كميل جان حلو
أصدر معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام (SIPRI) مراجعته السنوية عن تجارة السلاح في العالم. وكالعادة، حلّت الولايات المتحدة في المرتبة الأولى ضمن أكبر مصدّري السلاح. كما ذكرت فوربس أن الولايات المتحدة هي مصدر نحو 39% من صفقات السلاح المهمة في العالم ما بين عامي 2017 و2021، أي أكثر من ضعفي روسيا ونحو عشرة أضعاف الصين. بل إن عدد مشتري السلاح الأمريكي قد بلغ 103 دولة أي أكثر من نصف الدول الأعضاء في الأمم المتحدة.
وغالبية صادرات الولايات المتحدة من الأسلحة، التي لا ينافسها أحد في هذا السوق، أو نحو 47% تحديدًا، تذهب إلى الشرق الأوسط حيث تستأثر المملكة العربية السعودية بالحصة الأكبر بفارق كبير عن أقرب الدول لها.
لكن ما المجمع الصناعي العسكري وكيف تشكّل؟
في كتابه الصادر عام 1935 بعنوان “War Is a Racket“، حذّر الجنرال السابق في البحرية الأمريكية، سميدلي بتلر، الشعب الأمريكي من الفساد المستشري في قلب آلة الحرب الأمريكية وشجب نفوذ المصالح التجارية وتأثيرها على قرارات الحكومة. وقد أورد في كتابه أن “الحرب تخدم مصالح القلة على حساب المصلحة العامة، فتكون الأرباح بالدولار والخسائر في الأرواح”.
وفي عام 1961، حذّر الرئيس الأمريكي أيزنهاور عبر خطاب متلفز مما أسماه “تنامي النفوذ غير المبرر للمجمع الصناعي العسكري”.
وما زال الحال كما هو رغم مرور عقود طويلة. إذ ما زلنا نرى فظائع بسبب مخاوف اقتصادية بسيطة، وما يزال المناهضون للحرب قلة بلا نفوذ. وبقيت الدول القوية وفية لعادتها: تشن حروبًا استنزافية لا نهاية لها في أفقر بلدان الأرض من أجل أهداف مالية غامضة يستحيل تحقيقها.
ومن ذلك أن كريغ ويتلوك كشف في كتابه “أوراق أفغانستان” أن الجنرالات الأمريكيين والمسؤولين في المناصب القيادية رأوا أن بلدهم لن ينتصر في أفغانستان، لكنهم ضللوا الرأي العام بشهادات ملفقة حتى تستمر الحرب لأن كل يوم يساوي زيادة في الأرباح بملايين الدولارات لمصنّعي السلاح.
فكانت صناعة السلاح تتواطأ مع رجال السياسة والجيش بوضوح سافر لجني ثروات ما كان لها أن تتحقق في وقت السلم.
الصناعة
يتكون المجمع الصناعي العسكري من شركات متعددة الجنسيات تفوق معظم الدول من حيث الثروة والنفوذ. وهو وراء معظم النزاعات والصراعات في العالم، لأنه تصب في مصلحته. وتشعل الشركات العاملة في مجال السلاح- مثل بوينغ، ولوكهيد مارتن، ورايثيون، وغيرها- هذه الصراعات بمنتجاتها، بينما تبقى بعيدًا في مأمن من هذه الأهوال تحتمي بحدود الدول الغربية المنيعة مثل الولايات المتحدة وكندا وبريطانيا وفرنسا، على سبيل المثال لا الحصر.
ودائمًا ما تسعى الشركات إلى زيادة هامش الربح بكل الوسائل القانونية المتاحة ما وسعها ذلك. ولمّا كان إنتاج العتاد العسكري وتوفيره مهمة الشركات الخاصة التي تبيعه إلى الحكومات لتحقق الأرباح المرجوة، أخذت الشركات الخاصة تضغط على المشرّعين ليسهّلوا خيار الحرب. لكن هذه الشركات تصل إلى مبتغاها بالرشوة في حقيقة الأمر، لكنها تُدفع بطرق ملتوية حتى لا تخالف القانون شكليًا. ولا فارق جوهريًا بينهما سوى أن الرشوة جريمة وما تفعله جماعات الضغط مباح.
ولا يصعب على المرء رؤية مآلات أفعال هذه الجماعات، فنحن نرى الإنفاق العسكري يرتفع ارتفاعًا جنونيًا في معظم بلاد العالم.
وقد ذكر البروفيسور جوناثان تورلي في مقال رأي على موقع الجزيرة في عام 2014 أن “الشركات العسكرية وشركات الأمن تحقق أرباحًا تُقدّر بتريليونات الدولارات مثلما حدث في ليبيا خلال الأيام العشر الأولى من الحرب، إذ أنفقت الإدارة الأمريكية نحو 550 مليون دولار. ويشمل هذا المبلغ نحو 340 مليون دولار للذخائر ومعظمها من صواريخ كروز التي تُستبدل باستمرار”.
السياسة
يكاد لا يخفى على أحد أن الحكومات تخدم الشركات الكبرى، وتلك حقيقة لا يمكن إنكارها. وقد أكدت دراسة أجرتها جامعة برينستون في عام 2014 أن تأثير الرأي العام على عملية التشريع في الولايات المتحدة “شبه منعدم“. إذ أن التشريع يلبي عادةً مصلحة الشركات.
وإذا ما تفكرت مليًا في عمل قادة أي دولة صناعية كبرى، فستجد أنهم باتوا مروّجين لصناعة السلاح. فلن يمر شهر دون أن تسمع مثلًا أن الرئيس الأمريكي قد أرسل أحدث طائرة بدون طيار إلى الإمارات، أو أن الرئيس الفرنسي استدعى سفراء بلده ليساعد شركة خاصة على بيع المزيد من الغواصات.
وما دام إلقاء القنابل مصدرًا رئيسًا لجني الثروات، فلن يرى أهل الدول النامية السلام أبدًا، لا سيما في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.
تزعم الولايات المتحدة أن تدخلها العسكري يأتي دائمًا لنشر الديمقراطية وحفظ السلام، لكن حقيقة الأمر أنها لا تُقدم على التدخل في بلد ما إلا لخدمة مصالحها. وقد كشف مركز بيو للأبحاث أن الجنود الأمريكيين أنفسهم الذين حاربوا في العراق لا يؤيدون الغزو. أمّا المتعاقدون العسكريون الذين جنوا 138 مليار دولار من الحرب، فقد كان الغزو فكرة عظيمة في رأيهم.
القوات المسلحة
القوات المسلحة هي الطرف الثالث في هذه العلاقة الوثيقة. صحيح أن الساسة والأوليغارشية أعلى من طبقة العسكريين في التراتبية الاجتماعية والقيادية، لكن تعاونهم أمر محوري لتستمر الحرب باعتبارها مشروعًا استثماريًا مضمونًا.
يتولى كبار الضباط ومسؤولي الاستخبارات تقديم التقارير عن حالة القوات المسلحة. ويمكنهم إن أرادوا صياغة التقارير وفقًا لأهوائهم وذلك للتأثير على قرارات الدولة. وقد كانت الادعاءات دون سند والبيانات الملفقة أحد أهم أسباب استمرار العمليات العسكرية الأمريكية في العراق وأفغانستان وسوريا.
ولا عجب إذن أن يتودد ممثلو صناعة السلاح إلى الجنرالات ويستعملون كل ما يملكون من أدوات الترغيب سواء كانت هدايا أو وعود بالتوظيف في المستقبل فضلًا عن تقديم خدمات معينة. وغالبًا ما تفشل التشريعات واللوائح التي تسعى إلى التضييق على أبواب الفساد تلك، لتبقى عملية الضغط على العسكريين ورجال الاستخبارات سهلة ويسيرة.
وليس المقصود من هذا أن الرشوة التقليدية قد اختفت من العالم، بل هي قائمة بالفعل في بيئة تعاني من كل هذا الفساد.
ولا تتوقف البشاعة على مجرد التربح من الحرب، بل إن آثاره تمتد إلى أبعد من ذلك. فالحرب تغيّر كل شيء، إذ تتوقف الأعمال، ويُقتل ملايين البشر، وينتشر التلوث ويتغير المناخ، وتصبح حياة الأجيال القادمة في خطر.
ولو يعلم الناس حجم التأثير البيئي للحرب لذُهلوا. إذ يستهلك الجيش الأمريكي وحده وقودًا سائلًا أكثر من معظم البلدان مجتمعةً والأمر نفسه ينطبق على حجم انبعاثات ثاني أكسيد الكربون، وذلك وفقًا لتقرير صدر عام 2019 عن جامعتي دورهام ولانكستر.