حسين الزعبي
يبدو أن نظرية عالم الاجتماع الشهير ابن خلدون ما زالت صالحة لزماننا أيضا، إذ يقول في كتابه “المقدمة” “عِندما تَنهار الأَوطان يَكثر المُنَجِمون والمُتَسَوّلون والمُنَافِقُون والمُدَّعون والقَوَّالون والمُتَصَعلِكون، وضَارِبوا المَندَل وقَارئوا الكَف والطَالع، والمُتَسَيسون والمَداحُون والاِنتِهَازيون، فَيَختَلطُ ما لا يُختَلط، ويَختَلط الصِدق بِالكَذب والجِهاد بِالقَتل، ويَسود الرُعب ويَلوذَ النَاسُ بِالطَوائف، ويَعلو صَوت البَاطل ويَخفُت صَوت الحَق، وتَشح الأَحلام ويَموت الأَمل، وتَزداد غُربة العَاقل، ويُصبِحَ الاِنتماء إِلى القَبيلَةِ أَشَد إِلصَاقاً وإِلى الأَوطان ضَرباً مِن ضَروبِ الهَذَيَان” ويذهب كذلك للقول إن “الشعوب المقهورة تسوء أخلاقها، و كلما طال تهميش إنسانها يصبح كالبهيمة، لا يهمه سوى اللقمة والغريزة”. وكأن لسان حال ابن خلدون يقول إن المنظومة القيمية للمجتمع انهارت برمتها، من حيث هي تراكمات اجتماعية مستندة إلى موروث العلاقات بين الناس تشكل في كليتها قواعد مجتمعية تحفظ نسيج المجتمع وتحافظ على “إنسانيته”، لكن الأمر ليس كذلك في حالة انهيار الاوطان، ويمكن وصف سوريا بالوطن المنهار، إذا ما اعتبرنا تفشي الجريمة أحد مؤشراته.
الجريمة في سوريا، تنمو بشكل هستيري كما ونوعا، إحصائيات حديثة صادرة عن إدارة الأمن الجنائي في دمشق، تشير إلى تسجيل 7500 جريمة منذ مطلع العام الجاري وحتى أواخر سبتمبر 2021. ويوضح حسين جمعة رئيس قسم الإحصاء في الإدارة أنه ومنذ بداية عام 2021 وحتى أواخر شهر أغسطس من نفس العام، تم تسجيل 366 جريمة قتل و3663 حالة سرقة هذا فقط في المناطق الخاضعة لسيطرة النظام، فيما تغيب الاحصائيات عن المناطق الأخرى.
وبحسب جمعة، لا توجد إحصائية دقيقة عن نوع الأسلحة المستخدمة، إلا أن الوقائع تشير إلى استخدام أسلحة نارية متوسطة وقنابل في بعض الجرائم المرتبكة أثناء حالات الشجار الجماعي، لا سيما في العاصمة دمشق.
يشار إلى أن الأرقام الرسمية كانت تحدثت عن تسجيل أكثر من 332 جريمة قتل خلال عام 2020، بينها 50 حالة، في يونيو الأكثر دموية” وحده، حسبما ذكر رئيس الطبابة الشرعية في سوريا الدكتور زاهر حجو، فيما كان عدد جرائم القتل الشخصي والانتقامي خلال العام 2010، في العاصمة دمشق 30 جريمة فقط.
وبحسب موقع Numbeo Crime Index المتخصص بمؤشرات الجريمة حول العالم، فإن دمشق تعتبر ثاني أكثر مدينة تسجيلاً للجرائم آسيوياً خلال الفترة الحالية بعد مدينة كابول في أفغانستان، إذ سجل فيها مؤشر الجريمة 68.09 نقطة (من أصل 120)، في حين انخفض مؤشر الأمان إلى 31.91%. كما احتلت البلاد للعام الثالث على التوالي، المرتبة الأولى عربياً والتاسعة عالمياً في ارتفاع معدل الجريمة في عام 2021، بحسب الموقع الذي استند إلى مؤشرات هي: مستوى الأمن الاجتماعي للمواطنين القاطنين ومستوى الجريمة والسرقة، بالإضافة إلى النزاع المسلح والجريمة والتهديدات الإرهابية.
يذكر أن بيانات الموقع، كانت قد صنفت سوريا عام 2019، كأكثر الدول العربية ارتفاعاً في معدلات الجريمة، وفي المرتبة 16 على مستوى العالم من أصل 118 دولة.
في العام 2018 كشفت إحصائيات فرع الأمن الجنائي في دمشق أنه تم تنظيم 4274 ضبطاً لجرائم مختلفة، بينما بلغ عدد الموقفين 4736 موقوفاً، فيما أشارت بيانات عن وزارة الداخلية إلى وقوع 570 جريمة قتل بين المواطنين السوريين في العام 2017، معظمها في العاصمة، ولا سيما في ريفها.
تعليقًا على هذه الإحصائيات، يؤكد المستشار القانوني المحامي رامي زهير لموقع Faanck أن الجريمة المنظمة في سوريا ما زالت تنمو وتزدهر بسبب انتشار السلاح والميليشيات المتمثلة بقطاع الطرق والخارجين عن القانون، مرجعا ذلك إلى سبب رئيسي حسب رأيه وهو الفلتان الأمني “المتعمد” وغياب المحاسبة القانونية.
في هذا السياق، يلفت زهير إلى أن ارتفاع حجم الفساد في سلكي القضاء والأمن وانتشار المحسوبيات ساهم إلى حد كبير في ارتفاع معدلات الجريمة، خاصة وأن الكثير من المجرمين يدركون أن لديهم فرصة للإفلات من العقاب بدفع مبالغ مالية ورشاوى. ويرى زهير أن هذا الأمر يشجع على تشكيل بيئة حاضنة للإجرام، مشدداً على أن انتشار المخدرات وحالة البطالة والفقر والجهل المنتشر والتشرد من ضمن مجموعة عوامل ساعدت في الواقع المرعب، الذي تعيشه سوريا عموماً. وهذا الواقع بات بيئة مثالية، متهما النظام بالسعي إلى تفسيخ المجتمع.
ومن أكثر الجرائم انتشارًا في سوريا، بحسب المستشار القانوني، جرائم القتل العمد، والسطو، والسرقة بالإكراه، والاغتصاب، وغيرها من أشكال الجريمة، فضلاً عن حالات الانتحار والقتل المتعمد للبنات من قبل ذويها بدافع الشرف، يضاف إلى ذلك الخطف من أجل فدية، وأيضًا جريمة تجارة المخدرات.
من جهة ثانية، يشير زهير إلى أن إحصائيات مؤسسات النظام السوري تشمل فقط المناطق الواقعة تحت سيطرته، لصعوبة إجراء مسح في المناطق الخارجة عن سيطرته والتي تغيب عنها الأرقام الدقيقة لمؤشرات جرائم القتل.
يشار إلى أن الشارع السوري كان قد صعق العام الماضي، بجريمة قتل نفذها شابان في منطقة بيت سحم، بعدما أقدما على اقتحام أحد المنازل وتكبيل صاحب البيت ومن ثم اغتصاب زوجته أمامه وبعدها قاموا بطعنه عدة طعنات وقتلوا زوجته وأطفاله وسرقوا مبلغا ماليا وأحرقوا المنزل، قبل أن يلوذوا بالفرار، إلا أن بقاء الزوج على قيد الحياة ساهم في كشف الجريمة والفاعلين.
مخدرات وفوضى سلاح
الصحفي محمد العويد يحمل النظام مسؤولية نمو ظاهرة الجريمة، من خلال العفو الذي أصدره في العام 2011، والذي أفرج بموجبه على عدد كبير من المحكومين بجرائم جنائية وقام بتسليحهم ومنحهم سلطات وقوة ونفوذا مكنهم من فرض أنفسهم في المعادلة السورية.
يذهب العويد أبعد من ذلك ليقول لموقع Fanack إن الجرائم المرتكبة في سوريا تتم برعاية مباشرة من النظام، موضحاً: “عمليات الإعدام الميداني والتعفيش وسرقة الممتلكات والاغتصاب كانت قوات النظام والميليشيات الداعمة لها أول من ارتكبها، ويمكن القول هنا أن أولئك المجرمين استغلوا الميزات التي حصلوا عليها من النظام لتوسيع دائرة جرائمهم بشكل كبير، خاصة وأن الكثير من الجرائم يتم ارتكابها بالأسلحة النارية والقنابل وبعضها يتم من قبل عناصر سابقة في قوات النظام”.
ويؤكد العويد أن الارتفاع الصاروخي في معدلات الجرائم، لا يجعل مجالا للشك بأن هناك جهات معينة وفي مقدمتها النظام السوري، تدعم تلك الظواهر، خاصةً وأنها ذات الجهات المتهمة بإغراق المدن السورية في المخدرات، التي تعتبر أهم أسباب تحول الشخص إلى مجرم بسبب فقدانه للوعي ووقوعه الدائم تحت تأثير المواد المخدرة.
يذكر أن دريد الأسد، ابن عم رئيس النظام السوري بشار الأسد كان قد اعترف في وقتٍ سابق، بمسؤولية النظام السوري عن ترويج المخدرات في سوريا، وكتب على صفحته في موقع فيسبوك، بأن شحنة المخدرات، التي ضبطتها الشرطة الإيطالية قادمة من سوريا العام الماضي، ليس “داعش” من يقف وراءها، بل النظام، مضيفاً: “إذا بدنا نصنّع ورق لنقول تحيا الصناعات الوطنية، وهي بلشت عجلة الاقتصاد الوطني بالدوران من جديد! وبعدها نقوم ندحش جوّات الرولات تبع هاد الورق حبوب الكبتاغون.
يشار إلى أن نسبة الزيادة في جرائم القتل الشخصي والانتقام والانتقام المضاد في محافظة دمشق ومحافظة ريف دمشق تجاوزت نسبة 400% خلال عام 2011 مقارنة بالعام 2010، حسبما ذكر المحامي العام الأول في دمشق مروان لوجي.
ووفقاً لصحيفة “الوطن” شبه الرسمية، أوضح لوجي حينها، أن الزيادة في جرائم القتل التي شهدتها المحافظتان خلال عام 2010 لم تتعد الـ20% مقارنة بالعام الذي سبقه 2009، واصفاً هذه النسبة بالمقبولة ضمن المعطيات الموضوعية، ومبيناً أنه في الوقت الذي لم يتجاوز فيه عدد جرائم القتل الشخصي والانتقامي خلال عام 2010 الـ30 جريمة، والـ220 في ريفها، فقد وصلت أعداد الجرائم خلال العام 2011 إلى مرتبة الآلاف، معتبرا أن “ذلك مؤشراً اجتماعيا خطيراً بكل المقاييس، كاشفاً أن القصر العدلي يغص بدعاوى القتل من هذا النوع.
غياب المنظومة القيمية
يقول الصحفي والباحث الاجتماعي، فايز السمره لموقع Fanack إن الجرائم موجودة في جميع مجتمعات العالم، وما يميزها عن بعضها نسبة ارتكاب ونوعية هذه الجرائم، مشيرا إلى أن بعض الجرائم تكون نتيجة ظروف اجتماعية قاهرة تسببت باضطرابات نفسية لم يستطع صاحبها التعامل معها، وليست بالضرورة نابعة من “فكر إجرامي”.
وتؤدي هذه الاضطرابات إلى نوبات غضب يفقد فيها الشخص محاكمته العقلية وإنسانيته، تدفعه لارتكاب جريمة بحق نفسه “كالانتحار”، أو بحق الغير حتى المقربين منه.
ويعتقد السمره أن الضغوط المعيشية أدت لتفكك الروابط الأسرية والاجتماعية، وأن الفقر والجوع يضغطان على الإنسان ويدفعانه لارتكاب جرائم، مثل السرقة والقتل والخطف، مؤكدا أن الحرب تسببت بتصدع اجتماعي وأزمة إنسانية غيرت مبادئ الناس وقيمهم التي كان يعززها الترابط الاجتماعي.
بالإضافة إلى ذلك، يشير السمره إلى أن “حرب النظام على شعبه” حسب وصفه، فككت قيم المجتمع السوري، إذ نجد الأخ في طرف قوات النظام يقاتل أخاه في طرف آخر، ولم تعد هناك منظومة قيَمية جامعة تضبط أفراد المجتمع، مضيفا أن “من يخوض المعارك ويقتل المئات والآلاف، يسهل عليه قتل أفراد خلال محاولة سرقة”.
ليست الأعداد وحدها التي تغيرت خلال العقد الدموي في سوريا، بل نوعية الجرائم ويكفي في هذا السياق إيراد واحد من النماذج الأكثر بشاعة، شهدها شهر حزيران الماضي، إذ بثت وزارة الداخلية السورية التابعة للنظام اعترافات امرأة مدمنة على المخدرات ومتاجرة بها، بإجهاضها جنينها والاحتفاظ بجثته في ثلاجة المنزل، كي تستخدمها في نقل مواد مخدرة كالكوكايين والهيروين وترويجها وبيعها، عبر دسها داخل الجثة وبين الثياب التي تغطيها.
وبحسب اعترافات القاتلة، فإنها أجهضت الجنين عبر تعاطي حبوب الإجهاض، وهي في الشهر الثامن من الحمل. وبعد إسقاط الجنين، نقلته من المستشفى لمنزلها ووضعته في ثلاجة البيت، لتشرع في توظيف جثته، للمتاجرة بالمواد المخدرة بين العاصمة دمشق وريفها.
المرأة اعترفت أنها كانت تخفي، المواد المخدرة داخل ثياب الطفل الميت، أثناء تنقلاتها بغرض المتاجرة بالمخدرات، كونه من المستحيل أن يخطر ببال أحد، أن تقدم أم على استخدام جثمان طفلها في نقل المخدرات، مؤكدة أنها كانت تعيد الجثة بعد كل عملية لثلاجة البيت، إلى أن قبضت عليها أجهزة مكافحة المخدرات الأمنية، خلال إحدى عمليات المداهمة.