وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

الفلسطينيون يتطلّعون إلى عيد الميلاد المجيد بفرحٍ وأسى

قبل عيد الميلاد بفترة طويلة، رفضت إسرائيل إصدار تصاريح دخول لمائتي فلسطيني إلى الضفة الغربية لأسباب أمنية.

الفلسطينيون وعيد الميلاد
حجاج مسيحيون يشعلون الشموع في كنيسة المهد في مدينة بيت لحم التوراتية بالضفة الغربية قبل عيد الميلاد، 16 ديسمبر 2022. AHMAD GHARABLI / AFP

دانا حوراني

يتطلّع العالم إلى عطلة نهاية 2022 ومعهم الفلسطينيون المسيحيون الّذين يشكّلون أقل من 1% من سكان فلسطين.
بعد شهورٍ من الإغلاق الناجم عن انتشار جائحة كورونا، تُستأنف احتفالات هذا العام أخيرًا، وتحديدًا في بيت لحم، حيث وُلد المسيح في المكان المعروف الآن بكنيسة المهد، وهي عنصر أساسيّ من عناصر الهوية الفلسطينية وتراثها.

“بيت لحم” كلمة من أصل آرامي وعبري تعني “بيت الخبز“، ما يشير إلى أنّها منطقة خصبة للغاية وملائمة للزراعة، وتحديدًا زراعة القمح لإنتاج الخبز. وتحتلّ تلك المنطقة مكانة استثنائية في المعتقد المسيحي في جميع أنحاء العالم لأنّها المكان الذي شهد بزوغ أول المجتمعات المسيحية.

يحجّ المسّيحيون كلّ سنةٍ بحلول عيد الميلاد المجيد إلى بيت لحم لإتمام رحلتهم الرّوحانية. أمّا المسّيحيون الفلسطينيون، فيواصلون العيش تحت حصار قوات الاحتلال الإسرائيلي في مدينتهم المحاطة بجدار عازل غير قانوني، و22 مستوطنة غير شرعية بُنيت على أراضي تملكها المدينة، وأكثر من 30 نقطة تفتيش. ولذلك، وعلى مدى سنوات طويلة، صاروا يجدون صعوبةً كبيرة في إعالة أنفسهم وزيارة بيت لحم وغيرها من الأماكن المقدسة كما يشاؤون.

ووفقًا للخبراء والمراقبين، يمنح موسم الأعياد الفلسطينيين شعورًا كبيرًا بالإستقرار، ويريحهم من الاضطرابات الّتي يخشى الفلسطينيون جميعهم من تفاقمها.

معاناة المسيحيين الفلسطينيين

يشكّل المسّيحيون أقلية في فلسطين، ويتعرض وجودهم وثقافتهم للتهديد من الاحتلال الإسرائيلي والفصل العنصري. وهم عرضة لخطر الزوال من القدس والضفة الغربية وبقية الأراضي المحتلة نتيجة الجهود المتواصلة لإخراجهم من البلدة القديمة في القدس ومناطق أخرى من الأراضي المقدسة.

وبحسب بيان صادر عن بطاركة كنائس القدس ورؤسائها في ديسمبر 2021، فإن المستوطنين الإسرائيليين من اليمين المتطرف يهاجمون المسّيحيين بشكل متكرر ومستمر في محاولةٍ للحدّ من وجودهم.

وذكر البيان أن حارة النصارى في البلدة القديمة قد شهدت انخفاضًا حادًا في عدد السكان المسيحيين نتيجة الممارسات الاحتيالية التي تتبعها تلك المنظمات، بالإضافة إلى الترهيب، لطرد السكان من منازلهم والسيطرة على مواقع استراتيجية هناك.

والجدير بالذكر أن الجماعات اليمينية الإسرائيلية، مثل حركتي “لهافا” و”دفع الثمن”، تدمّر المواقع المسيحية بشكل متكرر، كما تعتدي لفظيًا وجسديًا على الكهنة والمصلين الفلسطينيين ردًا على أيّ سياسة يعتبرونها تهديدًا لحركة المستوطنين في الأراضي المحتلة.

وقد وقعت في القدس أحداث عنيفة مؤخرًا، شملت 24 اعتداءً على الكنائس في السّنوات السّت الماضية، وذلك وفقًا لتقرير نشرته جمعية المجتمع الدوليّ للقبر المقدس.

لكن على الرّغم من هذه الأرقام المؤلمة، فقد ورد أن نحو 10 آلاف شخص كانوا حاضرين في ساحة بيت لحم في عشية عيد الميلاد المجيد العام الماضي. إلا أن تقريرًا نشرته الأمم المتحدة كشف أن عام 2022 كان الأسوأ على الفلسطينيين منذ عام 2005. وذلك بسبب مقتل ما يزيد عن 150 فلسطينيًا في الضفة الغربية المحتلة على مدار العام، من ضمنهم 33 طفلًا. وقد تعرّض المجتمع الفلسطيني لمزيد من التشريد نتيجةً لذلك، وخيّم اليأس على موسم الأعياد.

الحفاظ على روح العيد

يرى جريس بصير، الصّحفي والباحث الفلسطيني الذي يعيش بالقرب من بيت لحم، أن موسم الأعياد هذا العام تحديدًا سيكون مليئًا بالتوترات. فقد قتلت القوات الإسرائيلية خمسة فلسطينيين في نوفمبر الماضي، من بينهم شقيقان في أوائل العشرينيات من العمر، وسائق متهم بدهس جندي، وشاب يبلغ من العمر 18 عامًا.

وأضاف بصير أن جريمة القتل المروعة الّتي ارتكبتها القوات الإسرائيلية في 12 مايو الماضي في حق شيرين أبو عاقلة، الصّحفية الفلسطينية الأمريكية في قناة الجزيرة والّتي يُصادف أيضًا أنّها مسيحية، قد أصابت مسيحيي الضّفة الغربية بالحزن والأسى.

وعلى الرّغم من هذا كلّه، قال بصير لفنك: “ما زلنا نرى مسحة الفرح والبهجة، بخاصةٍ في أنوار أشجار عيد الميلاد في بيت لحم والأحياء المجاورة”.

وجدير بالذكر أن الوضع الاقتصادي كان عصيبًا جرّاء إغلاق جائحة كورونا على مدار السّنوات الثلاث الماضية، وذلك لأن بيت لحم تعتمد أساسًا على السّياحة. بالإضافة إلى تماثيل المهد وغيرها من وسائل الترفيه الموجّهة إلى الأطفال، تستضيف المدينة التي شهدت ميلاد المسيح أسواق عيد الميلاد، حيث تبيع متاجر الحرف اليدوية الزينة والمصنوعات اليدوية والهدايا التذكارية المتنوعة.

وذكر بصير أن الأسواق شهدت هذا العام عودة حشود كبيرة من الناس، مما منح الحيّ شعورًا بالاستقرار.

وقال: “بيت لحم فريدة من نوعها لأنّها المكان الذي بدأت منه قصة الميلاد. وارتباطها الوثيق بالتاريخ المسيحي هو ما يجعلها راسخة في إدراك الناس”. وأضاف: “لكننا نخشى أن تنتهي الاحتفالات بسبب تفاقم العنف وسقوط المزيد من القتلى”.

وفي نابلس التي قُتل فيها الشقيقان في نوفمبر الماضي، ذكر بصير أنّه قد اقتُصر على إقامة طقوس الأحد والتجمعات الخاصة لإحياء ذكرى الفقيدين.

وتابع: “ألمنا واحد لأن المسيحيين والمسلمين في فلسطين يشعرون بالتضامن بعضهم بعضًا. فيستحيل أن تُقام الاحتفالات والناس يُقتلون”.

من أجل الأطفال

الفلسطينيون وعيد الميلاد
عرض الدمى الذي قدمه مسرح الحارة في بيت لحم، فلسطين في 20 كانون الأول 2022. تصوير: عصام رشماوي

وفقًا لمارينا برهم، مديرة مسرح الحارة، فإن الأطفال أكثر من يتضرر من العنف المتزايد. لذلك تنظّم مؤسستها غير الربحية مسيرات احتفالية، وعروضًا للدمى، وعروضًا مسرحية للأطفال والكبار.

كما تنظّم المؤسسة عروضًا في البلدات والقرى الفلسطينية استعدادًا لعيد الميلاد المجيد. وفي إحدى مسرحياتهم، يساعد القزمان “ساندي” و”كاندي” الأب “كريسماس” على الذهاب إلى الأطفال الذين يصعب الوصول إليهم بسبب نقاط التفتيش الإسرائيلية. وتركز المسرحيّة على أهميّة قضاء عيد الميلاد المجيد مع العائلة رغم الصّعوبات، وضرورة الامتناع عن المبالغة في قيمة الهدايا.

وبالإضافة إلى ذلك، أكّدت برهم أن الأطفال يدركون تمامًا ما يحدث حولهم من توترات وأحزان، لذلك فهم بحاجةٍ ماسةٍ إلى الترفيهِ وعيش اللّحظات السّعيدة حتى يستعيدوا روح طفولتهم. وكي تضمن أن يعيش جمهورها من الأطفال والكبار جزءًا من احتفالات العيد، تحرص برهم على أن تكون المسّرحيات تفاعلية قدر الإمكان.

وترى برهم أن ما يفعله الجنود الإسرائيليون من اعتقال وقتل للأطفال يؤثر سلبًا على نفسيّة الصّغار. فقد اعتقلت السّلطات الإسرائيلية نحو 9000 طفل فلسطيني منذ 2015، وكانت غالبيتهم من القدس المحتلة. ووفقًا لمراقبين إغاثيين، تُستخدم الحرب النفسيّة لترهيب الشّباب وإضعاف المقاومة الفلسطينية من خلال الاعتقالات التعسفيّة وغير القانونية.

وقالت برهم: “لأكثر من 70 عامًا، نتج عن هذا الواقع الفظيع الذي نعانيه نحن الفلسطينيين صدمات نفسية متتالية يرثها الأطفال فوق صدماتهم الجديدة، فيلجؤون إلى السلوك العنيف في حالات كثيرة”.

بين البقاء والرحيل

قبل موسم الأعياد بفترة طويلة، قدّمت كنيسة الروم الأرثوذكس في غزة كشفًا يضمّ أسماء 800 شخص إلى هيئة الشؤون المدنية في غزة، المسؤولة عن إبلاغ السّلطات الإسرائيلية بطلبات التصاريح المقدمة من سكان غزة الذين يرغبون في الاحتفال بعيد الميلاد المجيد في الضفة الغربية. إلا أن إسرائيل رفضت إصدار تصاريح دخول لمائتي شخص منهم لأسباب أمنية، وذلك حسبما أفاد موقع “المونيتور“.

ووفقًا لبرهم، فهذا يجعل من الصّعب على العائلات أن يجتمع شملها، وغالبًا ما يكون من الأسهل أن يلتقوا في تركيا مثلًا.

يتفق بصير وبرهم على أن الهجرة قضية أخرى تهدد وجود المسيحيين الفلسطينيين. فبسبب الصّعوبات السياسية والاقتصادية التي يواجهونها في وطنهم، يشير بصير إلى أن عددًا كبيرًا من الشّباب المسيحيين يعتقد أن مستقبله سيُبنى في بلدٍ آخرٍ.

فبحسب بصير: “من الضّروري الإشارة إلى أن العديد منهم يعودون إلى فلسطين بمجرد أن يجمعوا ما يكفي من المال. لكننا نلاحظ أن نسبة الولادات عند الشباب قد تراجعت بسبب الظروف المعيشية الصّعبة”.

وبالمثل، أوضحت برهم أن مزيدًا من الأشخاص كانوا يفكّرون في الهجرة في الآونة الأخيرة، ومن ضمنهم أشخاص لم يهاجروا من قبل. أما كبار السّن، فيشعرون بأنّهم ينبغي لهم أن يعيشوا ما بقي لهم من العمر باحترامٍ وكرامةٍ.

ويعتقد كلاهما أن الثقافة المسّيحية ليست مهددة بالزوال رغم تناقص أعداد المسيحيين، فالأفراد الباقون مهتمون بالحفاظ على العادات والتراث.

وقالت برهم إنَّ الشّباب يُظهرون قدرًا كبيرًا من الاهتمام خلال الأعياد سعيًا إلى حفظ الهوية الفلسطينية، لا سيما الجانب الديني منها. وأضافت: “نرى الحجاج يزورون الأماكن المقدسة كلّ عام، وكذلك الجوقات والزينة والأطعمة التقليدية وغير ذلك الكثير”.

وأشار بصير إلى مجتمع بيت لحم الذي يعتزّ بهذه التقاليد منذ عقود، ويُرجّح أنه سيستمر في المستقبل. وتابع: “طالما بقي المسيحيون في الأراضي المقدسة، فسوف تبقى التقاليد التي نشأت فيها وصمدت في وجه العنف المستمر منذ سنوات، وستصمد أمام صعوبات أكبر في المستقبل”.

وأضاف بصير مقتبسًا أحد الأمثال الشّعبية القديمة: “إذا رحلنا، فلمن نترك هذه الأرض؟”.

السياحة سلاحًا

ومن جهته، أكّد رفعت عودة قسيس، الخبير في شؤون الإغاثة والمنسق العام للمبادرة المسيحية الفلسطينية كايروس، أن السّياحة مسألة ضرورية للحفاظ على التراث والثقافة المسيحية الفلسطينية.

وقد أسس قسيس “مجموعة السّياحة البديلة” في التسّعينيات حتى يبث الأمل في نفوس السكان الذين يعانون من تنميط بشع على حد قوله.

ويرى قسيس أن “السّياح عمومًا والغربيين تحديدًا يأتون إلى بيت لحم ومواقع الحج وهم يحملون تصورًا سلبيًا عن الفلسطينيين، إذ يرون أنّهم محتالون يميلون إلى العنف ولا يحسنون الضّيافة”.

وأضاف قسيس: “نحاول أن نقرّب المسافة بين الزوار والسكان للقضاء على مثل هذه الخرافات”.

ولاحظ قسيس أن الزوار الأجانب يتعمدون تجنب أهل البلد والتواصل معهم، وإن كان لشراء زجاجة مياه.

وذكر أن شركته تشهد نموًا متزايدًا، وصار لديها مكاتب في كل أنحاء فلسطين، وقد وسعت خدماتها لتشمل رحلات دينية في الضّفة الغربية.

ويعتبر المشي لمسافات طويلةٍ في مسار الميلاد ودرب العائلة المقدسة من بين هذه الرحلات الدينية والتي يؤكد قسيس أنّها يجب أن تتم باحترام أهل البلد وتجاذب أطراف الحديث معهم.

وأضاف قسيس: “هذه الجهود تساعد على حشد عددٍ من الأجانبِ ممن يدعمون القضّية الفلسطينية الباقين على جهلهم والذين يقعون فريسة للبروباغندا الإسرائيلية”.

وما يزال قسيس قلقًا على وضع المسيحيين في فلسطين، ولكنّه ذكر أن منظمته لا تعمل وحدها على هذه القضية، إذ يبذل الشّباب والسكان جهدًا من أجل تحقيق هدفهم. وقال إن كايروس تتواصل مع الكنائس في الغرب حتى تشجعها على إعلان معارضتها للفصل العنصري الإسرائيلي ودعم فلسطين.