وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

نهاية رقصة تركيا مع أوروبا

المستشارة الألمانية انجيلا ميركل، يسار، والرئيس التركي رجب طيب أردوغان
المستشارة الألمانية انجيلا ميركل، يسار، والرئيس التركي رجب طيب أردوغان يصدران بياناً صحفياً بعد اجتماع في انقرة، تركيا، 2 فبراير 2017. Photo AP

قبل حوالي ثلاثين عاماً تقريباً، في أبريل 1987، تقدمت تركيا بطلبٍ للانضمام إلى عضوية السوق الأوروبية المشتركة، وهي خطوة سابقة للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي. بل يعود انخراط تركيا في الجهود الأوروبية للاندماج إلى سنواتٍ سابقة، وبالتحديد إلى عام 1959، أي وقت التحالفات الاقتصادية والسياسية الناشئة في أوروبا الغربية.

ومع ذلك، لم تبدأ تركيا، حتى عام 2005، مفاوضاتها الرسمية للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي. ومع وجود تاريخ معقد في كلٍ من أوروبا وآسيا، لطالما ظل مكان تركيا داخل المجتمع الأوروبي موضوعاً لجدلٍ كبير. ولكن في حين أن علاقة البلاد مع القوى الأوروبية لم تكن سهلة أبداً، تنامت آمل الكثيرين بأن دخول الاتحاد الأوروبي سيخط فصلاً جديداً في العلاقات التركية الأوروبية.

وعليه، تنامت الآمال بشكلٍ كبير في عام 2002 عندما صعد حزب العدالة والتنمية برئاسة رجب طيب أردوغان إلى السلطة. ويبدو أن هذه الانتخابات جددت تطلعات تركيا الأوروبية. فقد كان الانضمام الموقف الأبرز للسياسة التركية، وركز على خلفية الرأي العام التركي الموالي لأوروبا. فقد أشارت بعض الاستطلاعات إلى أن ما يصل إلى 70% من الاتراك يفضلون العضوية في الاتحاد الاوروبي. فقد حان الوقت لزيادة الاعتراف بحقوق الأقليات التركية، وزيادة الليبرالية الدينية، وحظر عقوبة الإعدام. كل ذلك جعل تركيا أقرب إلى نظرائها الأوروبيين. وعلى ما يبدو أنه بعد سنوات من طرق الأبواب الأوروبية، قد تتمكن تركيا أخيراً من الدخول.

ومع ذلك، سرعان ما عرقل تاريخ تركيا المعقد مع اليونان المفاوضات. ففي عام 2009، ذكرت الإدارة القبرصية اليونانية أنها ستعيق فتح ستة فصول من عملية انضمام تركيا، ونقض عضوية تركيا في الاتحاد الأوروبي احتجاجاً على دعم تركيا للانقسام المستمر لقبرص. ومع هذا المأزق، بدا أن تقدم تركيا في مسارها نحو أوروبا وصل إلى طريقٍ مسدود.

وبالرغم من ذلك، في أغسطس 2013، ومع وصول الصراع مع المسلحين الأكراد إلى أدنى مستوياته منذ عقود، وجه أردوغان أنظاره نحو أوروبا. ففي كلمته الأولى كرئيسٍ منتخب حديثاً، وضع أردوغان علاقات بلاده مع أوروبا على رأس قائمة أولوياته. ووعد ببذل المزيد من الجهود الحثيثة تجاه الانضمام الى الاتحاد الاوروبي واستمرار الاصلاحات بما يتماشى مع مطالب الكتلة الاوروبية، حتى وإن رفض كبار المسؤولين الغربيين تنصيبه احتجاجاً على الاستبداد المتزايد فى تركيا.

لكن إعلان أردوغان الجماهيري تسبب في صدعٍ أعمق. فقبل ثلاثة أشهرٍ فقط، قوبلت الاحتجاجات الجماهيرية في وسط اسطنبول بالقمع العنيف، حيث رفض أردوغان الاتهامات بالوحشية المتطرفة للشرطة والدعوات من جميع أنحاء الاتحاد الاوروبي بالسيطرة على حملة فرض النظام. وفي أعقاب احتجاجات حديقة جيزي في منتصف عام 2013، وسط انتقاداتٍ أوروبية متزايدة لحكمه الاستبدادي المتزايد، وتنامي نفاذ صبر الدولة تجاه المعارضة، عادت تركيا مرة أخرى للاصطدام مع قادة أوروبا.

أجج اردوغان الرأي العام ضد القارة، مستغلاً الإحباط التركي تجاه معاملة الاتحاد الأوروبي للبلاد. فقد شجب وعود الاتحاد الاوروبي الجوفاء والتباطؤ الحاصل، وضرب عرض الحائط الاتهامات بالإسلاموفوبيا، وبالتالي نزع الشرعية عما كان أحد أكثر الانتقادات تأثيراً للحكومة التركية. وصحيحٌ أنه بالرغم من عقودٍ من المناقشات حول انضمام تركيا، إلا أن الكثيرين من قلب المشروع الأوروبي ظلوا معارضين له في الواقع. فقد كان بعض الأتراك غير مستعدين لقبول هذا الواقع، إلا أن فرصة تركيا في أن تصبح عضواً كامل العضوية في التحالف الأوروبي، قد تكون قاتمةً منذ البداية.

وبالرغم من الصعوبات الهائلة، عادت محادثات انضمام تركيا إلى الواجهة عام 2015. ومع تدفق جموع اللاجئين من سوريا وأماكن أخرى إلى شواطئها، احتاجت أوروبا مرةً أخرى إلى تركيا للوقوف إلى جانبها. وبغض النظر عن رفض المعارضة المحلية المتزايدة لتدفق مليون لاجىء، وعد القادة الأوروبيون أردوغان في عام 2015 بتقديم دعمٍ مالي ضخم، وبذل جهود متجددة لتحقيق الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي مقابل قبول اللاجئين. بل إنهم خدعوا الرأي العام التركي بتحرير تأشيرة دخول الأتراك إلى الاتحاد الأوروبي، التي تعدّ ورقة رابحة للجمهور التركي. فقد قدمت أزمة اللاجئين مهلةً غاية في الأهمية لتدهور العلاقات بين تركيا وجيرانها الأوروبيين.

إلا أن سياسة التقارب الهشة هذه لم تشهد سوى توقفاً متباطئاً فحسب في العام الماضي. ففي يوليو 2016، حاول فصيلٌ داخل القوات المسلحة التركية إبعاد أردوغان عن السلطة، ليأتي رد فعله دون رحمة. فقد اعتقل أو طرد عشرات الآلاف من الاشخاص خلال ايامٍ من محاولة الانقلاب. وفي الأشهر التي تلت ذلك، اعتقل حوالي 120 ألف تركي أو فصلوا من وظائفهم. كما تم اعتقال أكثر من 40 ألف شخص فى عملية تطهير دمرت مؤسسات الدولة.

وقد أدان الاتحاد الاوروبى بشدة عمليات الفصل الجماعية، حتى أن هيئة حقوق الانسان التابعة للكتلة الأوروبية اعتبرتها غير دستورية. وفي أواخر عام 2016، صوت البرلمان الأوروبي بأغلبية ساحقة على تعليق مفاوضات الانضمام مع تركيا بسبب مخاوف تتعلق بحقوق الإنسان وسيادة القانون. وفى ديسمبر الماضي 2016، قرر زعماء الاتحاد الاوروبي عدم فتح مجالات جديدة فى محادثات عضوية تركيا، مشيرين إلى ان سعي تركيا نحو الحكم الاستبدادي يشكل عقبة مستحيلة أمام محادثات الانضمام. كما حظيت حملة أردوغان ضد حرية الصحافة في تركيا أيضاً بتوبيخٍ من القادة الأوروبيين، مما دفع أردوغان إلى الرد على مزاعم الغرب التي لا أساس لها من الصحة.

فقد أكد مسعى أردوغان لإحكام قبضته على السلطة التركية من خلال التحول إلى نظام رئاسي المخاوف الأوروبية من أن تركيا تنحدر إلى حكم الرجل الواحد. فقد شهدت الحملة التي دامت أشهراً سجن الصحفيين وغيرها من التعطيلات الصارخة للدولة على الحملات الحرة لحملة “لا،” بدعمٍ من حزب أردوغان، حزب العدالة والتنمية. كما فرضت ألمانيا وهولندا قيوداً على التجمعات التي تدعمها الدولة التركية في مدنهم، ليسخر منهم أردوغان، مع اقتراب نهاية الحملة، بوصفهم بالدول “النازية.”

منح الاستفتاء أردوغان شكلاً من أشكال السلطة الفردية التي لم يسبق لها مثيل في تركيا منذ قيام دولة الحزب الواحد لمصطفى كمال أتاتورك، مؤسس الجمهورية في عام 1923. انتقد المراقبون الأوروبيون التصويت بأنه غير عادل في الأساس. جاء رد أردوغان سريعاً بالحط من قدر هذه الإدعاءات. وسرعان ما أعلن عن احتمال عودة عقوبة الإعدام، التي كان مؤيديه يطالبون بعودتها منذ محاولة الانقلاب عام 2016. ومن شأن ذلك أن يدق آخر مسمارٍ في نعش أحلام تركيا في الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، ذلك أن حظر عقوبة الإعدام شرطٌ أساسي للعضوية.

واليوم، باتت العلاقات التركية الأوروبية في أسوء حالاتها. فأردوغان لم يُظهر سوى القليل من التهاون تجاه انتقاده المنتظم للاتحاد الأوروبي. وهذا بدوره لم يُسفر سوى عن تعنت الأوروبيين. كما وجد استطلاعٌ للرأى أن ثلاثة من أصل أربعة أوروبيين يعارضون اليوم انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي. وتفادياً للتغير الكامل في وجهات النظر، يبدو أن الفصل الأخير من العلاقة بين الجمهورية التركية والغرب يتجه صوب استنتاجٍ معين: أغلقت أبواب أوروبا، بينما نأت تركيا بنفسها عن الأمر برمته.

Advertisement
Fanack Water Palestine