من المرجح أن يكون مستقبل قوات الحشد الشعبي بمثابة اختبار حاسم لقدرة العراق على تأكيد سيادته والتغلب على التأثيرات المتنافسة في الشرق الأوسط.

علي نور الدين
أكثر من أي وقت مضى، بات مستقبل قوّات الحشد الشّعبي موضع بحث في الحياة السياسيّة العراقيّة، وخصوصًا بعد تصريحات المرجع الشّيعي الأعلى في العراق علي السيستاني، التي دعت إلى حصر السلاح بيد الدولة ومنع كل أشكال التدخّلات الخارجيّة.
فتلك التصريحات جاءت كتصويب واضح باتجاه الحشد الشعبي، بوصفه مجموعة من الجماعات المسلّحة الموجودة خارج التشكيلات النظاميّة للجيش وقوى الأمن في العراق، فيما يمتلك جزء من هذه الجماعات ولاءات إيديولوجيّة أو ارتباطات سياسيّة خاصّة بطهران.
في هذا الملف بالذات، كان لتصريحات السيستاني الأخيرة تأثيرٌ خاص، لكونه صاحب الفتوى الدينيّة الشهيرة التي أسّست قوّات الحشد الشعبي عام 2014، لمواجهة تمدّد تنظيم “داعش” في العراق. غير أنّ تفاعل السجال المحلّي حول مستقبل الحشد يمكن فهمه أيضًا في ضوء التطوّرات الأخيرة على مستوى الشرق الأوسط، والتي أفضت إلى تآكل جزء من النفوذ الإقليمي الإيراني.
إذ يبدو أنّ كثير من القوى السياسيّة العراقيّة تتوجّس من تحويل بلادها إلى آخر الساحات التي تدافع فيها طهران بشراسة عن مصالحها، على حساب الاستقرار الداخلي في العراق.
عوامل خارجيّة ضاغطة على الحكومة العراقيّة
أبرز التصريحات التي أكّدت جديّة النقاش حول حلّ الحشد الشعبي، جاءت في ديسمبر/كانون الأوّل 2024 من مستشار رئيس الحكومة العراقيّة إبراهيم الصميدعي حيث أكّد هذا الأخيرصراحة أنّ “ثنائيّة الدولة والمقاومة ستنتهي”، والقرار السياسي “قادر على إنهاء هذه الحالة”. ولتبرير هذا الاتجاه، أشار الصميدعي إلى وجود ضغوط دوليّة وإقليميّة تدفع باتجاه تفكيك سلاح الفصائل المسلّحة، وضبط “السلاح المتفلّت خارج إطار الدولة”.
لم يوضح الصميدعي بشكلٍ صريح هويّة الجهات الدوليّة التي تضغط على العراق بهذا الاتجاه. غير أنّ عضو لجنة الأمن والدفاع النيابية مختار الموسوي كان قد أكّد قبلها عن وجود ضغوط أميركي لمعالجة هذا الملف، وحلّ الحشد الشعبي.
وفي الوقت عينه، أكّدت مصادر حكوميّة أخرى تلويح واشنطن بوقف “الدعم للنظام السياسي”، إذا استمرّت طهران باستغلال الساحة العراقيّة لتوجيه الرسائل الأمنيّة أو تنفيذ العمليّات العسكريّة.
أمّا الضغوط الإقليميّة التي تحدّث عنها الصميدعي، فيُرجّح أن يكون مصدرها دول مجلس التعاون الخليجي وتركيا. حيث تتوجّس جميع هذه الدول من وجود فصائل غير حكوميّة قادرة على تنفيذ عمليّات أمنيّة أو عسكريّة لمصلحة طهران، دون أن تتحمّل إيران المسؤوليّة المباشرة عن أعمالها.
مع الإشارة إلى أنّ السعوديّة تتبنّى الموقف الأكثر حدّة بهذا الخصوص، إذ اعتبرت المملكة تاريخيًا هذه القوّات مجرّد “تنظيم طائفي يقوده ضبّاط إيرانيون”، فيما تربط الرياض بين مساهمتها الماليّة في دعم العراق وتفكيك هذا التنظيم.
لا يمكن للحكومة العراقيّة تجاهل جميع الضغوط الخارجيّة، وخصوصًا إذا جاءت من الولايات المتحدة، المتحكمة باحتياطات العراق الدولاريّة المودعة في المصارف الأميركيّة. ومن المهم التنويه هنا بأنّ العراق يعتمد على الدولار الأميركي لتحصيل إيرادات تصدير النفط، التي تساهم وحدها بأكثر من 85% من الموازنة الحكوميّة.
وللتذكير، لطالما عانت البلاد من أزمات نقديّة متقطّعة، بفعل بعض القيود التي فرضتها الولايات المتحدة، على استخدام العراق لاحتياطاته المقوّمة بالدولار الأميركي.
وعلى المقلب الآخر، يحرص العراق على مُراعاة هواجس تركيا ودول الخليج العربيّة، التي تمثّل شريكًا استثماريًا لا غنى عنه للنهوض بالقطاعات الاقتصاديّة المحليّة. وقد يكون من المفيد الإشارة هنا إلى رهان رئيس الحكومة العراقيّة محمّد شيّاع السوداني، على تحويل العراق إلى مركز إقليمي لنقل السلع ومصادر الطاقة بين الخليج وتركيا.
وهذه الخطّة تقوم أساسًا على استقطاب الاستثمارات الخليجيّة والتركيّة لإقامة مشاريع البنية التحتيّة العملاقة، التي يفترض أن تنافس مشروعًا إيرانيًا يحمل الأهداف عينها.
التحوّلات الإقليميّة المؤثّرة
إلى جانب هذه الضغوط الخارجيّة، فقد شهد الشرق الأوسط مؤخرًا تحوّلات إقليميّة كبرى، بما فرض على القوى السياسيّة الشيعيّة العراقيّة مراجعة وضعيّة الحشد الشّعبي في المعادلة الداخليّة. فسقوط نظام الأسد في ديسمبر/كانون الأوّل 2024، أخرج الحرس الثوري الإيراني وحلفائه من الجغرافيا السوريّة بشكلٍ نهائيّ وتامٍ.
وعلى هذا الأساس، خسرت إيران نفوذها على مدى “المحور” الممتد من طهران إلى سواحل البحر الأبيض المتوسّط، عبر دمشق، والذي تدفّق عبره السلاح إلى حزب الله. بل اعتبر كثيرون الحدث بحد ذاته تفككًّا للمحور ذاته، بالنظر إلى الأهميّة الجيوسياسيّة التي لعبتها دمشق في ذلك المحور.
وقبل سقوط دمشق بيد المعارضة السوريّة المسلّحة، كانت الحرب الإسرائيليّة على لبنان قد أفضت إلى تدمير خطوط إمداد السلاح التي استفاد منها حزب الله، بين لبنان سوريا.
وبعد الحرب، فرض اتفاق وقف إطلاق النار بين الطرفين، حزب الله وإسرائيل، تراجع الحزب إلى ما وراء نهر اللّيطاني، ناهيك عن وضع إجراءات خاصّة لضبط المعابر الحدوديّة اللّبنانيّة ومنع مرور السلاح عبرها. وهذا ما بدا بدوره انكفاءً لنفوذ طهران، وتراجعًا في قدرتها على التأثير في المشهد الإقليمي.
أمام هذا المشهد، كان من الطبيعي أن يخشى طيفٌ واسعٌ من القوى السياسيّة العراقيّة، من محاولات طهران التعويض عن تراجع نفوذها في لبنان وسوريا، عبر زيادة تدخّلاتها في الشأن العراقي الداخلي.
وعلى الرغم من امتلاك الجزء الأكبر من القوى السياسيّة الشيعيّة العراقيّة علاقات جيّدة مع إيران، يبقى واضحًا حرص غالبيّة هذه القوى على عدم توريط العراق في نزاعات إقليميّة لمصلحة طهران، بما يمكن أن يوتّر علاقة بغداد بواشنطن أو الرياض.
برز هذا الميل لدى القوى السياسيّة الشّيعيّة العراقيّة خلال فترة تقدّم المعارضة السوريّة المسلّحة باتجاه دمشق. فعلى الرغم من استنجاد الأسد بفصائل الحشد الشّعبي العراقي، قبيل سقوطه، كان هناك شبه إجماع سياسي عراقي على رفض انخراط البلاد في حرب خارج الحدود، داخل سوريا.
وبخلاف ما جرى في حقبات سابقة خلال الحرب الأهليّة السوريّة، لم تسمح السلطات العراقيّة بتدفّق المقاتلين العراقيين إلى الداخل السوري. وعلى هذا النحو، لم تتمكن طهران من توجيه حلفائها العراقيين، لمنع سقوط الأسد.
وتجدر الإشارة إلى أنّ القوى الشيعيّة داخل تحالف “الإطار التنسيقي”، الأكثر تأثيرًا داخل الحكومة في العراق، امتلكت تاريخيًا علاقة سياسيّة إيجابيّة بإيران. بل إن هذا التحالف يضم بعض القوى التي يمكن اعتبارها حليفة لطهران. لكنّ الحكومة ومعظم مكوّناتها تحرص في الوقت عينه على توازن علاقاتها الخارجيّة ما بين إيران من جهة، والغرب والدول العربيّة من جهة أخرى.
وكثير من هذه القوى ترغب بسياسة خارجيّة عراقيّة “صديقة” لطهران، لكن دون إعطاء مساحة للتدخلات الإيرانيّة داخل العراق، ومن دون ترك السلاح المتفلّت داخل العراق كورقة ضغط بيد إيران.
أمّا الصوت المُعارض الشّيعي الأبرز، مقتدى الصدر، فيبدو أكثر صراحة في مناوأة نفوذ إيران وتدخلاتها داخل العراق. وبالمثل، تمتلك القوى السياسيّة الكرديّة والسنيّة حساسيّة خاصّة إزاء التدخلات الإيرانيّة داخل العراق، بما في ذلك وجود بعض الفصائل المرتبطة بالحرس الثوري الإيراني، داخل قوّات الحشد الشّعبي العراقي.
تباينات داخل الحشد الشّعبي
من الجدير أوّلًا التنويه إلى وجود تنوّع كبير بين فصائل الحشد الشّعبي ذاتها، التي تنتمي إلى اتجاهات إيديولوجيّة مختلفة، وتمتلك أولويّات متباينة. فنحو نصف فصائل الحشد الشّعبي الشيعيّة تتبع لمرجعيّات سياسيّة ودينيّة محليّة، من دون أي ارتباط بطهران وتوجّهاتها.
ونحو ثُلث مقاتلي الحشد ينتمون إلى الأقليّة السنيّة أو الأقليّات الدينيّة الأخرى، ولا يمتلكون أيضًا أي روابط عقائديّة بإيران. وعلى هذا النحو، يمكن أن القول أنّه من الممكن معالجة وضعيّة هذه الشرائح من الحشد الشّعبي العراقي، بقرارٍ سياسي أو غطاء ديني من السيستاني.
غير أنّ المشكلة الرئيسة ستكمن في كيفيّة التعامل مع “الفصائل الولائيّة” داخل الحشد، أي تلك التي تتبع عقائديًا وسياسيًا إلى مرجعيّة المرشد الأعلى للثورة الإسلاميّة في إيران علي خامنئي.
وحتّى هذه اللّحظة، لا يبدو أنّ هذه الفصائل مستعدّة للمساومة على مستقبل وجودها. وهذا ما برز في تصريحات الأمين العام لكتائب سيد الشهداء –إحدى فصائل الحشد- أبو آلاء الولائي، الذي اعتبر أن الحشد الشّعبي هو “حلّ لما لا حلّ له، ولا حلّ له”. هذه العبارة، كانت إشارة مباشرة للتجاذب الذي لن يكون بالإمكان تفاديه، قبل معالجة مسألة “السلاح خارج الدولة” في العراق.
ومن المبكر الجزم اليوم بحتميّة الاتجاه نحو حل الحشد الشّعبي أو دمجه بالجيش العراقي، خلال الفترة المقبلة، إذ ثمّة تعقيدات سياسيّة واضحة محيطة بهذه المسألة. لكنّ المؤكد هو أنّ السلطات العراقيّة تملك بيدها أوراق قوّة، تسمح بمعالجة المسألة في حال امتلاكها قرار سياسي بهذا الشأن، بالنظر إلى اعتماد الحشد الشّعبي على الموازنة العامّة العراقيّة لتأمين استمراريّته.
وعلى الرغم من التنظيم والتجهيز الجيّد للفصائل الموالية لإيران، لا يبدو أنّ هذه الفصائل تملك حتّى اللّحظة أغلبيّة موالية سياسيًا لها في الشارع العراقي، بل وحتّى داخل الحشد الشّعبي المتنوّع عينه.