المقدمة
مع بقاء بضعة أشهر فقط على الانتخابات التشريعية المقرر عقدها في يونيو 2015، يبدو أنّ تركيا تقف على أعتاب مفترق طرق حاسم. ففي العام المنصرم، تمكّن الرئيس رجب طيب أردوغان من تخطي ما خلفته احتجاجات حديقة غيزي في منطقة تقسيم السياحية التي اندلعت في مايو-يونيو 2013، فضلاً عن مزاعم الفساد التي طالت أعضاء حكومته وأفراد من عائلته والتي تم تسريبها من قِبل حركة كولن في ديسمبر 2013.
وفي أغسطس 2014، عزز الرجل الأكثر نفوذاً في تركيا الحديثة سيادته عندما أصبح أول رئيس منتخب بشكل مباشر في تركيا، حيث حصد ما نسبته 52% من أصوات الشعب. ويأمل رئيس الدولة الجديد اليوم أنّ يفوز حزب العدالة والتنمية الحاكم بما يكفي من المقاعد في البرلمان لإجراء تعديل دستوري، وبالتالي منحه، رسمياً، الصلاحيات التنفيذية التي يسعى إليها.
سارع أردوغان إلى إعلان ولادة “تركيا الجديدة”. تتطابق رؤيته للوطن مع طموحاته الشخصية الضخمة. إنه يريد أن تحتل تركيا مكانتها بين الدول العشر الأولى بحلول الذكرى المئوية لتأسيسها في عام 2023، وهو هدف غير واقعي في وقت يتباطأ فيه اقتصاد البلاد.
بعد فترة وجيزة من تنصيبه، انتقل أردوغان إلى قصر جديد تمامًا من 1150 غرفة، تم بناؤه بتكلفة لا تقل عن 610 ملايين دولار، في تحد لأمرين من المحكمة يعلنان أن البناء غير قانوني. قبل عامين، أمر السيد أردوغان بطائرة رئاسية جديدة، طائرة إيرباص A330-200 Prestige ،تم تسليمها ، في توقيت مثالي، في اليوم التالي لتنصيبه.
وأوضح أردوغان أن هذه الزخارف الفخمة للقوة هي من بين “متطلبات أن تكون دولة عظيمة”. لم تعد تركيا هي تركيا القديمة. تحتاج تركيا الجديدة إلى إظهار نفسها بطرق معينة “.
كبير، فأكبر: تبرز الحاجة إلى التفوق عند وصف المشاريع الكبرى لأردوغان. على سبيل المثال، سيضُم مطار اسطنبول الجديد، الذي من المتوقع أن يكتمل عام 2018، ستة مدارج للطائرات ليكون بذلك الأكبر في العالم. كما ينوي أردوغان شقّ قناة مائية جديدة موازية لمضيق البوسفور، ضارباً عرض الحائط تحذيرات دعاة حماية البيئة.
بالإضافة إلى ذلك، يجري العمل حالياً، على قدمٍ وساق، للإنتهاء من مشروع المسجد، أعلى تلة العرائس السياحية، الواقعة على الجانب الآسيوي من اسطنبول والمطلة على مضيق البوسفور، والذي من المتوقع أن يكفي لاستيعاب ما يصل إلى 30 ألف مُصلي.
وبالفعل، حوّل دعم حزب العدالة والتنمية المتقدّ حماساً لقطاع البناء، المظهر العام للمدن التركية بما في ذلك أفق مدينة اسطنبول التاريخية التي تمتاز بعراقتها. ولكن يعتبر إصرار أردوغان فرض القيم السُنية المحافظة على المجتمع التركي، أكثر إثارةً للجدل من التحول المادي لمدن تركيا. رئيس الوزراء أحمد داود أوغلو، الذي لم يخرج من عباءة سَلَفِه- أردوغان، يشاركه ذات الأيديولوجية.
الآراء المحافظة
خلال العامين الماضيين، فرض رجب طيب أردوغان قيوداً على استهلاك الكحول، ونتيجة لذلك، لن يتم تعليم الطلاب في معاهد قطاع الضيافة خدمة تقديم المشروبات الكحولية، بالرغم من أنّ الاقتصاد التركي يعتمد على الايرادات السنوية التي يتم تحقيقها من 30 مليون سائح.
أردوغان، الذي يرى النساء في إطار الأمهات، حث في عدة مناسبات، المرأة التركية على إنجاب ثلاثة أطفال على الأقل. وفي نوفمبر 2014، أعلن أمام الملأ أنّ المساواة بين الجنسين “تتعارض مع الطبيعة”، وفي الوقت الحالي، تقبع تركيا في المرتبة 125 دولياً ضمن قائمة ضمت 142 دولة، بحسب التقرير العالمي لعدم المساواة بين الجنسين، الصادر عن المنتدى الاقتصادي العالمي، في وقتٍ لا زال يُشكّل فيه العنف ضد المرأة مشكلة خطيرة. وعلى الرغم من أنّ الإجهاض لا زال ممنوعاً بموجب القانون، إلا أنه أصبح أكثر صعوبة وبخاصة في مدن المحافظات بعد أنّ أدان أردوغان الاجهاض علناً.
كان أردوغان قد صرّح أثناء توليه منصب رئيس الوزراء بأنه “يرغب في زيادة تَديُن الأجيال”. وفي اجتماع عقد مؤخراً، قرر مجلس التعليم الرسمي البدء بتدريس القيم الدينية في رياض الأطفال. وتستأنف تركيا الآن القرار الذي أصدرته المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان الذي ينتقد التعليم الديني الإجباري في المدارس التركية.
ومنذ الانتخابات العامة في يونيو 2011، تمت إعادة تشكيل النظام المدرسي بشكل كامل. ومنذ دخول حزب العدالة والتنمية عالم السلطة عام 2002، ارتاد أقل من 65,000 طالب المدارس الدينية (مدارس الإمامة والخطابة)؛ في حين أعلن الرئيس في أكتوبر الماضي، وبكل فخر، ارتفاع هذا العدد حالياً إلى ما يقرب المليون طالب. وفي العام الماضي، اشتكي الكثير من الأهل بأنّ أطفالهم أجبروا على الالتحاق بمدارس الإمامة والخطابة لعدم توفر ما يكفي من المقاعد في المدارس العامة العلمانية.
ويتمتع بالفعل رئيس تركيا الحالي، دون الحاجة إلى انتظار تعديل الدستور، بصلاحيات تفوق حدود ولايته الدستورية، الأمر الذي يتطلب في الوقت الحالي أن ينأى رئيس الدولة بنفسه عن دائرة الجدل. ويعتقد أردوغان، الذي طالما صرح أنّ “الديمقراطية تعبر من خلال صناديق الاقتراع” أنّ فوزه في أغسطس الماضي يمنحه الحق في فرض حكم الأغلبية على المجتمع بأكمله. تفسيره الضيق للديمقراطية، الذي لا يوفر أي حماية لوجهات النظر البديلة، يشاركه به العديد من الأفراد من مختلف ألوان الطيف السياسي.
في الحقيقة، تقتبس تركيا الحديثة في ظل أردوغان إلى حدٍ كبير من الهندسة الاجتماعية والسياسات القمعية للعقود الماضية، فضلاً عن اللمسة الدينية السائدة آنذاك. ربما قام أردوغان بتغييب الجيش ومؤسسة الفكر الكمالي، إلا أنه بالتأكيد تبنى نهجها المتسامح، وتوقع الطاعة من قِبل المواطنين، باستغلال نظريات المؤامرة وسِمة جديدة أكثر محافظة للقومية، للتلاعب بالرأي العام.
إلا أنّ عدداً قليلاً من خصومه العلمانيين، الذي يرون فيه مناهضاً لأتاتورك، يُقرون أنّ الإعجاب بالأب مؤسس تركيا، الذي كان هو نفسه زعيم مستبد، عزز مفهوم الرائد الأوحد المتجبر، وساهم في صعود أسهم أردوغان.
القمع
ولطالما أرّق الفساد والمحسوبية تركيا، إلا أنّ توسع الاقتصاد التركي وتبؤ حزب العدالة والتنمية لفترة طويلة مقاليد السلطة، ساهم في مفاقمة هذه المشاكل إلى حدٍ كبير.
ومنذ انتشار مزاعم الفساد على الشبكة العنكبوتية نهاية 2013، انخرط أردوغان في صراعٍ بكل ما أوتيّ من قوة، على السلطة مع حلفائه السابقين، أنصار الزعيم الديني المقيم في بنسلفانيا، محمد فتح الله كولن، الذين يُعتقد أنهم وراء التسريبات. كما تم عزل آلاف ضباط الشرطة وبعض المسؤولين في الجهاز القضائي ممن لهم صلة وثيقة بحركة كولن، المعروفة أيضاً باسم “حركة الخدمة” من مناصبهم، واتهامهم بأنهم جزء من “الكيان الموازي”. وبفضل هذا التطهير القضائي، أسقطت المحكمة في قضيتين منفصلتين تهم الفساد المزعومة بحق نجل رئيس الجمهورية بلال.
وقُبل الانتخابات المقبلة، يعمل أردوغان على تشديد الخناق على منتقديه، إذ أصبح تطهير البلاد من “الكيان الموازي” أولوية من أولويات الأمن القومي. وفي 14 ديسمبر الحالي، تم اعتقال ما لا يقل عن 24 شخص على صلة “بحركة الخدمة” بما في ذلك صحفيين ورؤساء تحرير صحيفة زمان ومحطة تلفزيون سامانيولو. يُسيطر المقربون من حزب العدالة والتنمية على حصة ذات أهمية من وسائل الإعلام، بينما يتم التخلص من الصحفيين الذين ينتقدونهم في وسائل الإعلام الأخرى.
وفي حين يسبب الخطاب الجسور لرئيس الجمهورية القلق في العواصم الغربية، حيث يدعي بأنه ضحية مؤامرة دولية تهدف إلى إضعاف تركيا، الذي لا يعدو سوى كونه شكل جديد من أشكال جنون الارتياب والشك بالأجانب المتأصل في جذور النفس التركية، إلا أنه يضرب على وتر حساس لدى أنصاره. بالإضافة إلى ذلك، يستند دعم الرئيس أيضاً على ارتفاع الرفاهية التي تمتع بها الكثيرون في العقد الماضي (بالرغم من عدم مساواة الدخل المستمرة في جميع أنحاء البلاد) والتحسينات الكبيرة التي شهدتها الخدمات الاجتماعية. تعتبر هذه من الانجازات الحقيقة لحزب العدالة والتنمية، والتي يهدد شغف أردوغان للسلطة بتراجعها.
ومع استمرار تجريد المزيد من الضوابط والموازين في إطار فصل السلطات، وبغياب المعارضة ذات المصداقية في البرلمان، يبدو أنّ مسيرة أردوغان المتعنتة والتي تسلط الضوء على رجلٍ واحد، تكتسب المزيد من الزخم.
الاقتصاد الذي يشكّل جزءاً هاماً من نجاح الماضي، قد يُصبح كعب أخيل لأردوغان. وفي الأشهر الأخيرة، تم استهداف الشركات التي لها علاقات مع كولن، فعلى سبيل المثال تم إضعاف بنك آسيا بشكل كبير بعد سحب مؤسسات الدولة أموالها.
ومع تضاعف معدلات البطالة في تركيا، التي تعتمد على رأس المال الأجنبي لدعم اقتصادها، لا يمكن تحمل تعريض صورة البلاد للخطر حيث الانتقام والقرارات التعسفية تتجاوز سيادة القانون. وفي الأيام التي تلت حملة الاعتقلات التي طالت المرتبطين “بحركة الخدمة” انخفض سعر الليرة التركية، حيث طالب أردوغان منتقديه في الاتحاد الأوروبي “الإهتمام بشؤونهم الخاصة” وأكد عدم اهتمامه بالأضرار الناتجة عن رفض انضمام بلاده إلى الاتحاد الأوروبي.
في النهاية، هل سيعتبر حلم اردوغان للنظام الرئاسي الجديد تجاوزاً لكل الحدود؟ يخشى العديد من الأتراك من فكرة تسليم المزيد من السلطة للدكتاتور أردوغان الاستبدادي والمتقلّب بشكل متواصل. ومع ذلك، يضطر المراقبون إلى الاعتراف، بالرغم من أنّ السياسي المحنك أضر بالمجتمع وعمل على تقسيمه من خلال اللعب على المخاوف المتجذرة وتأجيج الاستقطاب، إلا أنه نجح دوماً، حتى الآن، في تحقيق أهدافه.