزراء أردوغان المعادي للغرب وتزايد المخاوف بشأن المعايير الديمقراطية في تركيا.
سيتبين مع مرور الوقت إذا كانت الانتكاسات الدبلوماسية ستشجع القادة الأتراك على اعتماد نهج أكثر حذراً وواقعية. نظراً لازدياد التقلبات في المنطقة، يجب أن يكون التركيز الرئيسي على درء الأضرار ومنع تركيا من الانجرار إلى الفوضى والتوترات الطائفية على حدودها الجنوبية.