تعامل حافظ الأسد بقسوة شديدة مع خصومه في الحزب. فقد سُجن كثيرون منهم لفترات طويلة—وأحيانًا حتى الموت في المعتقل.

نيقولاوس فان دام
الأولوية: العروبة أم الاشتراكية؟
من الناحية الأيديولوجية، تمحورت الخلافات بين القادة الأصليين للنظام البعثي السوري في المقام الأول حول مسألة الأولويات.
فقد أعطى أعضاء في الحزب، مثل اللواء صلاح جديد—الذي كان حتى اعتقاله عام 1970 من أقوى الشخصيات في حزب البعث—الأولوية لتنفيذ الإصلاحات الاشتراكية داخل سوريا. وقد جاء هذا التركيز على حساب أي استعداد منه للتعاون مع بعض الأنظمة العربية. فعلى سبيل المثال، رفض جديد التعاون مع حكومات عربية اعتبرها رجعية، مثل الملكيتين في الأردن والسعودية.
أما حافظ الأسد، فعلى العكس من ذلك، فقد أعطى الأولوية للتعاون العربي المشترك بهدف تحقيق نوع من التكافؤ العسكري والاستراتيجي مع إسرائيل. ومن أجل ذلك، كان منفتحًا على العمل مع دول عربية أخرى بغض النظر عن توجهاتها السياسية. وهذا ما يفسّر أيضًا تعاونه لاحقًا مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية خلال الحرب الإيرانية-العراقية (1980–1988). فقد وقف الأسد إلى جانب إيران غير العربية ضد نظيره البعثي العربي الرئيس العراقي صدام حسين، في خطوة تتعارض تمامًا مع مبادئ حزب البعث. وكان يعتقد أن الدعم العسكري الإيراني يمكن أن يعزز الموقع الاستراتيجي لسوريا في مواجهة إسرائيل.
كما شارك الأسد في عملية عاصفة الصحراء عام 1991، وساعد الولايات المتحدة في طرد الجيش العراقي من الكويت. لكنه لم يكن ليؤيد احتلال أراضٍ عربية عراقية.
وعلى الرغم من هذه الخلافات الأيديولوجية، فقد اتفق معظم القادة البعثيين البارزين على نقطة جوهرية واحدة: كانوا جميعًا من أنصار الوحدة العربية المتحمسين—ولكن بشرط أن يكونوا هم الحكام الوحيدين لها. وقد انطبق هذا المبدأ على حافظ الأسد تمامًا كما انطبق على صدام حسين. أما تقاسم السلطة أو القيادة الجماعية، فلم يكن لها مكان فعلي في قاموسهم السياسي.
الدور الحاسم للطائفية والأقليات الدينية الناطقة بالعربية
من الناحية الرسمية، كان موضوع الطائفية—بمعنى استحضار الولاءات ضمن الطوائف الدينية—من المحرّمات الصارمة داخل حزب البعث والجيش.
فأي شخص يلمّح، مجرد تلميح، إلى أن الضباط العلويين مثل الأسد كانوا يلعبون دورًا بارزًا بشكل غير متناسب—وهو ما كان واضحًا بالفعل—كان يُفصل من الجيش والحزب معًا. ومن المفارقات أن هذا القمع للنقاش لم يؤدِّ إلا إلى تعزيز الهيمنة المتزايدة للضباط العسكريين العلويين.
ومع ذلك، لم يمنع هذا من نشوب صراع على السلطة داخل الطائفة العلوية نفسها، كان نتيجته بروز اللواء حافظ الأسد كمنتصر نهائي. وبعد استيلائه على الحكم عام 1970، قام خصومه بمحاولة أخيرة للطعن في سلطته—ومن غير المتوقع أن جاءت هذه المحاولة من داخل دائرته المقربة نفسها.
ففي عام 1983، وعندما تعرض الرئيس لمشاكل قلبية خطيرة، حاول شقيقه رفعت الأسد تنفيذ انقلاب بمساعدة سرايا الدفاع السيئة السمعة التي كان يقودها.
وعلى الرغم من أن هذه السرايا كانت تُعتبر قوة مهيمنة سابقًا، إلا أنها كانت تعاني من نقطة ضعف قاتلة: فأهم وحداتها القتالية كانت تتكوّن أساسًا من أفراد الطائفة العلوية المرشدية. وعندما توجّه الرئيس حافظ الأسد بنفسه بنداء مباشر إلى المرشديين يدعوهم إلى ترك مواقعهم في سرايا الدفاع التابعة لرفعت، انهارت القاعدة العسكرية لشقيقه على الفور تقريبًا.
وقد مُنح رفعت منصبًا رمزيًا كنائب للرئيس، لكنه اضطر بعد ذلك بوقت قصير إلى مغادرة سوريا والدخول في منفى طويل الأمد.
الوحشية تجاه أي شكل من أشكال المعارضة
تعامل حافظ الأسد بقسوة شديدة مع خصومه في الحزب. فقد سُجن كثيرون منهم لفترات طويلة—وأحيانًا حتى الموت في المعتقل، كما حدث مع صلاح جديد. وأُعدم آخرون دون رحمة. ولم يكن حال المعارضين من خارج حزب البعث أفضل—بل كان التعامل معهم أحيانًا أكثر وحشية.
كانت ممارسات التعذيب قد أصبحت روتينًا معتادًا في السجون السورية منذ الأيام الأولى لحكم البعث عام 1963، على الرغم من أن هذه الممارسات كانت منتشرة أيضًا خلال خمسينيات القرن الماضي في عهد مدير الاستخبارات السورية الشهير بسوء سمعته، العقيد عبد الحميد السراج.
وقد كتب البعثي المنشق مطاع الصفدي منذ عام 1964 بشكل مفصل عن هذه الممارسات، التي كان ينفذها في كثير من الأحيان حراس من الأقليات الدينية، مثل العلويين والدروز والمسيحيين. وقد أعطى كتابه عنوانًا معبرًا: “حزب البعث: مأساة المولد ومأساة النهاية”—وهو عنوان تبيّن لاحقًا أنه سابق لأوانه، إذ لم تأتِ نهاية نظام البعث إلا بعد ستين عامًا.
كتب مطاع الصفدي:
وكل الذين تعرضوا للسجن والاستجواب والتعذيب ما زالوا يذكرون أسماء زبانيتهم، وكيف ان اكثرهم وأعنفهم كانوا من طوائف معينة.. وأبعد من هذا، فقد كانوا يمارسون تعذيبهم وشتمهم بأساليب (طائفية)… وكانوا يمنعون أنفسهم من الحقد على “كل” العلويين، لأن مدير السجن او قائد فرقة التعذيب، وأكثر مساعديه كانوا علويين ويظهرون “علويتهم” بإهانة عقائد المعذبين [السنّة].
كانت هذه الممارسات التعذيبية قائمة بالفعل في أوائل الستينيات.
لكن خلال الثورة السورية (2011–2024)، تدهورت أوضاع السجون إلى مستويات أكثر رعبًا. فقد تم إعدام عشرات الآلاف من المعتقلين دون رحمة، ودُفنوا في مقابر جماعية غير معلّمة.
وقد شهدت سوريا في عهد حافظ الأسد قمعًا مشابهًا خلال انتفاضات سابقة، أبرزها انتفاضة الإخوان المسلمين في حماة عام 1982، التي قُتل فيها أكثر من 30,000 سوري. وكانت الإعدامات الجماعية في سجون مثل تدمر لا تقل رعبًا وهولًا.
كان مجرد الاشتباه في نية معارضة نظام البعث السوري كافيًا لجرّ الشخص إلى مصير دموي وقمع شديد.
ومن المدهش، بعد كل ذلك، أن عددًا كبيرًا من السوريين تجرأ على الانتفاض ضد النظام عام 2011—رغم افتقارهم إلى الحد الأدنى من الوسائل لإسقاطه. وقد استلهموا حركتهم من الثورات التي اندلعت في تونس ومصر وليبيا، واعتقدوا أن شيئًا مماثلًا قد يكون ممكنًا في سوريا. لكن تبيّن لاحقًا أن الوضع السوري كان مختلفًا جذريًا.
نيقولاوس فان دام هو السفير الهولندي السابق لدى كل من إندونيسيا وألمانيا وتركيا وأذربيجان ومصر والعراق، وكذلك المبعوث الخاص السابق لسوريا. وهو مؤلف كتاب “الصراع على السلطة في سوريا” وكتاب “تدمير وطن: الحرب الأهلية في سوريا” وكتاب “رحلاتي الدبلوماسية في العالم العربي والإسلامي”.الموقع الإلكتروني http://nikolaosvandam.academia.edu
