النّساء في الرّياضة لا يتنافسن على الميداليّات فحسب، إنّما يسعين للحصول على التّقدير والاحترام والحقّ في تقرير مستقبلهنّ وإلهام الأجيال القادمة.
دانا حوراني
على الرّغم من العقبات الّتي لا يزال الشّرق الأوسط يعاني منها في ما يتعلّق بحقوق المرأة والأحكام المسبقة المترسّخة، حدث تطوّر واضح في قطاع الرّياضة. سلّطت الألعاب الأولمبيّة الباريسيّة الأخيرة الضّوء على الوجود المتزايد للنّساء الرّياضيّات الشّرق أوسطيّات، اللّواتي تكسرن الحواجز وتستعرضن مواهبهنّ على السّاحة العالميّة.
تواجه النّساء في منطقة الشّرق الأوسط وشمال إفريقيا، بشكل عامّ، هوّة جندريّة كبيرة تطال أوجهًا متعدّدة من حياتهنّ، بخاصّة العملية. فـ 19 في المئة فقط من النّساء حاليًّا تشكّلن جزءًا من اليد العاملة، وهذا مستوى متدنٍّ. فنسبة العاطلات من العمل بين الشّابّات في البلدان العربيّة يدعو للقلق بوصوله إلى 42.5 في المئة، وهذا تقريبًا ضعف عدد الشّبّان العاطلين من العمل اللّذين تصل نسبتهم إلى 21.5 في المئة.
حصل العنف ضدّ المرأة، في السّنوات القليلة الأخيرة، على اهتمام عالميّ متزايدٍ. وعلمًا أنّ الأمر لم يعد محصورًا بمنطقة الشّرق الأوسط وشمال إفريقيا، فالأنظمة الذّكوريّة رسّخت التّمييز ضدّ النّساء قانونيًّا واجتماعيًّا، سامحة بتطبيع أشكال العنف المختلفة ضدّ المرأة وتمكينها.
لكن شهدت بعض البلدان مثل الإمارات، ولبنان، والمغرب، والجزائر تقدّمًا ملحوظًا في مجال حقوق المرأة، بخاصّة في عالم الرّياضة. وعلى الرّغم من فوزهنّ، ما زالت النّساء في القطاع الرّياضيّ الشّرق أوسطيّ يكافحن ضدّ المدركات الذّكوريّة الّتي تحطّ من قيمة شغفهنّ وتضع العقبات أمام تقدّمهنّ.
إضافة إلى ذلك، تواجه النّساء الشّرق أوسطيّات التّمييز والعدائيّة ليس من مجتماعتهنّ فحسب إنّما أيضًا من دول الغرب. وخير مثال صارخ على ذلك هي الرّياضيّة الجزائريّة إيمان خليف الّتي سلّطت تجربتها في الألعاب الأولمبيّة الباريسيّة الضّوء على التّحدّيات الفريدة الّتي تواجهها النّساء.
قضيّة إيمان خليف
حصدت الملاكمة الجزائريّة إيمان خليف الميداليّة الذّهبيّة في الألعاب الأولمبيّة الباريسيّة، بعد مواجهة انتقادات عنيفة وإساءات عبر الإنترنت في ما يخصّ جندرها. فوز خليف على الصّينيّة يانغ ليو، ضمن مكانها في الألعاب بعد رحلة طويلة وشاقّة.
لكنّ مشاركتها أحدثت جدلًا بعد أن أعلنها الاتّحاد الدّوليّ للملاكمة، المحظور عن الألعاب الأولمبيّة منذ 2019، غير مؤهّلة للمنافسة العام الماضي بسبب معدّلات التّستوستيرون المرتفعة في جسمها. وعلى الرّغم من ذلك، ربحت خليف مباراتها الأولى في الألعاب الباريسيّة.
الجدل حول خليف والتّايوانيّة لين يو تينغ أوقد نقاشًا حادًّا عن الهويّة الجندريّة في الرّياضة. كلتا الملاكمتين شاركتا في الألعاب الأولمبيّة في طوكيو دون أيّ مشكلة منذ ثلاثة أعوام، لكنّ الجدل حول مؤهّلاتهما قد طغى على المحادثات منذ ذلك الحين، مع مشاركة شخصيّات بارزة مثل رئيس الولايات المتّحدة الأميركيّة السّابق، دونالد ترامب، والكاتبة ج.ك. رولينغ، مسائلين جندرهما بطريقة خاطئة.
أشارت ج.ك. رولينغ إلى إيمان خليف على أنّها “ذكر” واتّهمتها بـ”التّمتّع بآلام امرأة لكم رأسها وحطّم طموحها في الحياة”. وتصرّ ج.ك. رولينغ، الّتي واجهت إنتقادات جمّة من ناشطين في حقوق الإنسان في الأعوام الأخيرة بسبب وجهات نظرها حول قضايا المتحوّلين جنسيًّا، على أنّ الجندر البيولوجيّ غير قابل للتّغيير.
بدوره، صرّح ترامب “سأبقي الرّجال بعيدًا عن رياضات النّساء”، فيما ادّعى المرشّح لمنصب نائب الرّئيس، ج.د. فانس، أنّ “فكرة كمالا هاريس عن الجندريّة” أدّت “إلى ضرب رجل راشد لامرأة في مباراة ملاكمة”. وشاركتهما في الرّأي رئيسة الوزراء جورجا ملوني قائلة “الرّياضيّات ذات الجينات الذّكوريّة لا يجب أن تشاركن في رياضات النّساء… في نظري، لم تكن المباراة عادلة”.
أمّا اللّجنة الأولمبيّة الدّوليّة، الّتي أشرفت على المنافسة بسبب مسائل إداريّة في الاتّحاد الدّوليّ للملاكمة، فدافعت بشدّة عن الرّياضيّتين، وشدّد رئيسها توماس باخ على أنّ خليف ولين معترف بهما كنساء في بلديهما، وتحملان جوازي سفر يؤكّدان على جندرهما. وعلى الرّغم من التّحدّيات، فقد أثبت أداء خليف صلابتها ومهارتها على المسرح الأولمبيّ.
إنّ الجدل الجندريّ ليس جديدًا، بل هو يكشف في الواقع عن نمطٍ مقلقٍ من التّمييز العنصريّ ضدّ الأشخاص ذوي البشرة الملوّنة في الرّياضة. فسيرينا ويليامز مثلًا، عانت في خلال مسيرتها المهنيّة كلاعبة تَنِس منذ أواسط التّسعينيّات، من رقابة صارمة بسبب مظهرها. وهذه الاتّهامات ضدّ النّساء الملوّنات، لا تضرّ فقط بالنّساء المتحوّلات جنسيًّا اللّواتي غالبًا ما لا تتوفّر أمامهنّ فرص المشاركة في الألعاب الرّياضيّة للنّخبة، بل تضرّ أيضًا بالنّساء الملوّنات المتوافقات جنسيًّا بمساءلة هويّاتهنّ وتحجيم إنجازاتهنّ. وبالتّالي، يؤكّد هذا الوضع أكثر فأكثر النّفاق المحيط بالمعايير الجندريّة في الألعاب الأولمبيّة.
عقبات إضافيّة أمام النّساء في الرّياضة
قالت عزيزة سباتي، حاملة الرّقم القياسي الوطنيّ اللّبنانيّ لسباق الـ 100 متر، لفنك إنّ الجدل القائم حول إيمان خليف يسلّط الضّوء على قضايا أشمل عن القوالب النّمطيّة والتّمييز الجندريّ في الرّياضة.
مضيفة: “قصّة إيمان مثال واضح لكيفيّة مواجهة النّساء الرّياضيّات، بخاصّة من منطقتنا، رقابة إضافيّة، ليس لأدائهنّ فحسب بل لمظهرهنّ أيضًا”، مشدّدة على التّركيز المفرط على مظهر خليف.
تتطرّق سبيتي أيضًا إلى التّنمّر الّذي تعرّضت له خليف عبر الإنترنت ، لا سيما الإتّهامات المتعلقة بجندرها.
وتقول: “هم فعليًّا يتنمّرون على مظهرها الطّبيعيّ الّذي ولدت عليه. لذا طبعًا يتمّ التّنمّر عليها لكونها امرأة، إذ يلعب ذلك دورًا كبيرًا في التّوافق الجنسانيّ المتعلّق بفكرتنا عمّا يجب أن يكون مظهر المرأة”.
لقد واجهت سبيتي حصّتها من الصّراعات في لبنان، ليس بالضّرورة بسبب جندرها، إنّما بسبب فشل نظام الحكم في البلد.
تُخبر أنّه في عمليّة الاختيار للألعاب الأولمبيّة لفئة مسابقات الميدان والمضمار في لبنان، يسمح بتأهّل رياضيّ واحد من كلّ جندر.
وتضيف: “إنّهم يختارون رياضيًّا واحدًا عن فئة الميدان، وذلك لأنّنا لا نملك أحدًا يتأهّل مباشرة”.
تتضاعف هذه المحدوديّة بفشل الاتّحاد في إيلاء الأولويّة للتّكافؤ الجندريّ، محبطة بذلك الرّياضيّين والرّياضيّات.
ولقد ازداد الوضع تعقيدًا عندما حقّق رياضيّ آخر، ترك الجيش مؤخّرًا، نقاطًا عالية قبل موعد التّأهيلات النّهائيّ بقليل.
ساءلت سبيتي قواعد التّأهّل الخاصّة بالاتّحاد مشدّدة على عدم وضوحها: “هو فعليًّا، شخص هارب، ترك الجيش… فكيف يعطيه ذلك الحقّ في تمثيل البلد؟”
في النّهاية، بسبب سوء الإدارة والقرارات اللّحظيّة، لم يتسنّ لأيّ رياضيّ تمثيل لبنان في مسابقة الميدان والمضمار في الألعاب الأولمبيّة للمرّة الثّانية منذ 1996.
وفي هذا الشّأن قالت: “كانت صدمة حياتي… لا يمكنهم تناسي باقي الرّياضيّين والقول، حسنًا، لن يشارك أحد إذًا”، معبّرة عن خيبتها بطريقة معالجة الاتّحاد لهذه المسألة والفرصة الفائتة للبنان على السّاحة الأولمبيّة.
رفعت سبيتي قضيّتها إلى محكمة التّحكيم الرّياضيّة، بحثًا عن قوانين أوضح حول شروط التّأهّل والتّمييز الجندريّ في الاتّحاد الرّياضيّ اللّبنانيّ. لكنّها تعلم أنّه قد لا يتغيّر الكثير بسبب نظام الحكم الضّعيف، قائلة “مجرّد وصول قضيّتي إليهم أمر بالغ الأهمّيّة” وترى ذلك كخطوة أولى حاسمة نحو الإصلاح.
تنميط اجتماعيّ مترسّخ
تحاول سبيتي الحفاظ على نظرة إيجابيّة تجاه دورها كرياضيّة، برؤيته كأمر يتخطّى المنافسة على الميدان.
قالت: “أشعر بأنّ دوري كرياضيّة قد نما ليتعدّى حدود الميدان”، شارحة كيف حوّلت تركيزها نحو إحداث أثر أوسع، فبالنّسبة إليها رحلتها أصبحت حول معالجة قضايا الإدارة الموبئة لنظام الرّياضة في لبنان.
وأكملت: “لا أعلم ما سيحدث في السّنوات الأربعة القادمة للألعاب الأولمبيّة التّالية، لكن الآن ربّما تتمحور رحلتي حول محاولة إحداث تغيير”. كما أنّها تعمل على تأسيس منظّمة تهدف إلى إحداث هذا التّغيير على أمل إعادة هيكلة النّظام لرياضيّي الأجيال القادمة.
أمّا في المملكة العربيّة السّعوديّة ما زالت النّساء تصارعن من أجل المساواة في الحقوق. أمّا التّمييز الجندريّ فمسيطر على الرّياضة، إذ حُرّمت النّساء والفتيات من المشاركة في الرّياضات في المدارس أو حضور الفعاليّات في الملاعب، وكان ذلك ينطبق منذ زمن ليس ببعيدٍ، في 2018.
لكن بخطوة مثيرة للجدل، منحت فيفا السّلطة السّياحيّة السّعوديّة رعاية كأس العالم للسّيّدات عام 2023، مثيرة الانتقادات لتغاضيها عن قمع المدافعين عن حقوق المرأة في البلاد. ووضعت هذه الرّعاية الإعلانات السّعوديّة بشكلٍ بارزٍ في لائحة الفعّاليّة الرّياضيّة النّسائيّة الأكثر مشاهدة عالميًّا، على الرّغم من سجلّ البلد الضّعيف في ما يتعلّق بالمساواة بين الجنسين في الرّياضة.
إضافة إلى ذلك، تواجه الفئات المهمّشة مثل النّساء اللّاجئات تحدّيات أكثر صعوبة. قالت لاعبة ومدرّبة كرة القدم الفلسطينيّة أمينة شراريد القاطنة في لبنان لفنك، أنّها واجهت منذ سنّ صغيرة عقبات اجتماعيّة وثقافيّة، بمعارضة الكثيرين من مجتمعها فكرة فتاة تلعب كرة القدم.
وقالت: “كان النّاس ينادونني غلاميّة لأنّني ألعب كرة القدم”.
على الرّغم من ذلك، ثابرت مدفوعة بدعم أبيها المنفتح على فكرة ملاحقة ابنته شغفها في الرّياضة.
شغف شراريد بكرة القدم حملها الانضمام إلى فريق شكّلته جمعيّة الجليل، وهي مبادرة محلّيّة هدفها تشجيع النّساء على المشاركة في الرّياضات. وصرّحت “كلّ شيء بدأ من هناك”.
ولقد ازدهرت مسيرتها في كرة القدم ومثّلت فلسطين في مباريات متعدّدة في لبنان والعالم. إلّا أنّ جائحة كورونا ودراساتها في التّمريض أجبروها على تقليص مشاركتها على أرض الملعب. وبذلك، انتقلت شراريد إلى تدريب الفتيات الصّغيرات قائلة: “من المهمّ توجيههنّ، بخاصّة في مواجهة التّوقّعات الاجتماعيّة”.
على الرّغم من إنجازاتها، تسلّط شراريد الضّوء على التّحدّيات المستمرّة الّتي تواجهها النّساء في الرّياضة، بخاصّة في لبنان. إذ يبقى الوصول إلى المنشآت المناسبة والموارد محدودًا، كما أنّ هناك بعض النقص في الدّعم الماليّ للرّياضيّين بشكل عامّ، وللرّياضيّات بشكل خاصّ.
وقالت بتحسّر: “ما من استثمار طويل الأمد أو بنى تحتيّة مناسبة لكرة قدم السّيّدات، بخاصّة للنّساء اللّاجئات”، مضيفة أنّها لو كانت تعيش في بلد آخر لربّما كان مستقبلها مختلفًا.
وأكملت: “في مجتمعات اللّاجئين وفي الشّرق الأوسط ككلّ، ما زال يُنظر إلى النّساء على أنّه من واجبهنّ أن يصبحن ربّات منزل، ويبتعدن عن النّشاطات الصّبيانيّة مثل الرّياضة”.
وفي مجتمع حيث ترمز فيه الرّياضة غالبًا إلى السّلطة الذّكوريّة، يعدُّ الكفاح من أجل المساواة في الألعاب الرّياضيّة جزءًا من حركة أشمل في سبيل المساواة بين الجنسين. وإنّ المجهود المستمرّ لهؤلاء الرّياضيّات يسطّر أهمّيّة تلقّي الدّعم الثّابت، مادّيًّا واجتماعيًّا، فضلًا عن الحاجة إلى سياسات وتمثيل ٍأكثر إدماجًا. فالنّساء في الرّياضة لا يتنافسن على الميداليّات فحسب، إنّما يسعين للحصول على التّقدير والاحترام والحقّ في تقرير مستقبلهنّ وإلهام الأجيال القادمة.