وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

نحو رؤية بديلة للنظام التعليمي في اليمن

من نموذج القنينة الفارغة إلى التفكير النقدي

children of yemen
صنعاء، اليمن. المصدر: علي السنيدار

سبأ حمزة

شاعرة وكاتبة وتربوية يمنية مقيمة في هولندا.

في مقولة لفيكتور هوجو أن “من يفتح باب للمدرسة يغلق سجنًا”، مشيرًا إلى أهمية التعليم في بناء الأمم وخلق حياة كريمة. ومع ذلك، يبدو أن التعليم في اليمن هو باب لسجن آخر. حتى قبل اقتحام الحوثيين العاصمة، عانى التعليم من العديد من المشاكل، أهمها ضعف المناهج وقلة المعلمين المؤهلين والتمييز الجندي. على الرغم من محاولات الحكومة لنشر التعليم الأساسي، إلا أن تركيزها كان على الكم وليس الجودة.

يعتمد النظام التعليمي في اليمن على التربية التقليدية التي تفترض أن الطالب قنينة فارغة أو صفحة بيضاء والمعلم هو الوحي المنزل الذي يعرف كل شيء ومهمته الأساسية هي “التعبئة”! يذهب الطالب كل يوم للمدرسة ليجلس مكتف الفم واليدين ليستمع لشرح معلم بعد آخر ثم يذهب إلى المنزل لأداء واجباته المدرسية! اثنا عشر عاما وأحيانا أربعة عشر عاما إذا احتسبنا مرحلة التمهيدي والطالب يعمل مثل حبر الطابعة تعبئة طوال العام وافراغ خلال الامتحانات النهائية ثم وداع للمنهج والمقرر.

تبدو الطاعة العمياء كأنها الهدف الأساسي لمثل هذا النظام؛ يجد المعلم نفسه مضطرًا لتذكير الطلاب بأن “التربية” قبل “التعليم”. هذا يعني أن الطلاب يجب أن يتوافقوا مع كل شيء، حتى لو كان يتعارض مع أفكارهم وكرامتهم. وهو ما يفقد الطالب القدرة على التفكير المستقل، والحدة في الوعي بذاته وبالعالم من حوله

يتخرج الطلاب ومعرفتهم المتراكمة من المدرسة تكاد لا تساوي شيئا. في المدرسة هم مجرد متلقون سلبيون ولا يتم تزويدهم بالأدوات اللازمة لتطوير مهاراتهم. على سبيل المثال، لا يتم تناول المهارات التحليلية والنقدية؛ بل يتم قمعهم منذ السنوات الأولى من التعليم عبر إسكات الطالب إذا تجرأ على طرح أسئلة معرفية أو وجودية من شأنها “زعزعة الإيمان” أو “خدش الحياء”!

وبالرغم من انتشار المدارس الخاصة إلا أن النادر جدا من يحاول التجديد في طرائق التعليم ويعود هذا إلى أن المدرسين أنفسهم من مخرجات ذات النظام التعليمي الذي يجرف قدرات الطالب بدلا من تدريبه وصقل مهاراته. أما الجزء الأكبر من المدارس الخاصة فهي مجرد مشروع وتجارة رابحة ممكن لأي صاحب رأس مال أن يستثمر فيه بل ويرأس إدارة المدرسة ويقرر مستقبل الطلاب.

هذا النظام التعليمي يسميه باولو فريري التعليم البنكي ذلك أنه يعتمد بشكل رئيسي على “إيداع” المعلومات وتخزينها باعتبار الطالب خزينة فارغة. وما يتم تجاهله تماما في هذا النظام أن الطالب ليس لا صفحة بيضاء ولا خزنة فارغة. فالطالب يذهب للمدرسة محمل بأفكار ومعلومات عن العالم والأشياء تعلمها أو اكتسبها عبر تفاعله مع البيئة التي يعيش فيها والعائلة التي نشأ في كنفها. يذهب وهو محمل بالأسئلة والأفكار التي إما تكبر مع الزمن أو تخمد أبد الدهر.

Education in yemen
تلاميذ يمنيون في اليوم الأول من العام الدراسي الجديد في العاصمة صنعاء ، في 17 أكتوبر 2020. Photo: Mohammed HUWAIS / AFP

عادة ما يكون خريجي مثل هذا النظام غير سعداء يقضون سنوات في حفظ أشياء لن يحتاجوها في كثير من الأحيان. يفتقرون إلى الخيال والمهارات اللازمة لتمهيد طريقهم لحياة كريمة ويمكن التلاعب بهم بسهولة واستخدامهم كبيادق. وليس من المستغرب أن نجد معلمين وطلابًا ينضمون إلى الجماعات المسلحة متأثرين بالإيديولوجيات التي وجدت طريقها إلى أذهانهم في وقت مبكر.

يعيش هذا الجيل في ظل أسوء كارثة إنسانية وتعليمية على حد سواء. فملايين من الأطفال توقفت مسيرتهم التعليمية لسنوات وهذه نتيجة حتمية للحرب القائمة منذ العام ٢٠١٤. الآلاف من المدارس حسب منظمة الأمم المتحدة خرجت تماما عن الخدمة إما بسبب تدميرها أو بسبب تحولها لملاجئ للنازحين أو متارس للمقاتلين. بينما تقع بعض المدارس في مناطق الصراع مما يجعل حياة الطلاب عرضة للخطر.

وعلاوة على ذلك، فإن الوضع الذي تعيش فيه ملايين العائلات تحت خط الفقر يجعل من مسألة إرسال الأطفال للمدارس تحد كبير. فعندما تعيش الأسرة على وجبة طعام واحدة طوال اليوم لعجزهم عن تدبر الطعام فإن تكاليف إرسال الطفل للمدرسة تكاد تكون مستحيلة. هذا لا يحرم الأطفال من المدرسة فقط بل ويجعلهم عرضة للعمالة لأنهم يضطرون لمساعدة العائلة أو التجنيد في الجبهات ليكونوا وقودا للحرب ويعرض الآلاف من الفتيات على وجه الخصوص للزواج المبكر وما يحمله من تبعات ومسئوليات تفوق قدرة الطفلة.

وبصورة عامة فإن التعليم في مناطق النزاع المسلح في عموم اليمن يعد تحديا قاسيا، غير أنّ ما يزيد الأمر سوءاً في مناطق سيطرة جماعة أنصار الله الحوثيين، بصورة خاصة، هو توجهات الجماعة نحو استخدام المدارس للتحشيد، والسعي إلى أدلجة المناهج والأنشطة المدرسية، وأخيرا ما نشرته وسائل الإعلام عن خصخصة المدارس الحكومية. وهذه كلها تعد جرائم بحق مستقبل الجيل الجديد تضاف إلى الرصيد الجنائي للجماعة المتمثل في القتل والقمع. إن الأيديولوجيا التي تدخلها الجماعة للمدارس اليمنية التي ينبغي أن تكون فضاء معرفيا محايدا تتسم بارتكازها على فكر عنصري يرى أن لمجموعة من الشعب أفضلية واستحقاقات بناء على العرق. ومما لا يخفى علينا أن النظام التعليمي القديم أيضا كانت له حمولته التمييزية فقد حرم بعض الأقليات كاليهود والسود(المهمشين) من أبسط حقوقهم وهي الحصول على فرصة للتعليم.

ما يجب علينا جميعا فعله هو التفكير في كل الوسائل المتاحة والفرص التي من الممكن خلقها ليس لضمان استمرارية التعليم فقط بل لتطويره أيضا وإيجاد الطرق البديلة التي تسهم في تربية جيل قادر أن يصنع من مستقبله حياة جديرة لا جيلا يفقد حاضره.. للأسف تركز معظم المنظمات المعنية ومبادرات الشباب على توفير المتطلبات المادية للطلاب أو المدارس دون النظر إلى مشاكلهم الملحة. بينما يجب أن يركز دورهم أيضا على تدريب المعلمين والطلاب نظرًا لحقيقة أن التعليم يمكن أن يكون أداة قوية لإنهاء الصراع.

يجب تدريب المعلمين على طرق تعليمية بديلة بخلاف الطرق التقليدية. يجب أن يتحول التركيز من نقل المعرفة إلى بناء مهارات الطلاب وتزويدهم بالأدوات النقدية والتحليلية لجعل أي أيديولوجية يواجهونها خاضعة للفحص والتدقيق. على سبيل المثال في أربعينيات القرن الماضي وتحديدا خلال الحرب العالمية الثانية كانت الطبيبة الإيطالية ماريا مونتيسوري تزور الهند لتدرب بعض المدارس على نظامها التعليمي. نظام مونتيسوري يعتمد على التركيز على مهارات الطفل وينمي قدراته ويخلو من التقييم بالدرجات مما يلغي التنافسية بين الطلاب ويجعل مهمة المعلم هي تقييم قدرات الطالب ومساعدته بناء على ذلك.

إنه نظام يعزز روح النقد والتفكير المستقل لدى الأطفال. يسمح لهم بالابتكار واستكشاف مسارات جديدة في الحياة ومراجعة أفكارهم وسلوكهم باستمرار. وهذا النوع من التعليم يختلف بل يضاد، في روحه، النموذج التنافسي الوثوقي الذي يسهم في تضخم الأنا وفي اعتدادها بأرائها وسلوكها حتى وإن كانت خاطئة.

يرى فريري أن التعليم الحواري أو ما يرمز له بتربية المقهورين هي الطريقة المثلى لتربية الطالب بمنهج يعزز عنده الحس النقدي ويتعامل معه كشريك في العملية التعليمية وينظر لأسئلته وأفكاره بعين الاعتبار ويكون دور المعلم هو الاشراف على العملية التعليمية.

تعمل اليونسكو على الترويج لثقافة السلام واللاعنف من خلال التعليم في بلدان ما بعد الصراع منذ عقود. ومع ذلك، لا يمكن لليمن الانتظار حتى ما بعد الصراع لتنفيذ تعليم السلام بل يجب أن يحدث هذا في أقرب وقت. على الرغم من صعوبة تغيير مناهج المدارس، خاصة في الأجزاء التي تحكمها الميليشيات، إلا أن هناك طرقًا مختلفة لتعليم الطلاب إلى جانب المدارس العادية. إحدى الطرق هي دمج التفكير النقدي من خلال الفن. تركز العديد من المبادرات الشبابية التي انتشرت بعد الحرب على الفن؛ لكن لا يستفيد منها سوى عدد قليل محدود من الشباب. يلعب الفن دورًا كبيرًا في الطريقة التي نرى بها العالم ونتفاعل معه. سيساعد الطلاب على التخيل والاستكشاف والتحليل والإنتاج وحتى الشفاء. يجب على المنظمات والجهات الراعية الاستثمار أكثر في هذا المجال ومحاولة إشمال المزيد من الطلاب.

في الأخير، ومع أن التعليم، وإن اختلفنا حول درجته من الجودة والكفاءة، هو حق إلزامي لكل طفل، فإنني أود أن أؤكد أن اليمن تحتاج إلى التعليم القائم على الكيف وليس الكم فقط. إن التركيز على تدريب المعلمين والطلاب على منهج التفكير النقدي والتعليم الحواري بما يقتضيه ذلك من احترام متبادل واعتراف باستقلالية الفرد وكرامته وأهليته العقلية والنفسية، إلى جانب صقل مهاراتهم المختلفة سينتج جيلا واعيا وقادرا على التغيير ومحصنا من تلاعب الأساليب الدعائية التي تتقنها الجماعات السياسية والإيديولوجية اليوم والتي أدت إلى إيصال البلد إلى هذا الحال من التدهور السياسي والاقتصادي والأخلاقي والثقافي.

ملاحظة

الأفكار الواردة في هذه التدوينة هي آراء المدوّن الخاص بنا ولا تعبّر بالضرورة عن آراء أو وجهات نظر فنك أو مجلس تحريرها.