غالباً ما يتم الإشارة إلى الوهابية باعتبارها ما يُشبه مِلة من الإسلام السُني والتي تعدّ مسؤولة عن تطرف الشباب في جميع أرجاء الشرق الأوسط وخارجه. إلا أن الحركة أكثر من كونها مجرد أيديولوجية محافظة للغاية؛ إذ أنها أيضاً نظامٌ سياسي.
ظهرت هذه الأيديولوجية لأول مرة في منطقة نجد، التي أصبحت اليوم جزءاً من المملكة العربية السعودية، في القرن الثامن عشر. ويُشير ديفيد لونغ، المتخصص في شؤون المملكة العربية السعودية والإرهاب الدولي، إلى أن الوهابية في جوهرها هي حركة إصلاحية رجعية وأصولية.
ومنذ البداية، كانت الوهابية منغلقة للغاية. فقد كان محمد عبد الوهاب، الأب الروحي للحركة، تلميذاً للمدرسة الحنبلية في الفقه الإسلامي، والتي تعدّ أكثر المذاهب تشدداً في الإسلام السُني. كما تأثر إلى حدٍ كبير بالشيخ الأصولي ابن تيمية، الذي دافع عن مذهبٍ ديني يستند إلى القرآن والسُنّة.
وهكذا رفضت الوهابية المبكرة أي ممارساتٍ أو معتقداتٍ انحرفت عن هاتين النقطتين المرجعيتين. وبالتالي، فليس من المستغرب أن تعاليم عبد الوهاب كانت معادية للغاية للمسلمين الشيعة، فضلاً عن اليهود والمسيحيين، الذين يُشير إليهم القرآن بـ”أهل الكتاب.”
وعلى الرغم من إنتشار رسالة عبد الوهاب على نطاقٍ واسع، خشي العديد من الأمراء من المصلح المتطرف ومن تكتيكاته الوحشية. وفي النهاية، وجد له ملاذاً في مدينة الدرعية، الواقعة على مشارف الرياض، بعد أن تم نفيه من واحةٍ مجاورة. رحب حاكم الدرعية، محمد بن سعود، بعبد الوهاب ووعده بالحماية.
أبرم الرجلان اتفاقاً، فقد وعد بن سعود بدعم توسع حركة عبد الوهاب عبر الجهاد، ووافق على منحه استئثاراً بتفسير النصوص الإسلامية. وفي المقابل، أصبح بن سعود الزعيم السياسي للحركة الوهابية. مهد هذا التحالف، الذي ولد عام 1744، الطريق أمام إنشاء المملكة العربية السعودية عام 1932.
بدأت القبائل من جميع أنحاء شبه الجزيرة العربية بالإتحاد مع الدرعية، إما لأنهم كانوا مقتنعين بتعاليم عبد الوهاب أو لأنهم كانوا يخشون من أن يتم مداهمة بلداتهم ونهبها إذا ما رفضوا. وتماماً كما هو الحال في المملكة العربية السعودية اليوم، لم يُسمح لإحدٍ مطلقاً بالتشكيك في تعاليم عبد الوهاب.
بعد وفاة عبد الوهاب، واصل أحفاده (آل الشيخ) السيطرة على الشؤون الدينية في ظل الحكم السعودي. وحتى يومنا هذا، يواصلون إضفاء الشرعية على آل سعود الذين يحكمون البلاد من خلال تأييد الخلافة والمصادقة على قرارات الملك. في المقابل، تتقلد عائلة الشيخ مناصب متميزة، بما في ذلك مناصب في وزارة التربية والتعليم ووزارة الشؤون الإسلامية.
وبالرغم من التحالف طويل الأمد، حاول بعض الحكام السعوديين الحدّ من تأثير الأصول الوهابية للمملكة من خلال تحديث الدولة تدريجياً. فقد أطلق الملك فيصل بن عبد العزيز، من بين جملةٍ من الأمور، أول بثٍ تلفزيوني وروّج للتعليم العام للنساء. ومع ذلك، لم تحظى قراراته بشعبية لدى الكثير من داخل المؤسسة السعودية، بما في ذلك ابن أخيه الذي اغتاله في عام 1975.
وبعد أربع سنوات، في عام 1979، تم الاستيلاء على المسجد الحرام في مكة من قبل مجموعة من المتمردين، بقيادة جهيمان العتيبي الذي أعلن أن صهره هو المهدي المنتظر. ووفقاً للقرآن، سيحكم المهدي لعدة سنواتٍ قبل يوم القيامة.
وعلى مدى أسبوعين، قُتل مئات الحجاج وقوات الأمن أثناء محاولة إستعادة السيطرة على الحرم. اعتقد الكثيرون في المؤسسة السعودية أن الحادث كان عقاباً من الله لعدم التزامهم بالتعاليم الدينية الصارمة للوهابية. ردت المملكة بتشجيع الوهابية، وقمع المواطنين الذين يعتقد أنهم ينتهكون العقيدة. المفارقة كانت ملفتة للنظر، فقد قُتل العتيبي ورجاله، إلا أن نظرتهم للعالم سادت.
وفي العام نفسه، اندلعت الثورة الإيرانية، مما أدى إلى تأسيس الجمهورية الإسلامية. ولعقود، عملت السعودية على تمويل المتمردين والحلفاء القمعيين في جميع أنحاء العالم لتعويض تأثير الشيوعية. واليوم، تُصدر المملكة أيدولوجيتها لمواجهة إيران.
وتشير معظم التقديرات إلى أن السعودية أنفقت عشرات المليارات من الدولارات لتشجيع الحركات الإسلامية الرجعية في الخارج. وإذا ما كان هذا صحيحاً، فإن هذا المبلغ يفوق بكثير الأموال التي استثمرها الاتحاد السوفييتي في الشيوعية.
وعليه، من غير المستغرب أن السياسة الخارجية للمملكة العربية السعودية قد عانت من رد فعلٍ عنيف. والمثال الأكثر شهرة على ذلك هجمات الحادي عشر من سبتمبر على برجي مركز التجارة العالمي، ذلك أن 15 من خاطفي الطائرة الـ19 كانوا من المواطنين السعوديين. وفي حين كان من الأسهل تجنيد السعوديين لإنجاز المهام أكثر من غيرهم من الجنسيات العربية الأخرى بسبب القوانين الأكثر تيسيراً لحصولهم على التأشيرات، كان من الواضح أن المهاجمين السعوديين يُشاركون وجهات نظرٍ مشابهة لتلك التي يحملها غالبية رجال الدين الوهابيين المحافظين في المملكة. بل إن ما هو أكثر إثارةً للجزع أن بعض المسؤولين الأمريكيين يدعون أن هناك أدلة تُشير إلى تورط أعضاءٍ من الحكومة السعودية في تسهيل المهمة.
ومع ذلك، أصبحت المملكة حليفاً رئيسياً في ما يسمى بالحرب على الإرهاب. ويدعي وليام ماكانتس، الباحث في معهد بروكينغز، أن السعوديين هم “من يشعلون النيران وهم ورجال الإطفاء،” عندما يتعلق الأمر بمكافحة التطرف الإسلامي.
وقال لصحيفة نيويورك تايمز: “إن السعوديين يروجون لشكلٍ سام جداً من الإسلام الذي يرسم خيوطاً رفيعة جداً بين فئةٍ ضئيلة من المؤمنين الحقيقيين والآخرين بالمجمل، سواء كانوا من المسلمين أو غير المسلمين.” وأضاف “يوفر [السعوديون] علفاً أيديولوجياً للجهاديين العنيفين. ومع ذلك، فإنهم في نفس الوقت [شركاء أمريكا] في محاربة الإرهاب.”
وتشتمل الجماعات الإرهابية التي كانت إما مدعومةً أو مستوحاةً من الوهابية، والنظام السياسي الذي تكاثرت فيه، على تنظيم القاعدة وتنظيم الدولة الإسلامية “داعش.” ومن عجيب المفارقات أن هذه الجماعات كانت أكثر تعصباً للدين من المملكة نفسها. وكحال العتيبي، قاموا بترويع المملكة لعلاقاتها الودية مع “الغرب.” ففي عام 2016، نفذ تنظيم الدولة الإسلامية ما يصل إلى 25 هجوماً مختلفاً داخل المملكة على مدار ثمانية أشهر.
وبالتالي، إدراكاً للتهديد الذي يُشكله المتطرفون الإسلاميون على آل سعود، قال ولي العهد محمد بن سلمان إن الوقت قد حان “لعودة” المملكة إلى الإسلام المعتدل- وهو عصرٌ يقول الكثير من العلماء أنه لم يكن موجوداً في المملكة العربية السعودية.
ومع ذلك، يأمل المراقبون أن ينجح محمد بن سلمان في كبح جماح تأثير رجال الدين الوهابيين. ومرةً أخرى، لا يبدو أن سياسته الخارجية توفر وسيلةً فعّالة لمكافحة الإرهاب. وتعتبر الحرب المدمرة التي تشنها السعودية على اليمن مثالاً على ذلك. فمع الإنقسامات الكبيرة التي تعاني منها البلاد اليوم، أصبح اليمن موطناً لإزدهار المتطرفين.
وفي غضون ذلك، لا تزال العلاقة بين الوهابية والتطرف الجهادي مثيرةً للجدل. فعلى سبيل المثال، يتأمل ديفيد لونغ بالعوامل المتعددة التي تدفع شخصاً ما لإرتكاب أعمالٍ إرهابية باسم أيديولوجيةٍ ما، سواء كانت دينية أو علمانية. وبالنسبة له، ليست العقيدة ما يضطر شخصاً ما إلى اللجوء إلى العنف، بل “العداء الموجود مسباقاً في عالمٍ مرهق.”
وعلى حد قوله، “هناك بالتأكيد وهابيون مثيرون للفتن ممن يلتزمون ويشجعون الإرهاب الجهادي المعاصر، إلا أن عدائهم لا ينبع من عقائد حركة الإصلاح الديني الأصولية لابن عبد الوهاب.” ويُضيف “وعلاوة على ذلك، إن معظم الإرهابيين الجهاديين المعاصرين ليسوا من أتباع الوهابية. إن الفئتين، الوهابية والجهادية المعاصرة، ليستا مترادفتين.”