وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

العقود الأولى من استقلال سوريا: 1946-1963

الرئيس السوري أديب الشيشكلي يتناول العشاء مع الملك فيصل
الرئيس السوري أديب الشيشكلي يتناول العشاء مع الملك فيصل (يمين) ولي العهد السعودي الأمير فيصل. (Photo by SAMI SOLH ALBUM / AFP)

المقدمة

بدأت سوريا عهد الاستقلال الكامل كدولة ديمقراطية برلمانية، ولكن في غضون أشهر استلم الجيش زمام المبادرة وقام

بتنظيم سلسلة من الانقلابات العسكرية والتسلط بالتعاون مع نخبة سياسية واقتصادية تضم عدداً صغيراً من عائلات أصحاب الأطيان والتجار، معظمهم في دمشق وحمص وحلب. حدث أول انقلاب غير دموي في 30 آذار/مارس عام 1949 من قبل رئيس هيئة الأركان العقيد حسني الزعيم، الذي أطاح بحكومة الرئيس شكري القوتلي المنتخبة، وقام بحل البرلمان. وقام العقيد سامي الحناوي بالانقلاب الثاني في 14 آب/أغسطس عام 1949. ألقي القبض على حسني الزعيم ورئيس وزرائه محسن البرازي، وتمت محاكمتهما وإعدامهما.

أعاد الحناوي سوريا إلى الحكم المدني من خلال انتخابات عامة أجريت في تشرين الثاني/نوفمبر. وفي 19 كانون الأول/ديسمبر عام 1949، تمت الإطاحة بنظامه في انقلاب ثالث بقيادة العقيد أديب الشيشكلي، الذي شارك في انقلاب الحناوي. اعتقل الزعيم السوري الجديد الحناوي متهماً إياه بالتآمر مع العراق ضد سوريا. وأصر الشيشكلي على أن تضم جميع الحكومات صديقه المقرّب فوزي السلو كوزير للدفاع. وعندما رفض رئيس الوزراء معروف الدواليبي، قام الشيشكلي بانقلاب آخر في 28 تشرين الثاني/نوفمبر عام 1951. فقام باعتقال الدواليبي مع مجلس وزرائه بالكامل والعديد من رجال السياسة الآخرين ممن لا يثق بهم. واحتجاجاً على ذلك، استقال الرئيس هاشم الأتاسي.

أصبح حكم الشيشكلي دكتاتورياً على نحو متزايد. عام 1952، حظر جميع الأحزاب السياسية، وأسس حزبه الخاص: حركة التحرر العربية. وبحلول منتصف عام 1953، كانت المعارضة لنظام الشيشكلي قد وصلت أوجها، ولا سيما في أوساط اليساريين والقوميين، وفي أوساط الدروز الذين عاداهم الشيشكلي بشكل خاص. اتفقت أحزاب المعارضة الرئيسية على العمل معاً لإسقاط الشيشكلي.

وفي كانون الثاني/يناير عام 1954، قصف الجيش مدناً في جبل الدروز بالمدفعية الثقيلة، مما أسفر عن مقتل وإصابة الكثيرين. وأعلن النظام الأحكام العرفية، ولكن دون جدوى. وفي 27 شباط/فبراير عام 1954، قلم العقيد فيصل الأتاسي بالانقلاب العسكري الخامس منذ الاستقلال، وأعاد الحكم البرلماني.

القومية العربية وحزب البعث

كانت هذه الأنظمة العسكرية البدائية غير أيديولوجية بشكل أو بآخر، إلا انها ظهرت عندما اجتاحت المنطقة موجة القومية التي صمم زعماؤها على تصحيح الأخطاء والقضاء على نقاط الضعف التي أدت إلى هزيمة العرب من قبل الصهيونية في حرب عام 1948 -1949 في فلسطين. عام 1952، تمت الإطاحة بالنظام الملكي المصري من قبل ضباط الجيش الشباب برئاسة جمال عبد الناصر ذي الشخصية الجذابة، والذي سرعان ما تبنى الفكر القومي العربي الشعبي، وسقط النظام الملكي العراقي عام 1958. كان حزب البعث أحد أقوى التيارات في هذه الموجة.

تأسس حزب البعث في دمشق في أربعينات القرن العشرين من قبل اثنين من معلمي المرحلة الثانوية، من خريجي جامعة السوربون الفرنسية: ميشيل عفلق، مسيحي من طائفة الروم الأرثوذكس؛ وصلاح الدين البيطار، مسلم سنّي. وكان شعارا الحزب الرئيسيان “الوحدة والحرية والاشتراكية” و “أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة”.

في سنواته الأولى، كان لحزب البعث بضع مئات من الأعضاء، معظمهم طلاب من أصول ريفية، وكان يؤيد الوحدة العربية والعدالة الاجتماعية باعتبارها الطريق إلى النهضة العربية. وفي أوائل خمسينات القرن العشرين، بلغ عدد أعضائه حوالي 4500 فقط، ولكن العلامة البارزة في تطور حزب البعث جاءت عام 1952 عندما اندمج مع الحزب العربي الاشتراكي بزعامة أكرم الحوراني، الخطوة التي أعطت الحزب أول جمهور كبير من الفلاحين الأنصار. اشتهر الحوراني، وهو محام من مدينة حماة، كقومي عربي في عهد الانتداب الفرنسي، وبعد استقلال سوريا عام 1946 كبطل المزارعين الفلاحين المظلومين في منطقته.

عام 1950، نظم الحوراني أتباعه في الحزب العربي الاشتركي، الذي كان مقره الرئيسي في مدينة حماة. وفي ظل ديكتاتورية أديب الشيشكلي، الذي كان قد استولى على السلطة في كانون الأول/ديسمبر عام 1949، لجأ الحوراني والبيطار وعفلق إلى لبنان، حيث اتفقوا على دمج أحزابهم في حزب البعث العربي الاشتراكي. ووفق أخصائي في الشؤون السورية، كان “تحالفاً للطبقة الحضرية الرفيعة والمدرسين والموظفين الحكوميين وأمثالهم، مع الفلاحين الثوريين” (باتريك سيل، “الأسد: الصراع على الشرق الأوسط”، 1995، ص 47). وازداد تأييد حزب البعث بسرعة خلال خمسينات القرن العشرين.

الديمقراطية البرلمانية: 1954-1958

كانت خمسينات القرن العشرين ذروة القومية العربية اليسارية الراديكالية في الشرق الأوسط، والتي أججتها الهزيمة العربية في حرب فلسطين 1948-1949؛ وحملة السويس البريطانية الفرنسية الإسرائيلية عام 1956؛ والحرب الباردة بين الشرق والغرب، حيث كان كل طرف فيها يبحث عن عملاء محليين. وفي سوريا، انعكست هذه التطورات بشكل واضح على الحياة السياسية في البلاد. فاز حزب البعث العربي الاشتراكي بـ 15% من الأصوات و 22 مقعداً من أصل 142 في البرلمان في انتخابات عام 1954، مما جعله أكبر حزب يساري قومي في البرلمان وثاني أكبر حزب في الترتيب العام بعد حزب الشعب الوطني المحافظ الذي فاز بـ 30 مقعد.

وجاءت الكتلة الوطنية القومية المحافظة (التي انشق عنها حزب الشعب) في المركز الثالث بـ 19 مقعداً. وفاز الحزب الشيوعي السوري، الذي كان أشد منافس لحزب البعث خلال خمسينات القرن العشرين، بمقعد واحد فقط. وضمت المجموعة الوحيدة الأكبر في البرلمان ستين عضواً من المستقلين.

لكن قبل أواخر خمسينات القرن العشرين، تضاءل تأييد المحافظين بشكل كبير. ولتشجيع تراجع تأييد المحافظين بشكل أكثر، اتفق حزب البعث والحزب الشيوعي السوري، التجمعان اليساريان/القوميان الأكثر فعالية، على التعاون. وبحلول نهاية ذلك العام، سيطر الحزبان مع الحلفاء اليساريين والقوميين على الحكومة.

عام 1958، وتماشياً مع إيديولوجية حزب البعث الوحدوية واستحسان الجمهور السوري، الذي أصبح عبد الناصر بالنسبة له بطلاً بعد أزمة السويس، اتحدت سوريا ومصر في الجمهورية العربية المتحدة، وأصبحت سوريا تدعى “الإقليم الشمالي” والشريك الأصغر بالنسبة لعبد الناصر. وتذوق السوريون لأول مرة الطعم الحقيقي للحياة في ظل دولة بوليسية اعتادت فيها المخابرات على اجتثاث المعارضة والقضاء عليها. وغالباً ما يُرجع الليبراليون السوريون بداية متاعب بلادهم الحالية إلى هذه الفترة.

كان الحزب الحاكم في الجمهورية العربية المتحدة حزب “الاتحاد الوطني”، الذي كان من نتاج الزعيم المصري عبد الناصر. ومع أن حزب البعث السوري كان قد حل نفسه رسمياً، بناء على إصرار عبد الناصر، تم تشكيل لجنة عسكرية بعثية سرية عام 1959، دون علم البعثيين المدنيين، وذلك من قبل ضباط سوريين معينين في القاهرة، وكان من بينهم حافظ الأسد.

انتهت الوحدة غير السعيدة في 28 أيلول/سبتمبر عام 1961 بانقلاب في دمشق بقيادة العقيد عبد الكريم النحلاوي اليميني المناهض للوحدة. وأعيدت الحكومة البرلمانية لفترة وجيزة (مع فوز حزب البعث بـ 20 مقعداً من أصل 172 في البرلمان والإخوان المسلمين بعشرة مقاعد). ولكن حدث انقلاب عسكري آخر في آذار/مارس عام 1962. واستمرت الاضطرابات السياسية. وفي 8 آذار/مارس عام 1963، وبعد شهر فقط من تولي حزب البعث الحكم في العراق المجاور، استولى البعثيون في تحالف مع الناصريين والقوميين المستقلين على السلطة في انقلاب عسكري، وهو الانقلاب الثامن منذ استقلال البلاد.

Advertisement
Fanack Water Palestine