وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

تركيا واتفاقية مونترو: ورقة هامة في الأزمة الأوكرانية

 

تركيا واتفاقية مونترو
صورة تم التقاطها يوم ١٣ فبراير ٢٠٢٢ للغواصة الحربية الروسية “روستوف أون دون” وهي تبحر في مضيق البوسفور عبر إسطنبول في طريقها إلى البحر الأسود. ويظهر في الصورة برج غلطة خلف الغواصة التي تعمل بالديزل والكهرباء. المصدر: Ozan KOSE/ AFP.

أعادت الحرب التي تشنها روسيا على أوكرانيا ملفاً في غاية الأهمية، وهو ملف حرية مرور السفن الحربية عبر البحار والمضائق والمياه الإقليمية.

الملف أثاره السفير الأوكراني في تركيا فاسيل بودنار عندما طلب من الحكومة التركية إغلاق مضيقي البوسفور والدردنيل في وجه السفن الحربية الروسية. وفي ردّة فعلٍ أولية، قالت تركيا إنها لا تستطيع القيام بذلك إلا في حال تسميتها لما يجري في أوكرانيا حرباً، وهو ما حدث بالفعل. وبكلماتٍ أخرى، فإن اعتبار تركيا للمشهد الروسي الأوكراني بمثابة حرب منحها السلطة الكاملة لإغلاق المضيقين. وتستمد تركيا هذه السلطة بموجب معاهدة دولية تم توقيعها قبل 86 عاماً.

معاهدة مونترو 1936

كانت قضية المضيقين التركيين البوسفور والدردنيل أعقد ما تم الجدل حوله بعد الحرب العالمية الأولى بين تركيا والدول الغربية. ويعود السبب في ذلك إلى ما يلعبه هذان المضيقان الواصلان بين بحار إيجة (بالتالي المتوسط) ومرمرة والأسود من دورٍ كبير في زمن الحرب وما بعدها. وهنا، لا بد من الإشارة إلى تحكّم المضيقين بالحركة البحرية، بما في ذلك حركة السفن الحربية والتجارية.

وخضع المضيقان بعد معاهدة سيفر 1920 لإدارة أممية عبر عصبة الأمم. وبعد معاهدة لوزان 1923، استطاعت تركيا استعادة سيطرتها بشكلٍ جزئي على المضيقين الواقعين في مياهها الإقليمية، إذ تم السماح لها بتنظيم عبور السفن التجارية في فترات السلم.

بيد أن المضيقين بقيا تحت رعاية دولية عبر لجنة معينة من قبل عصبة الأمم. كما حُرمت تركيا من تثبيت قوات وأسلحة عسكرية على ضفتي المضيقين. وبكلماتٍ أخرى، بقيت سلطة تركيا على المضائق منقوصة حتى تم توقيع معاهدة مونترو في 20 يوليو 1936 في سويسرا.

الاتفاقية صادقت عليها عصبة الأمم، حيث وافقت عليها كل من فرنسا وبلغاريا واليونان واليابان ورومانيا ويوغسلافيا وتركيا والمملكة المتحدة (إنكلترا) والاتحاد السوفيتي. وبقيت الاتفاقية سارية حتى يومنا هذا، ملغيةً كلّ ما مر حول المضيقين من بنود في معاهدة لوزان.

تضمنت الاتفاقية 29 بنداً، إضافة لأربعة ملاحق وبروتوكول، أعادت بمجملها السلطة الأقوى على المضيقين لتركيا، مقابل مواد متفق عليها أممياً بخصوص مرور السفن واستخدام المضيقين. وكان أهم البنود الواردة التمييز بين نوعين للسفن هما التجارية والعسكرية، وزمنين للشروط هما السلم والحرب، وشكلين للدول هما المشاطئة للبحر الأسود (أوكرانيا وروسيا وجورجيا وتركيا وبلغاريا ورومانيا) وغير المشاطئة له.

وتتمتع السفن التجارية بحرية المرور الكامل عبر المضائق في السلم. أما في زمن الحرب، فيحق لتركيا منع مرور السفن التجارية التابعة لأعدائها عبر المضيقين في حال كانت طرفاً في الحرب. وفي حال وجود دولتين متحاربتين أخريين، لا يحق لتركيا إيقاف السفن التجارية لأي منهما، باستثناء السفن التي تحمل معدات عسكرية.

السفن الحربية تخضع لعدة شروط بمرورها سلماً وحرباً. ففي السلم، تمنح حرية العبور بعد إخطار الدولة التركية، باستثناء حاملات الطائرات فهي ممنوعة العبور كلياً (لم يتم استخدام مصطلح حاملة طائرات في الاتفاقية، إلا أن أوزان السفن الحربية المسموح لها بالعبور، تعني أنه لا يمكن لأي حاملة طائرات أن تعبر). وفي حالة الحرب، يتم التمييز بين الحروب التي تركيا طرف فيها والحروب التي لا تكون تركيا طرفاً فيها. وفي الحالة الأولى، يسمح لتركيا استخدام المضائق كما تشاء، مع احترام قوانين الملاحة البحرية الدولية. أما في الحالة الثانية، فيحق لتركيا فرض إجراءاتها على السفن الحربية للدول المتحاربة. وبكلماتٍ أخرى، يحق لها أن توقف عبور السفن، لكن يستثنى من ذلك السفن التي تعود إلى موانئها في حال كانت تتبع لدولة مشاطئة.

تطبيق الاتفاقية يعتبر ملزماً، ما لم يتم تنظيم اتفاقية جديدة تلغي اتفاقية مونترو، وهو ما لم يحصل تاريخياً رغم محاولات متكررة لتنظيم اتفاقية جديدة، أو لتعديل شروط الاتفاقية القديمة.

اتفاقية مونترو عبر التاريخ

تاريخياً اعتبر الاتحاد السوفييتي نفسه متضرراً من بنود هذه الاتفاقية، وطالب بالتعديل خاصة في عهد ستالين. لكن في حقيقة الأمر، كان الاتحاد السوفييتي من أوائل المستفيدين من الاتفاقية في الحرب العالمية الثانية، حيث أغلِق المضيقان في وجه دول المحور التي لم تستطع إرسال سفنها الحربية لمقاتلة الاتحاد السوفييتي، في شواطئه الطويلة على البحر الأسود.

أصر الاتحاد السوفييتي بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية على قضية منحه حقوقاً مساوية للتي تنالها تركيا في الاتفاقية. وأدى انزعاج الروس من عدم تعديل الاتفاقية إلى ما سمي بأزمة المضائق التركية في عام 1947، والتي كانت جزءاً من الحرب الباردة.

وكانت أزمة المضائق بمثابة نزاع تركي سوفييتي نجم عن تقييد تركيا لمرور السفن السوفييتية في البوسفور والدردنيل بموجب اتفاقية مونترو. وتعتبر تلك الأزمة السبب الأساسي في التقارب التركي الأمريكي، الذي أدى إلى دخول تركيا في حلف الناتو سنة 1952. وأدى هذا التقارب فيما أداه إلى إيقاف المناورات العسكرية السوفييتية حول المضيقين. وبعد ذلك، توقف السوفييت عن المطالبة بالحصول على ميزات في المضيقين، أو تعديل اتفاقية مونترو.

الاتفاقية ضيّقت أيضاً على الولايات المتحدة وصولها العسكري إلى البحر الأسود. ومع ذلك، فقد واصل السوفييت اتهام تركيا بالتعامل بليونة مع الولايات المتحدة بخصوص مرور سفنها الحربية عبر المضيقين.

تركيا ذاتها كانت لها أيضاً إشكاليات مع الاتفاقية، رغم أنها البلد الأكثر إصراراً على استمرار تطبيق بنود الاتفاقية ومنع تعديلها، رغم دعوات دولية مستمرة لذلك.

وكانت الاتفاقية جزءاً حاضر النقاش في أزمة الجزر اليونانية. وتطالب تركيا بمنع تسليح تلك الجزر. وترى تركيا أن سيادة اليونان على هذه الجزر ترتبط بكونها منزوعة السلاح بموجب بنود اتفاقية لوزان 1923. في المقابل، تعتبر اليونان أن اتفاقية مونترو 1936 ألغت البنود الخاصة بالمضيقين وتلك الواردة في اتفاقية لوزان. وبناءً على ذلك، ترى اليونان أنه يحق لها توفير السلاح في المناطق القريبة من المضيقين، وهو ما لا توافق عليه تركيا. فهذه الأخيرة تعتبر أن الجزء الذي تم إلغاؤه من الاتفاقية يتعلق بضمان أمن تركيا. ووفقاً للمنظور التركي، فإن تركيا هي فقط من يحق لها نشر القوات على المضيقين.

اتفاقية مونترو وقناة إسطنبول

أصدرت مجموعة من ضباط البحرية الأتراك المتقاعدين بياناً في الرابع من إبريل 2021 اتهمت فيه الحكومة التركية بأنها تهدد معاهدة مونترو بالخطر عبر مضيها قدماً بمشروع قناة إسطنبول. ويهدف هذا المشروع إلى إنشاء قناة صنعية يتم حفرها لتصل البحر الأسود ببحر مرمرة، فتشكل رديفاً لمضيق البوسفور.

وبحسب البيان، فإن مشروع القناة قد يتسبب بوضع الاتفاقية على طاولة الحوار مجدداً، نتيجة حفر خط جديد يصل البحرين. واعتبر الضباط أن الاتفاقية تحوز “موقعاً مهمّاً في مصير تركيا وبقائها”.

البيان لقي رفضاً وانتقاداً من الحكومة التركية، حيث اعتبرت مصدريه “أعداءً للجمهورية” و”انقلابيين”. وفي نفس السياق، لم يلقَ البيان دعماً واضحاً من المعارضة التركية التي اعتبرته مجرد “وجهة نظر”، ولا يمكن تصنيف مطلقيه بأنهم “أعداء”.

اتفاقية مونترو اليوم

نفذت تركيا قبل أيام حقاً من حقوقها الواردة في الاتفاقية، والذي يتيح لها إغلاق المضيقين في وجه السفن الحربية في حال اندلاع حرب. وبناء عليه، لن تستطيع السفن الحربية الروسية عبور المضيقين، واستخدامهما بما يخدم حربها في أوكرانيا. وبطبيعة الحال، فإن هذا الأمر قد يفتح في الأيام القادمة قضية الاتفاقية مجدداً، ويكون واحداً من محطات اعتراض روسيا على الاتفاقية. وربما أكثر من ذلك.

Advertisement
Fanack Water Palestine