وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

الصوم الكبير في الشرق الأوسط: طقوس متنوعة وتوبة عن الخطايا

استكشف تقاليد الصوم الكبير في الشرق الأوسط وتعرف على القيود الغذائية والأطباق النموذجية والصلوات اليومية التي لوحظت خلال هذا الموسم.

الصوم الكبير في الشرق الأوسط
المسيحيون الأقباط الأرثوذكس يؤدون صلاة الجمعة العظيمة في دير القديس سيمون ، المعروف أيضًا باسم كنيسة الكهف، في جبل المقطم بالعاصمة المصرية القاهرة في 22 أبريل 2022. خالد دسوقي / وكالة الصحافة الفرنسية

دانا حوراني

تمثّل بداية الصوم الكبير عند مسيحيي الشرق الأوسط بداية فترة خاصة يعقبها ذكرى صلب السيد المسيح وقيامته. فوفقًا لأناجيل متّى ومرقس ولوقا، صام يسوع في الصحراء أربعين يومًا، وحاول إبليس أن يجرّبه خلال تلك الفترة. ولذلك يصوم المسيحيون 40 يومًا أيضًا.

يُسمى الصوم الكبير في اللغة الإنجليزية “لينت” أو Lent، وهي كلمة إنجليزية قديمة تعني “إطالة“. وتتزامن بداية الصوم الكبير مع ساعات النهار الأطول مع اقتراب الانقلاب الصيفي. وينعكس التغيّر التدريجي من الشتاء إلى الربيع إلى الصيف في تجديد إيمان المرء وتطهير روحه.

ويرى المسيحيون في عيد الفصح زمن فرح يأتي مع ذكرى قيامة يسوع المسيح، لكن هذه الشعائر يجب أن تسبقها فترة من التوبة والتأمل والتخلّي. ويختلف موعد بداية الصوم الكبير بحسب كل بلد، فقد يبدأ في اثنين الرماد الذي يحلّ هذه السنة في (20 فبراير)، أو أربعاء الرماد (22 فبراير).

وما يزال هذا الصوم في منطقة الشرق الأوسط،، مهد الأديان السماوية كلها، ذا أهمية كبيرة عند كثير من المسيحيين. فعلى الرغم من تناقص عددهم، الًا أنّهم ما يزالون يتوارثون هذه الطقوس الدينية من جيل إلى جيل. وتمارس الطوائف المسيحية المتنوعة تقاليد فريدة يرى الخبراء أنها مهددة بالزوال مع ابتعاد مزيد من الشباب عن الالتزام بما يفرضه الدين.

أهمية الصوم الكبير

تروي الأناجيل أن يسوع المسيح قد صام عن الطعام والشراب أربعين يومًا وليلة. وقاد السيد المسيح أتباعه ليخلّصوا أنفسهم من ظُلمات التجارب ليدخلوا الشِركة الإلهية بقلب طاهر وروح خالصة.

وعادةً ما يتخلّى الناس عن الأشياء التي يستمتعون بها خلال الصوم الكبير، كالإمساك عن طعام معين أو ترفيه ما.

واحترامًا للتقاليد، قد يمتنع الأشخاص عن عاداتهم السلبية التي يمارسونها، مثل الإفراط في تناول الحلوى واللحوم، أو الإدمان على التدخين أو وسائل التواصل الاجتماعي.

ويسعى الصائمون إلى الإكثار من الودّ بإظهار اللطف والاهتمام بالآخرين والإحسان إليهم.

ويُعدّ أربعاء الرماد واثنين الرماد من أهم أيام هذا الموسم، وفيه يرسم الكهنة الصليب على جباه المصلّين إشارةً إلى الفناء، ويتلو الكاهن في أثناء ذلك آية “اذكر يا إنسان أنك من التراب وإلى التراب تعود”.

وفي أحد السعف (أحد الشعانين)، يحتفل المسيحيون بدخول يسوع المسيح منتصرًا إلى أورشليم.

وفي خميس الأسرار (خميس العهد)، يتفكّر مسيحيو العالم كله في الليلة الأخيرة قبل الجمعة العظيمة. ويُحيي هذا اليوم في أسبوع الآلام ذكرى غسل الأرجل وعشاء يسوع المسيح الأخير مع تلاميذه كما رُوي في الأناجيل الأربعة. وتأتي بعد ذلك الجمعة العظيمة التي تُحيي ذكرى صلب السيد المسيح وموته في جلجثة.

يلي ذلك أحد القيامة (الفصح) لإحياء ذكرى انتصار يسوع المسيح على الموت من خلال معجزة القيامة.

وطوال هذا الموسم، يسعى الصائمون إلى التفاني في عبادتهم بزيادة الصلاة والمشاركة في القداس.

الصوم الكبير في الشرق الأوسط

وفقًا للتقاليد المسيحية، تحتفل الكنيسة الرومانية الكاثوليكية والكنيسة الأرثوذكسية الشرقية بعيد الفصح وعيد الميلاد المجيد في أيام مختلفة. ويبدأ موسم الصوم عند البروتستانت والكاثوليك في 22 فبراير وينتهي في 8 أبريل وفقًا للتقاليد الغربية.

من ناحية أخرى، تبدأ كنيسة الروم الأرثوذكس بالصوم من اثنين الرماد في 27 فبراير حتى مساء سبت النور التي يعقبها عيد القيامة يوم الأحد في 15 أبريل.

رغم اختلاف عادات الصوم الكبير بين الكنائس والطوائف المختلفة، فإن التخلّي والتأمل ركنان أساسيان لديها جميعًا.

يلتزم أتباع الكنائس الشرقية، مثل الروم الأرثوذكس والكاثوليك الشرقيين، بنظام غذائي نباتي جزئي أو كلي، كما يمتنعون عن تناول وجبة الإفطار.

أما أتباع الكنائس الأخرى، فيختارون ما يريدون الامتناع عنه تكفيرًا عن ذنوبهم، سواءٌ كان طعامًا أو عادة سيئة. لكن يبقى الامتناع عن تناول اللحوم واجبًا في أيام الجمعة خلال الصوم الكبير حسب التقاليد الغربية.

وتتبع الكنيسة المارونية، وهي كنيسة شرقية بارزة في الشام، الكنيسة الرومانية الكاثوليكية، وتحتفل في يوم الجمعة العظيمة بإقامة قدّاس كنسي خاص لإحياء ذكرى موت يسوع المسيح. ومن ضمن التقاليد أن يسير موكب من المؤمنين وهم يحملون صليبًا في زيّاح على مختلف القرى والبلدات. وما يزال هذا الطقس مستمرًا في لبنان وفلسطين وسوريا وأماكن أخرى من المنطقة.

ويمتنع الموارنة عن تناول الطعام والشراب (باستثناء الماء والدواء) امتناعًا إلزاميًا من منتصف الليل حتى ظهيرة كل يوم. ورغم أن القيود غير صارمة، فإن تناول اللحوم ممنوع البتة في اثنين الرماد والجمعة العظيمة.

في لبنان

قالت ريما نصرالله، أستاذة الليتورجيا في كلية اللاهوت في الشرق الأدنى في بيروت، لفنك إن وتيرة القداديس تزداد في الكنائس خلال موسم الصوم الكبير. إذ تُخصص أيام الجمعة للصلوات التي تركّز على التفكّر في صلب المسيح، وتُؤجّل حفلات الزفاف إلى ما بعد عيد الفصح.

وأوضحت نصرالله أن المسيحيين الأرمن يمتنعون كليًّا عن تناول الأسماك، بينما يأكله الروم الأرثوذكس فقط في عيد البشارة يوم 25 مارس. أما البروتستانت، فيصومون كيفما يشاؤون.

وقالت: “في العقيدة البروتستانتية، قد يؤدي الامتناع عن العادات السلبية إلى تقوية روحانية المرء دون الحاجة إلى فرض قيود غذائية”. وأضافت: “يُحثّ المؤمنون على تقوية إيمانهم الروحي بقراءة الكتاب المقدس والامتناع عن استخدام وسائل التواصل الاجتماعي والتخلص من العادات التي تشتت الانتباه عن الدين”.

ومن الأطباق الشهيرة التي يقبلون على تناولها في هذا الموسم “المجدّرة”، وتتكون من العدس والأرز والبصل المقلي؛ والهندبة المقلية، وهو طبق يعتمد على الهندباء البرية؛ ومنقوشة الزعتر؛ وكعك السفوف، ويُستخدم فيه الكركم.

وأضافت نصرالله أن الكنائس تقيم في الأسبوع الأخير قبل عيد الفصح صلوات يومية، وتحثّ أتباعها على الصوم في هذا الأسبوع إذا كانوا لم يصوموا من قبل.

تُعرف الأيام الأخيرة من الصوم الكبير باسم أسبوع الآلام، وفيها يحتفل المسيحيون ب بذكرى اختيار السيد المسيح الصلب والموت والتضحية بنفسه تكفيرًا عن خطايا البشرية.

وقالت: “يُحيي هذا الأسبوع ذكرى الخطوات التي اتخذها المسيح قبل صلبه. إذ يستعرض عديد من الكنائس الأحداث الرئيسة التي قام بها يسوع المسيح خلال هذا الأسبوع، مثل العشاء الأخير وغسل أرجل التلاميذ”.

بين القديم والجديد

كشفت استطلاعات الرأي عن تراجع الالتزام بممارسة الشعائر الدينية بين الأفراد في لبنان بنسبة 43% على مدار العقد الماضي. لكن نصرالله أوضحت أن العديد من الشباب المسيحيين ما يزالون يحافظون على العقيدة والتقليد، وأحيانًا يبدون أكثر تمسّكًا بها من جيل آبائهم.

واستشهدت باهتمام الشباب بالطعام النباتي وأهميته البيئية وعلاقته بفلسفة الزهد (minimalism)، وهو أسلوب حياة أصبح رائجًا بين الشباب المهتمين بالبيئة.

وأضافت: “بعض الطقوس ستتأقلم وتصبح عصرية، بينما قد تختفي طقوس أخرى”.

وتصف نصر الله التغيّرات التي شهدها المجتمع على مرّ الزمن وكيف كانت الحياة في القرى تسودها المشاركة والتعاون قبل الهجرة الجماعية إلى المدن في مطلع القرن التاسع عشر.

وأشارت إلى أن الصوم الكبير كان يتميّز بإحساس أكبر بالروابط الدينية، فالناس كانوا يحضرون إلى الكنيسة معًا ويتشاركون الطعام. ومن بين التقاليد التي ترى أنها اختفت طقس سبت لعازر السابق لأحد السعف مباشرةً، وفيه يقلّد الأطفال مشهدية قيامة لعازر من خلال زيارة منازل مختلفة وتلقّي الحلوى.

ومن أغرب الطقوس التي تناقلتها الأجيال كرنفال “زامبو“، وعادةً ما يُقام في طرابلس قبل الصوم الكبير عند الروم الأرثوذكس. وفيه يرسم الناس على أجسادهم، ويرتدون أزياء وقبّعات غريبة، ويتجولون في الشوارع وهم يهتفون “زامبو!”. وما تزال أصول الكرنفال وأسبابه مجهولة حتى يومنا هذا.

ويتشارك لبنان وسوريا وفلسطين العادات الدينية. إلا أن الاضطرابات الاجتماعية والسياسية في سوريا المنكوبة خلّفت ظروفًا اقتصادية عسيرة وصلت آثارها إلى الكنيسة وأتباعها من السوريين.

اجتمع المسيحيون في حلب للصلاة في أربعاء الرماد وسط دمار هائل ومعاناة فظيعة، إيذانا ببدء وقت الصوم والصلوات. وقد أفاد المركز المسيحي للإعلام أن النازحين واللاجئين الذين استُقبلوا في كنيسة القديس فرنسيس في حلب قد شاركوا في صلاة درب الصليب في أول يوم جمعة من الزمن الأربعيني.

في فلسطين

يتبع كنيسة الروم الأرثوذكس السواد الأعظم من المسيحيين في فلسطين. كما تُوجد طوائف أخرى مثل اللوثريين والأنجليكان والروم الكاثوليك.

ماتيوس القسيس، مراقب اجتماعي من بيت جالا القريبة من مسقط رأس المسيح في بيت لحم، قال لفنك إن الاختلافات الكبيرة في الاحتفال بالصوم الكبير بين قرى فلسطين ومدنها الكبرى تكمن في الحياة التشاركية.

وأضاف: “ما يزال أهل القرى يأكلون مع المصلّين بعد حضور قدّاس العصر”.

ويقول إن بيت لحم وبلدتي بيت جالا وبيت ساحور المجاورتين ما زالت تتمتع بروح مجتمعية راسخة.

في يوم الجمعة العظيمة، يُعاد تمثيل دفن السيد المسيح في ما أصبح يُعرف باسم “موكب الجنازة”، والذي يتضمن احتفالًا يشمل تلاوة الصلوات وقراءات من الأناجيل والترانيم التي يرنّمها المصلّون. وبعد ذلك يتحلّق المصلّون وهم يحملون نعشًا يرمز إلى نعش يسوع المسيح، وترافقهم جوقة وفرقة من أعضاء الكشافة.

وذكر ماتيوس القسيس طقسًا مهمًا آخر هو السّير في طريق الآلام (باللاتينية Via Dolorosa)، والذي يتضمن القيام بمراحل درب الصليب الأربع عشرة مرحلة.

وأوضح: “عقيدة الروم الأرثوذكس تسمح لنا بتناول الطعام بعد الظهيرة، لكن بعض الناس مضطرون إلى الاستيقاظ في الرابعة أو الخامسة فجرًا ليجتازوا مسافة طويلة إلى أعمالهم”. وأضاف: “قد توقفهم نقاط التفتيش الإسرائيلية لساعات طويلة، لذلك يُعفون من الصوم”.

يجد المسيحيون الفلسطينيون صعوبة كبيرة في الوصول إلى القدس في وقت عيد الفصح، إذ ينبغي لهم أن تصدر لهم السلطات الإسرائيلية تصاريح حتى يُسمح لهم بدخول المدينة والصلاة في كنيسة القيامة، وعادةً ما تُمنح تلك التصاريح لعدد قليل جدًا.

وقال ماتيوس القسيس: “ما يزال المؤمنون يذهبون إلى هناك رغم مشكلات التصاريح. فهي تظلّ جزءًا مهمًا من الاحتفال بعيد الفصح وإن لم يدخلوا الكنيسة”.

في مصر

في موسم الصوم الكبير، يصوم المسيحيون الأقباط صيامًا طويلًا يمتنعون فيه عن أكل اللحوم ومنتجات الألبان طوال 55 يومًا كل عام، وهي من الشعائر التي يحافظ عليها أتباع الكنيسة القبطية. كما يخصص التقويم القبطي نحو 210 يومًا للصوم طوال السنة.

وفقًا للباحث القبطي ماركو الأمين، تقيم الكنيسة القبطية تقيم قداسًا يوميًا يترافق مع صيام الناس حتى الثالثة عصرًا. وقد أوضح أن إفطار الصوم القبطي في الأصل كان وقت غروب الشمس دون استثناء لأي طعام.

وقال لفنك: “لكن الكنيسة القبطية قسّمت الصيام إلى نوعين تخفيفًا على أتباعها واستجابةً لمتطلبات الحياة الحديثة وساعات العمل الطويلة”. وأوضح: “أصوام الدرجة الأولى هي الأشدّ، إذ يلتزم فيها الناس بنظام غذائي نباتي، ويُمنع تناول السكر، وكذلك العلاقة الحميمة بين الزوجين”.

وأضاف أن أصوام الدرجة الثانية تكون أخفّ لأنه مسموح فيها بتناول الأسماك والسكر.

وقال: “يحضر الناس إلى الكنيسة بأعداد كبيرة لأنهم يشعرون بقربهم منها في ذلك الموسم. وتقيم الكنيسة مزيدًا من القداديس، وتزيد الصلوات، وتؤكد مرارًا على الغفران والتوبة في ترانيمها وتراتيلها”.

وأوضح أن الكنيسة تقيم قداديس في الصباح والمساء خلال الأسبوع الأخير من الصوم الكبير.

والعدس من الأطباق الشعبية التي يأكلها الأقباط. ويقول الأمين إنها كانت تُؤكل في الأصل في يوم خميس العدس المعروف أيضًا باسم خميس العهد. وفي يوم الجمعة العظيمة، يصوم الأقباط من منتصف الليل حتى السابعة مساءً، ويفطرون على شوربة الفول النابت.

وأوضح الباحث أن الأطفال يتعلّمون في مدرسة الأحد إلى جانب مشاركتهم في المسابقات والأنشطة والمهرجانات الدينية. وهكذا تُحفظ العادات القبطية، مثل الصوم الكبير، وتتناقلها الأجيال على مرّ الزمان.

في المغرب

يتبع ثلثا المسيحيين المغاربة المذهب الكاثوليكي، بينما يتبع الباقي المذهب البروتستانتي.

ويقول الناشط المغربي رشيد إمونان إن البروتستانت يصومون صومًا روحيًا فحسب من دون تأدية أي طقوس جسدية.

وقال لفنك: ” الصوم عندنا -نحن البروتستانت- وسيلة للتقرّب من الله ولا يتطلّب أي عمل تُفرض فيه قيود على الطعام”.

ويضيف إمونان أنه لتحقيق الاتحاد بالله، قد يحتاج كل شخص إلى خوض معركته الروحية الشخصية التي تتطلب تضحية فريدة، كأن يتخلّى المرء عن شرب الكحول، أو تناول الحلوى، أو النميمة، أو الغضب، إلخ.

وأوضح أن البروتستانت المغاربة لا يمارسون أي طقوس مختلفة عن طقوسهم الكنسية المعتادة، على عكس الطوائف المسيحية الأخرى.

وأضاف: “لكنني قلق على مستقبل ديننا، إذ يبدو أن الأجيال الشابة لم تعد مهتمة بالممارسات الدينية. ففي مثل هذه الأوقات، عندما يكون العالم مضطربًا ومأزومًا، نحتاج إلى أن نتمهّل ونلجأ إلى الله”.

Advertisement
Fanack Water Palestine