وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

أزمة الديمقراطية في تونس 2019- 2024

شهد النظام السياسي التونسي تغيرات كبيرة عقب الانتخابات الرئاسية والتشريعية التي عُقدت نهاية عام 2019. فقد هيمن المزاج الشعبوي على نتائج الانتخابات ليدفع بالتوازن السياسي المضطرب في البلاد إلى أزمة عميقة.

تونس في عهد قيس سعيّد
الاتحاد العام التونسي للشغل يحشد مظاهرة في ساحة القصبة بالعاصمة تونس في 2 مارس 2024. نددت المظاهرة بالقيود المفروضة على الحقوق النقابية، وغلاء تكاليف المعيشة، والوضع الاقتصادي الصعب في البلاد. وشملت المظاهرة حشداً من العمال والناشطين والمواطنين الذين تجمّعوا للتعبير عن مخاوفهم، وإدانة ما يرونه تقييداً لحقوق العمال. Yassine Gaidi / ANADOLU / Anadolu via AFP

كتبه: C.R. Pennell أستاذ سابق في تاريخ الإسلام والشرق الأوسط, جامعة ملبورن أستراليا

حرره: إريك برينس

رئاسة قيس سعيّد

لم يمرّ كثير من الوقت حتى دبّ الخلاف بين الرئيس الجديد قيس سعيّد وراشد الغنوشي زعيم حركة النهضة ورئيس مجلس النواب. إذ تعارضت أفكار سعيّد والمفاهيم الإسلامية التي تبنّتها حركة النهضة التي كانت تسيطر على مجلس النواب آنذاك.

فشل الحبيب الجملي الذي عُيّن رئيساً للحكومة في الحصول على ثقة مجلس النواب. لذلك، في فبراير، حاول إلياس الفخفاخ، الذي كان من المقرر أن يتولى وزارة المالية في حكومة الجملي، تشكيل حكومة ائتلافية. وشملت الحكومة أعضاء من النهضة وحزب التيار الديمقراطي وبعض الأحزاب الصغيرة. لكن الحكومة لم تستمر إلا 6 أشهر عندما استقال الفخفاخ في سبتمبر 2020 على خلفية اتهامات بالفساد، إلا أنّه أنكرها كلها. وبعد مقترحات عديدة بتشكيل حكومات مختلفة، أُسند أمر تشكيل الحكومة إلى هشام المشيشي.

وفي خضم ذلك الاضطراب السياسي، لم تستطع أي حكومة مواجهة الأزمات التي تواجه البلاد، كالأزمة المالية المتمثلة في ازدياد الدين الخارجي وارتفاع تكاليف المعيشة، وهو ما أدى إلى تدهور الخدمات العامة وتفشي الفساد. ومثّلت جائحة كورونا إحدى المشكلات الخطيرة أيضاً، إذ تفشى الفيروس في تونس في أواخر سبتمبر 2020 وانتشر سريعاً، ولذلك فرضت الحكومة إجراءات الإغلاق، فانكمش الاقتصاد بنسبة 4%.

ومع بداية 2021، حاول المشيشي إعادة تنظيم حكومته، لكن الرئيس سعيّد رفض أن يقسم الوزراء الجدد اليمين الدستوري أمامه متذرعاً بأنّ بعضهم انتهك الدستور. وفي ظل غياب المحكمة الدستورية التي يمكنها الفصل في ذلك النزاع، وعرقل الرئيس محاولة مجلس النواب تعيين محكمة دستورية. عُلّقت معظم الأعمال التشريعية في مجلس النواب باستثناء الموازنة العامة السنوية، وأحياناً ما كان يتشاجر نواب المجلس بالأيدي. وخارج تونس العاصمة، أدت المظاهرات إلى خفض إنتاج النفط والغاز بنسبة 50%. ولما تفشت الموجة الثانية من جائحة كورونا في تونس في يوليو 2021، لم تتمكن الحكومة المقيّدة من تسيير أمور البلاد.

تركّز السلطة

في 25 يوليو 2021، فعّل الرئيس سعيّد الفصل 80 من الدستور، والتي تسمح للرئيس باتخاذ “التدابير التي تحتمها الحالة الاستثنائية” لمدة 30 يوماً في مواجهة ما وصفه الدستور بحالة “الخطر الداهم الذي يهدد كيان الوطن وأمن البلاد واستقلالها، ويتعذر معه السير العادي لدواليب الدولة”. وكانت هذه هي الخطوة الأولى لتركيز السلطة في يد سعيّد.

ومن الناحية العملية، كانت تلك الخطوة تعني الرئيس قد علّق عمل مجلس النواب ورفع الحصانة عن أعضائه. وبعد ذلك أقال بعض الوزراء من الحكومة، وألغى استقلالية القضاء، وجعل النيابة العامة في ولاية مكتب الرئيس. ولمّا أمر بتعبئة الجيش، أعلن بعدها تنفيذ الأحكام العرفية.

وبعد مرور شهرين، توغل الرئيس سعيّد. ففي سبتمبر، قرر حل مجلس النواب واستبدل الدستور بمرسوم في ثلاث صفحات يمنحه سلطة تنفيذية وتشريعية كاملة يحكم به كيفما شاء. وفي أحد تلك المراسيم الأولى، وضع سعيّد عقوبة بالسجن على كل من يرتكب جريمة نشر “معلومات كاذبة” عبر الإنترنت، فبدأت الشرطة تعتقل الصحفيين والمدونين عبر الإنترنت. ولم يكن ممكناً تحدي سلطة الرئيس آنذاك في ظل غياب محكمة دستورية تبت في شرعية المراسيم الرئاسية. وهكذا دمر سعيّد المؤسسات الديمقراطية بالكامل تقريباً وعمل على تعزيز سلطته الرئاسية.

وبذلك حشد الرئيس سعيّد معارضة شديدة من النشطاء الإسلاميين والمؤيدين للحركة النقابية، وكذلك من المهنيين الذين عارضوا نظام الرئيس بن علي ممن كانوا يخشون عودة النظام الاستبدادي مرة أخرى.

وفي المقابل، حظي سعيّد أيضاً بدعم كبير وتحديداً بين الطبقات الفقيرة، بالإضافة إلى الموظفين ذوي الرواتب الدنيا والتجار وسائقي سيارات الأجرة، وتحديداً بين المتقاعدين والشباب. وتركزت معظم هذه المجموعات في الضواحي الفقيرة في العاصمة والمناطق الأقل حظاً من الثروة في البلاد.

وكانت حركة قوى تونس الحرة من أكبر مؤيدي سعيّد، إذ دعمته بعد انتخابه عام 2019 من خلال منظماتها الخاصة المستقلة عن الرئيس. وكانت لجان الحركة المعروفة باسم “التنسيقيات” ناشطة في كل محافظات تونس.

ونافست التنسيقيات كلاً من الأحزاب السياسية والاتحادات النقابية من خلال فتح قناة اتصال مباشرة مع مؤسسة الرئاسة. وأبلغت الرئيس مباشرةً بقضايا الفساد والمشكلات الجهوية. وعلى الصعيد الأيديولوجي، صنّفت الحركة نفسها حركةً قوميةً مناهضة لحركة النهضة. وتمكنت التنسيقيات من جمع شريحة واسعة من المحبطين بسبب قاعدتها التي تشمل ناشطين سابقين في الحركة الطلابية، بالإضافة إلى الخريجين العاطلين عن العمل والأعضاء السابقين في روابط حماية الثورة.

ودعمت بعض فئات الطبقة الوسطى الرئيس سعيّد أيضاً، إذ مثّل لها أملاً لتطهير البنى السياسية والإدارية من الفساد وإنشاء نظام ديمقراطي جديد. وقد أرادت تلك الفئات تدشين هيكل جديد يتوافق مع تاريخ تونس وواقعها الاجتماعي، ويهتم بتمثيل السكان المحليين من خلال مسؤولين يتولون مهمة الإشراف على استراتيجيات التنمية المحلية.

وفي مطلع 2022، صيغت هذه الأفكار رسمياً من خلال عملية الحوار المجتمعي من خلال الاقتراع الإلكتروني. وشهدت هذه العملية إقبالاً ضعيفاً للغاية، لكنها أدت في النهاية إلى وضع دستور جديد حصل على موافقة أغلبية كبيرة في عملية اقتراع شارك فيها أقل من ثلث الناخبين المدرجين في القوائم الانتخابية. وقد عزز الدستور الجديد سلطات النظام الرئاسي، ونصّ على أن يمثل كل دائرة انتخابية في مجلس النواب عضو واحد على أساس التمثيل النسبي من دون أي انتماء حزبي على بطاقة الاقتراع.

ومهد ذلك الطريق لإجراء الانتخابات التشريعية في ديسمبر 2022 ويناير 2023، والتي قاطعتها معظم الأحزاب السياسية وشريحة كبيرة من الناخبين. وبلغت نسبة المشاركة في الجولة الأولى في ديسمبر 2022 نحو 11%، ولم تختلف كثيراً نسبة المشاركة في الجولة الثانية التي جرت في الشهر التالي، لتصبح تلك الانتخابات التشريعية هي الأقل على مستوى نسبة المشاركة في العالم تقريبا.

ديكتاتورية سعيّد

تسارعت وتيرة القمع في النظام الجديد في مطلع 2023، وأُجبر كثير من السياسيين ورجال الأعمال والنقابيين والصحفيين وموظفي الخدمة المدنية على العيش في المنفى، كما واجه آخرون الاعتقال بتهم الفساد أو دعم الجماعات الجهادية في الخارج. وحُكم على راشد الغنوشي، زعيم حركة النهضة، بالسجن لمدة عام بتهمة “تمجيد الإرهاب” بعدما وصف الشرطة بالطواغيت. كما منعت الحكومة حركة النهضة من التظاهر واعتقلت أعضاء آخرين من قيادتها.

وفي ظل هذه الظروف، ساءت الأوضاع الاقتصادية وارتفع التضخم ارتفاعاً حاداً. ففي عام 2022، ارتفعت أسعار الوقود بنسبة 20%، والكهرباء بنسبة 12%، والغاز بنسبة 16%. كما ارتفعت أسعار المواد الغذائية أيضاً بسبب ارتفاع أسعار السلع على مستوى العالم، فضلاً عن انخفاض الإنتاجية الزراعية تأثراً بالحرب على أوكرانيا وصعوبة استيراد الأسمدة الروسية. ولمّا فرضت الحكومة السيطرة على الأسعار، أصبح الحصول على السلع الأساسية مثل الوقود والحبوب والسكر والقهوة ومنتجات الألبان أصعب من ذي قبل.

وفي الوقت نفسه، صارت أجهزة القضاء والشرطة في حالة من التربص حتى صار التعبير عن الاحتجاج السياسي أمراً خطيراً. وعلى أي حال لم يكن لدى كثير من شرائح الشعب رغبة في الاحتجاج والمعارضة، إذ انجذبت كثير من تلك الشرائح إلى شعبوية سعيّد. أمّا أولئك الذين ربما فكروا في الاحتجاج، فقد راجعوا موقفهم بالتأكيد بعدما أدركوا حجم المخاطر التي تحدق بهم. وبعد اندلاع الحرب في غزة في أكتوبر 2023، تبدل اهتمام الرأي العام ولم يعد ينشغل كثيراً بالصعوبات الداخلية التي تواجهها تونس.

أزمة الديمقراطية في تونس
زياد الدبار رئيس النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين خلال إلقاء كلمة خلال مسيرة نظمتها النقابة بتونس العاصمة في 6 مارس 2024 للتضامن مع الصحفي التونسي خليفة القاسمي والمطالبة بالإفراج عنه. وكان القاسمي قد حُكم عليه بعد الاستئناف بالسجن لمدة خمس سنوات بموجب قانون مكافحة الإرهاب. وتزامنت المسيرة مع نظر محكمة التعقيب في قضية الصحفي. Chedly Ben Ibrahim / NurPhoto / NurPhoto via AFP

تزايد الديون الخارجية

لجأت الحكومة للاقتراض للخروج من الأزمات الاقتصادية ومن ثمّ ارتفعت الديون الخارجية حتى بلغت عام 2022 ما يقرب من 90% الناتج المحلي الإجمالي. وأشارت مجموعة الأزمات الدولية إلى أنّ نفقات ميزانية الدولة ستصل في 2024 إلى 17.3 مليار دولار، لكنها قدرت أنّ الإيرادات لن تتخطى 14.9 مليار دولار. كما استهلكت خدمة الديون نسبة كبيرة من الإنفاق الحكومي حتى صار الاقتراض أكثر كلفة في عام 2023 مع انخفاض التصنيف الائتماني لتونس أكثر مرة.

نجح سعيّد إلى حد ما في مواجهة المعارضة من خلال التزام دور السياسي نظيف اليد الذي أتى لمكافحة النخب الفاسدة، واعتمد على الشرطة لقمع المعارضة. وقدم نفسه في عباءة القائد القومي الشعبوي خلال حرب غزة وألقى عدة خطابات تندد بالصهيونية ومعاملة إسرائيل للفلسطينيين، وبذلك تمكن من حشد شرائح مؤيدة له.

وفي 2023، اعتمد على خطاب حازم لشن هجمات عنصرية على ما وصفهم بـ”جحافل المهاجرين غير النظاميين”. ويقصد سعيّد بخطابه المهاجرين من إفريقيا جنوب الصحراء، والذين تحوّلوا بحسب وصفه إلى مجرمين يرمون إلى تغيير التركيبة الديموغرافية لتونس وتحويلها إلى “دولة إفريقية فقط ولا انتماء لها للأمتين العربية والإسلامية”. وقد أعقب خطابه موجة من الاعتداءات الجسدية العنيفة على المهاجرين.

تجاهلت حكومة سعيّد إدانة الاتحاد الإفريقي له باستخدام خطاب معاداة الأجانب، وحافظت على علاقات جيدة مع الجزائر وأعادت العلاقات الدبلوماسية مع سوريا التي كانت الحكومة التونسية قد قطعتها في عام 2011 احتجاجاً على وحشية نظام الأسد ضد انتفاضات الربيع العربي في سوريا.

أولى نظام سعيّد ملف العلاقات الخارجية عناية بالغة، وحافظ على التحالف مع الولايات المتحدة من خلال دعم السياسة الأمريكية في قضية أوكرانيا وكذلك التعاون الأمني. واستمر التوتر قائماً في العلاقة مع الاتحاد الأوروبي رغم توقيع تونس على اتفاق الهجرة المبرم من أجل الحد من الهجرة غير الشرعية من الساحل التونسي مقابل المساعدات المالية والتعاون الاقتصادي مع دول الاتحاد الأوروبي.

ورغم المعارضة التي قوبل بها الاتفاق داخل تونس، استخدم سعيّد سلطته للمضي قدماً في الاتفاق مع الاتحاد الأوروبي. ولم يأت الاتفاق على ذكر انتهاكات حقوق الإنسان، مما أثار اتهامات للاتحاد الأوروبي بالتخلي عن حقوق الإنسان. وكذلك حذّرت هيومن رايتس ووتش من أنّ الاتفاق سيعزز سيطرة سعيّد الذي سينسب الفضل إلى نفسه في الحصول على الدعم المالي لاقتصاده المتدهور في الوقت نفسه الذي يقمع فيه السكان.

وفي النصف الأول من عام 2024، واصلت حكومة سعيّد حكمها الاستبدادي، وشددت حملتها القمعية على النشطاء السياسيين والصحفيين والعاملين في المجتمع المدني والمهاجرين وطالبي اللجوء.

ومع استمرار الوضع الاقتصادي والاجتماعي العسير، تعرضت الحكومة التونسية لضغوط من أجل تنفيذ إصلاحات هيكلية في الاقتصاد تتضمن خفض الدعم وأجور القطاع العام. وقد طُرح ذلك بناء على مطالب صندوق النقد الدولي مقابل حزمة قروض بمليارات الدولارات، ولكن الرئيس سعيّد عارض ذلك بشدة على خلفية تعرضه هو نفسه لضغوط من الشعب التونسي. إذ يُرجح أن تؤدي تلك الإصلاحات التي قدمها الصندوق إلى مصاعب جديدة في حياة التونسيين.

حشد الرئيس سعيّد كل السلطات في يده، ولم يجد التونسيون بعد ما ينتظرونه من عيش كريم وحرية سياسية وغيرها من الحقوق. وبعد أن كانت ذات يوم نموذجاً للعالم العربي، صارت مكاسب الثورة التونسية اليوم على حافة الخطر.