نشر موقع “The Conversation” مقالة تناولت تاريخ المدارس الدينية والجوانب الإشكالية التي يواجهها هذا النوع من المدارس في عالمنا الراهن. وتشير صاحبة المقالة ميريام ريناود، طالبة الدكتوراه في الفكر الديني والأخلاقيات بجامعة شيكاغو، إلى أن الرئيس التركي الذي أعيد انتخابه مؤخراً رجب طيب إردوغان وضع توسيع المدارس الإسلامية على قائمة أولوياته. وتلفت بعض التقارير إلى إقرار حكومة إردوغان العام الجاري تخصيص ميزانية قدرها 1.5 مليار دولار أمريكي للتعليم الديني، وبزيادة وصلت إلى 68%.
وسواءً أكانت هذه المدارس الدينية تحظى بتمويلٍ عام كما عليه الحال في تركيا أم لا، فإنها تعتبر من الجوانب الشائعة في حياة المسلمين. وترى صاحبة المقالة أن المدارس الدينية تعتبر أكثر المدارس شيوعاً، حيث يركّز هذا النوع من المدارس بصفةٍ عامة على القرآن الكريم والأحاديث النبوية والشريعة وغيرها من الموضوعات الإسلامية.
وتطرح ريناود التساؤل التالي: إلى أي مدى تقوم هذه المدارس بتحضير الطلّاب للوظائف في الاقتصادات القائمة على المعرفة والتكنولوجيا المعاصرة؟
تاريخ المدارس الدينية
تحظى المدارس الدينية بتاريخٍ طويل وحافل. فبعد ظهور الإسلام في القرن السابع الميلادي، انضم المسلمون الذين أرادوا الحصول على تعليمٍ ديني إلى حلقات العلم في المساجد، حيث كانوا يتلقوا العلم من أساتذتهم.
وعلى مدار القرون الأربعة التالية، كانت تلتقي مراكز التعليم الإضافية، التي قام بتأسيسها وتمويلها الحكّام وكبار المسؤولين وأبناء المجتمع الأغنياء، في المكتبات العامة والخاصة. وكانت هذه المراكز الشكل المبكر لنظام المدارس الدينية.
وبحلول القرن الحادي عشر، باتت المدارس الدينية مراكز تعليمية مستقلة وراسخة، علماً بأنها ما تزال تحتفظ حتى يومنا هذا ببعض الميزات التي كانت تتمتع بها في ذلك الوقت. وكان لهذه المدارس مبانٍ دائمة، وموظفين يتم دفع رواتبهم وعلماء مقيمين، بالتزامن مع وجود أماكن مخصصة للإقامة والمقررات المالية. وأعطيت الغرف والمجالس للطلاب الذين كانوا يتلقوا تعليمهم بالمجان.
وقامت المدارس الدينية بصفةٍ عامة بتدريس مبادئ الحساب، والنحو، والشعر، والتاريخ وطبعاً القرآن الكريم والشريعة الإسلامية قبل كلّ شيء. وكان يتم تدريس المستويات الأدبية وعلم الحساب في المستويات التعليمية الأعلى. وفي الوقت الذي كان يتم فيه التشديد على حفظ النصوص عن ظهر قلب، فقد كانت التعليمات الشخصية، والمحاضرات ومحاكاة الطلاب لمعلّمهم ضرورية أيضاً للحد من وقوع الأخطاء في الفهم الديني.
وانتشرت هذه المدارس بسرعة. وفي الوقت الذي كانت لم تتجاوز فيه نسبة متعلمي القراءة والكتابة في الغرب نسبة 5% في العصور الوسطى، فقد كانت آلاف المدارس الدينية تقوم بنشر القراءة والكتابة في مناطق بعيدة للغاية كروسيا، ومنغوليا، والسهول الصينية، والهند، وأرخبيل مالاي.
وشهد القرنان التاسع عشر والعشرين افتتاح البعثات التبشيرية المسيحية والحكام الاستعماريين كالبريطانيين لمدارس كانت تعتمد على نموذج التعليم الغربي. وقامت هذه المدارس بتقديم الدورات التعليمية المتخصصة في اللغة الإنكليزية والعلوم والتكنولوجيا.
وفي الوقت الذي باتت فيه الاقتصادات أكثر حداثة، فقد وجد المسلمون الذين اختاروا المدارس الدينية على المدارس الأخرى أنهم يفتقرون إلى التدريب اللازم للحصول على الوظائف ذات الأجر الجيّد. وعلى هذا النحو، فقد واجه هؤلاء صعوبات على مستوى قدراتهم الاجتماعية والاقتصادية. ومع ذلك، فقد رفض العديد من المدارس الدينية دمج المواد غير الدينية في مناهجها الدراسية. ونتيجة لذلك، فقد أصبح نظام التعليم المزدوج هو القاعدة السائدة، حيث بات لدينا تعليم إسلامي وآخر غربي الطابع.
لماذا يختار أولياء الأمور المدارس الدينية؟
تهيمن المدارس الدينية في يومنا هذا على المشهد التعليمي في باكستان – خاصةً إذا ما علمنا أن هناك 20 ألف مدرسة دينية مسجّلة في باكستان وإلى جانبها آلاف أخرى من المدارس الدينية غير المسجّلة. وتشير ريناود إلى أن عدد المدارس الدينية في تزايد في أنحاء كثيرة من العالم.
ونما عدد المدارس الدينية في مصر بين عامي 1986 و1996 من 1855 إلى 4314 مدرسة. أما في مالي، فقد استضافت المدارس الدينية في عام 2005 طالباً واحداً من أصل كلّ أربعة طلّاب في عمر الدراسة. وبحسب التقارير الحكومية في الهند، فإن النسبة الإجمالية للطلاب المسلمين الذين يحضرون دواماً كاملاً في المدارس الدينية تصل إلى 4%. وتجدر الإشارة إلى أن نسبة المسلمين في الهند تصل إلى 14 بالمئة.
وتوضح دراسةٌ أجرتها مجموعة من علماء إحدى المناطق الريفية الموجودة شمال غربي الهند سبب اختيار بعض أولياء الأمور لتعليم أولادهم في المدارس الدينية. وبحسب الدراة، فإن نسبة الطلاب المسجّلين في المدارس الدينية الموجودة بمنطقة “موات” الفقيرة ذات الأغلبية المسلمة تصل إلى 10% من إجمالي عدد الطلاب المسلمين، أي أكثر من ضعف المعدّل الوطني.
ويعثر معظم خريجي مدارس “موات” الدينية على وظائف ذات أجرٍ ضعيف، سواءً أكان ذلك في المدارس الدينية أو المساجد أو أضرحة الأولياء أو الزراعة. ولا تزيد نسبة الأشخاص الذين يتمتعون بمستوى أعلى من التطوّر الاجتماعي والاقتصادي عن 3 بالمئة.
وترغب أغلبية العائلات المسلمة في “موات” بأن تقوم المدارس الدينية بتوفير الدورات المتخصصة في المجالات الفنية وفي مجال التدريب المهني. ومع ذلك، فقد وجد مؤلفو الدراسة سابقة الذكر أن الزعماء الدينيين الذين يستطيعون الموافقة على التغييرات قد “اتفقوا على معارضة التعليم الحديث”.
وتساهم مثل هذه المدارس الدينية في تشكيل حلقة مفرغة من الفقر. وقد تكون مدارس “موات” الحكومية المجانية بديلاً للمدارس الدينية، إلا أن حوالي ثلاثة أرباع العائلات المسلمة قالت أنها ستختار المدارس غير الدينية الخاصة ومدفوعة الأجر إذا ما كانت تتمتع بالوسائل المالية للقيام بذلك، وقد يعود السبب في ذلك إلى تدني جودة التدريس.
وفي الأقاليم الباكستانية الرئيسية الأربعة، حيث تعتبر معظم العائلات المسلمة أغنى من عائلات “موات”، فإن ثلاثة أرباع أولياء الأمور الذين اختاروا المدارس الدينية يدعمون تعليم أولادهم بإرسالهم إلى مدارس أخرى.
تحوّل تركيا إلى المدارس الدينية
تعود ريناود في هذا القسم من المقالة إلى تركيا، مشيرةً إلى أن هذه الدولة قد قامت من الناحية الفنية بإلغاء المدارس الدينية قبل مئة عامٍ من الزمن. وكان الرئيس التركي الأول مصطفى كمال أتاتورك قد عمل في عام 1924 على استبدال المدارس الدينية بأخرى غير دينية تعتمد على النموذج التعليمي الغربي أو قام بتحويل هذه المدارس الدينية إلى مدارس تحمل اسم “إمام خطيب” لتدريب الواعظين المسلمين.
وقام إردوغان وحزب العدالة والتنمية الذي ينتمي إليه بتحويل مدارس “إمام خطيب” إلى مدارس دينية متوسطة وثانوية وذلك بعد استلامه للسلطة في عام 2002. وبات في مقدور خريجي هذه المدارس التقدّم للدراسة في أي برنامج جامعي. وعلى هذا النحو، تضاعف عدد الطلاب المسجلين في مدارس “إمام خطيب” ثلاث مرات بين عامي 2003 و2012. ولم يزد عدد مدارس “إمام خطيب” قبل 15 عاماً عن 450 مدرسة، إلا أن العدد وصل في يومنا هذا إلى 4500 مدرسة.
وتشير ريناود إلى تنفيذ حكومة إردوغان للمزيد من الإصلاحات التعليمية في عام 2017. وبحسب صاحبة المقالة، فإن مدارس “إمام خطيب” تطلب حالياً من طلابها دراسة مفهوم الحرب المقدّسة وتحريم زواج المسلمين من الملحدين والإيمان بضرورة إطاعة الزوجات لأزواجهن. وتؤكد ريناود أن هذا النوع من المدارس تشدد على أهمية التعلم عن ظهر قلب أكثر من الاعتماد على الفكر النقدي.
وتختم ريناود مقالتها بالإشارة التعهد الذي ألزم به إردوغان نفسه والمتمثل بنقل تركيا من المرتبة السابعة عشرة على مستوى أكبر الاقتصادات العالمية إلى نادي أكبر عشر اقتصادات عالمية. وترى صاحبة المقالة أن هذا التعهد الطموح الذي ألزم به الرئيس التركي نفسه قد يواجه بعض العراقيل بسبب اعتماده على منهجية “تربية الجيل الورع”.