على الرغم من الجهود المبذولة لحماية الشواطئ العامة في لبنان، فإن النضال مستمر ضد المصالح الخاصة القوية واللوائح الحكومية غير الفعالة.

دانا حوراني
تثمّن مي أوالا، البالغة من العمر 23 عامًا، زياراتها إلى الشّاطئ، بخاصّة عندما يسيطر الصّيف الملتهب على لبنان. لكنّ حماسها لزيارتها الأولى إلى الشّاطئ هذا العام، قوبِل بمفاجأة غير سارّة.
صاحت أوالا باحتجاج: “أصبح الدّخول إلى الشّواطئ مكلفًا جدًّا.”
كان بإمكانها التّمتّع بمنتجعاتها الشّاطئيّة المفضّلة العام الماضي، بكلفة متدنّية لا تتعدّى الـ6 إلى 7 دولارات. غير أنّ رسوم الدّخول ارتفعت بشدّة هذا العام، لتبدأ بـ 10$ وتصل أحيانًا إلى 40$.
قالت أوالا لفنك: “لقد توقّعت ارتفاع الأسعار، لكن لا يمكنني إنفاق 50$ في كلّ مرّة أريد فيها الذّهاب إلى الشّاطئ.”
أوالا، زّائرة الشّاطئ الدّائمة، جعلت من زيارة الشواطئ، من أقصى جنوب لبنان في النّاقورة إلى شماله في طرابلس، في عطلة نهاية كلّ أسبوع هواية مفضّلة. إلّا أنّه نظرًا للّضّائقة الإقتصاديّة، وارتفاع تكاليف الولوج إلى الشّواطئ والمنتجعات الخاصّة مؤخّرًا ، تجد أوالا صعوبة في تحقيق هوايتها. فراتبها كموظّفة مبيعات لم يعد يكفي لتغطية هذه التّكاليف المتزايدة، وذلك دفعها إلى البحث عن بدائل بتكلفة مقبولة أو الحدّ من زياراتها إلى الشّاطئ.
يمتدّ ساحل البحر المتوسّط على بعد 220 كيلومترًا من حدود لبنان الغربيّة، وعلى الرّغم من ذلك، فلا يصل العامة من الناس إلا إلى 20 في المئة منه.
في خضمّ الصّراع الإقتصاديّ الراهن في البلاد، وازدياد الأزمة الإقتصاديّة سوءًا منذ العام 2019، لا يزال معظم الشعب غارقًا في الفقر. بالإضافة إلى غلاء المعيشة وتراجع قيمة العملة، ما جعل من تحمّل كلفة زيارة المنتجعات الشّاطئيّة شبه مستحيلة بالنسبة لغالبيّة اللّبنانيّين الّذين يتقاضون رواتبهم باللّيرة اللّبنانيّة الّتي خسرت قيمتها بسرعة هائلة. إذ تفرض هذه المرافق بغالبيّتها رسمًا ماليًّا بالدّولار الأميركيّ، ما يجعلها بعيدة عن متناول النّاس المحلّيّين الّذين يجدون أنّ تكلفة هذه الرّفاهيّات باتت باهظة، خصوصًا مع تفاقم صعوبة الدخول إلى الشواطئ مع مرور الوقت أكثر فأكثر.
إضافة إلى هذه المشكلات نجد التّلوّث البيئيّ، والإنتهاكات المستمرّة للشواطئ، تحول دون تمتّع عامّة الناس بقضاء يوم جميل ما يفاقم المشكلة ويحرم العديدين من التمتّع بالعطلة الصّيفية على الشواطئ العامة.
فرصة ضائعة
منذ العام 1975، ومع اندلاع الحرب الأهليّة اللّبنانيّة، راحت المنتجعات الشّاطئيّة تنتشر على طول السّاحل، منتهكة كلّ ما كان يومًا لعامّة الشّعب. وقد استمرّ هذا الإعتداء على الأملاك العامّة من دون توقّف، مفسحًا المجال لنشوء فنادق وشواطئ خاصّة ذات درجات رفاهيّة مختلفة، ورواج حركة تجاريّة مزدهرة رافقت هذه المنشآت.
لكن بحسب مؤسّسة “الدّوليّة للمعلومات”، فإنه- بموجب القانون اللّبناني- لا يمكن بيع الأملاك البحريّة العامّة ، إنّما يمكن فقط تأجيرها بشروط صارمة، كامتلاك المستأجرين عقارات مجاورة ليتأهّلوا للحصول على حقّ الاستئجار. غير أنّ الحرب الأهليّة (1975-1990) وفّرت، لبعض الأفراد، غطاء ليسيطروا على أراضٍ ساحليّة شاسعة من دون إذن رسميّ.
وترك عجز الدّولة عن التّصدّي لهذه الاستيلاءات غير المشروعة تداعيات دائمة. إذ تغطّي هذه الانتهاكات الآن ما يقارب خمسة ملايين متر مربّع يستفيد منها أفراد وشركات من كلّ الطّوائف، استثمروا الملايين في هذه الممتلكات البحريّة. وفيما يدفع القليل منهم رسمًا سنويًّا رمزيًّا للدّولة قيمته حوالى 15 بليون ليرة لبنانيّة (168,539$)، فإنّ الغالبيّة الكبرى منهم لا تساهم بإدخال أيّة رسوم إلى الخزينة العامّة.
على الرّغم من وفرة المنتجعات السّياحيّة، والفنادق الفخمة، والمسابح في لبنان وتنوّعها، فقد أصبحت تكلفة هذه المرافق المتزايدة تشكّل عبئًا كبيرًا بخاصّة على العائلات الّتي تبحث عن استراحة في ظلِّ حرارة صيف عالية. فالتّفاوت في رسوم الدّخول، بالاستناد إلى الموقع، والخدمات الموفَّرة، والتّصنيف، قد اتّسع خلال العام الماضي، مفاقمًا الضّيق الماليّ على من لديهم رغبة في الإستمتاع بجمال البلاد الطّبيعيّ.
إضافة إلى ذلك، كان لفشل لبنان في معالجة قضايا خطيرة مثل تسرّب مياه الصّرف الصّحّيّ وتلوّث الشّواطئ، أثرًا وخيمًا على مواطنيه، وحياته البحريّة، والصّحّة العامّة وسلامة البيئته السّاحليّة.
في العام الماضي، حدّد المركز الوطنيّ لعلوم البحار أنّ 60 في المئة تقريبًا من شواطئ لبنان آمنة للسّباحة، لكنّ أيًا منها لا يتواجد في العاصمة بيروت.
إنّ موقع بيروت على امتداد ساحل البحر الأبيض المتوسّط يتعارض بشدّة مع واقع العديد من سكّانه الّذي يتخطّى عددهم المليونَي نسمة، إذ غالبًا ما يشعرون بالبعد عن محيطهم السّاحليّ. أمّا الشّاطئ الرّمليّ المشهور في المنطقة (الرّملة البيضاء) فيواجه تهديدات خصخصة مستمرّة ويعاني من تلوّث حادّ نتيجة تسرّب مياه الصّرف الصّحّيّ إليه.
في العام 2017، بدأ العمل على بناء منتجع خليج عدن “إيدن باي” في الرّملة البيضاء، وهو مشروع يمتدّ على مساحة 5000 متر مربّع، ويُروَّج له على موقعه الإلكترونيّ بـ”ملاذّ الفخامة والرّقيّ”. أشعل هذا المشروع الغضب لدى مرتادي شواطئ بيروت، والنّاشطين في المجتمع المدنيّ، والمدافعين عن الأماكن العامّة، أمّا مناصروه فدافعوا عنه بالقول إنّهم التزموا بالشّروط القانونيّة وهم يهدفون إلى دعم الاقتصاد اللّبنانيّ المتزعزع باستثمارات وفرص عمل هائلة. غير أنّ العديد من البيروتيّين من ذوي الدخل المتوسّط والمنخفض ومن مستويات معيشيّة مختلفة، اعتادوا على زيارة هذا الشّاطئ منذ زمن ويعتقدون أنّ هذا المشروع تَعَدٍّ على واحد من الأماكن العامّة القليلة المتبقيّة لديهم.
غير أنّ سكّان بيروت لم يعتادوا السّباحة في مياه شواطئ مدينتهم، بل اعتادوا قيادة سيّاراتهم مدّة ساعتين، متّجهين شمالًا أو جنوبًا، للوصول إلى شواطئ أكثر نظافة وترحابًا.
في خضمّ الصّراع
أحبطت مجموعة من النّاشطين الشّعبيّين والمنظّمات غير الرّبحيّة، العام الماضي، العديد من محاولات الاستيلاء على مساحات شاطئيّة إضافيّة في لبنان. منها شاطئ النّاقورة الجنوبيّ بشكل خاصّ، الواقع على مقربة من الحدود اللّبنانيّة مع فلسطين المحتلّة، الّذي واجه احتمالات مشاريع معماريّة جذبت تحذيرات شديدة اللّهجة من ناشطين عبر الإنترنت.
وكذلك في الدّامور، حيث اتّخذت إجراءات قانونيّة بحقّ مقاولين يزعمون العمل بموجب ترخيص من وزارة الأشغال العامّة والنّقل، ولقد تمّ تعليق مشاريعهم المعماريّة نتيجة تدخّل النّاشطين والمنظّمات المحلّيّة.
وفي هذه الأثناء في كفرعبيدا، شمال لبنان، اتّحد السّكّان في حركة احتجاجيّة كبيرة لحماية حقّ العامّة بزيارة شاطئ “أبو علي”. وفي حزيران الماضي، نجحت حملة “الشّاطئ للجميع” بالحصول على قرار قضائيّ أوقف نهائيًّا البناء على الشّاطئ.
وحدث مماثل حصل في المدينة الشّماليّة عمشيت، حيث احتجّ النّاشطون البيئيّون والسّكّان على مشروع بناء هدّد كهفًا محلّيًّا تتخذه الفقمات ملجأ لها أثناء الهجرة، كما أنّه يشكّل موقعًا سياحيًّا مشهورًا. وصفوا هذا المشروع بالجريمة البيئيّة، ذاكرين إلى جانب ذلك، التّنقيب غير القانونيّ عن الصّخور، والسّور الّذي يحجب الإطلالة على البحر، ومشكّكين في تراخيص المشروع.
وهذا العام، أدّى مشروع جديد إلى تصاعد التّوتّر مجدّدًا – في بلدة كفار عبيدة- مشعلًا احتجاجًا في 9 حزيران يتّهم فيه النّاشطون الصّحفيّة راغدة درغام بالاعتداء على الممتلكات البحريّة العامّة ببناء الفيلّا الخاصّة بها. وتجمّع السّكّان أمام فيلّا درغام للتّعبير عن قلقهم حيال منعهم من الوصول إلى الشّاطئ. وردًّا على ذلك، قدّمت درغام شكوى تدّعي فيها الاعتداء على ملكيّتها، بقلع المحتجّين نبات الصّبّار الّذي زرعته ليتمكّنوا من الوصول إلى الشّاطئ.
وتفاقم الوضع عندما استدعت الشّرطة في البترون عددًا من المشاركين في الاحتجاج إلى التّحقيق. وأكّد محمّد أيّوب، رئيس المنظّمة الحقوقيّة “نحن“، أنّ الشّرطة كانت تتعرّف على المحتجّين من خلال الصّور والفيديوهات.
بحسب أيّوب، يعيق عدم الالتزام بالقانون مساعي ردع مثل هذه الانتهاكات، سامحًا للأشخاص ذوي المعارف من أصحاب النّفوذ تفادي المساءلة. ويسلّط الضّوء على أنّه غالبًا ما تصبح المدن أو البلدات الّتي تزداد شهرة كوجهات سياحيّة أهدافًا لمشاريع انتهاكيّة جديدة تؤثّر بشدّة على الأحياء المائيّة، وتمنع وصول المحلّيّين إلى الشّواطئ، وتقلّل من جمال السّواحل الطّبيعيّ.
ويشير أيّوب إلى جونية في شمال لبنان، كمثال صارخ لأثر التّلوّث والخصخصة اللّذين جعلا من السّاحل مكانًا غير ملائم للسّباحة وشوّها جماله الطّبيعيّ. وينبّه إلى أنّ البترون، وهي مدينة شماليّة أخرى تنمو سياحيًّا بشكل كبير، قد تواجه المصير عينه.
قال أيّوب لفنك: “يستحقّ استمرار سكّان كفار عبيدة بالصّراع لحماية شاطئهم العامّ الثّناء. فغالبًا ما يردّ السّياسيّون على الاحتجاجات العلنيّة الشّعبيّة خوفًا من الثّورة ، بخاصّة في ضوء الانتخابات القادمة. إلّا أنّه في بيروت، فقد فَقَدَ الكثيرون أملهم في استرجاع حقّهم بالوصول إلى الشّواطئ أو أصبحوا يشعرون باستحالة الأمر بسبب عقود من الخصخصة والتّلوّث.”
الانسلاخ عن الحقوق
منذ بداية الحرب الإسرائيليّة على غزّة في 7 تشرين الأوّل، اندلعت معارك ضارية بين إسرائيل وحزب اللّه أثّرت بشكل خاصّ على القرى الحدوديّة الجنوبيّة. وعلى الرّغم من عدم تعرّض البلدات والمدن السّاحليّة للقصف اليوميّ المتواتر، يشكّل الصّراع المستمرّ تهديدًا محدّقًا بكلّ المنطقة الجنوبيّة.
أشار أيّوب إلى أنّ “الحرب أوقفت مؤقّتًا على الأقلّ، مشاريع قد تؤدّي إلى المزيد من انتهاكات الشّواطئ الجنوبيّة.”
غير أنّه يحذّر من أنّ الصّراع المستمرّ يفتك بالسّياحة وبمردودها للمدن الجنوبيّة مثل النّاقورة، الّتي تعاني من قصف إسرائيليّ متواصل.
وأضاف: “قد تجذب صور، وهي إحدى أكثر المدن شهرة لشواطئها في الجنوب، الزّائرين على الرّغم من الحرب، لكن بوجود كمّيّة كبيرة من النّازحين السّاكنين في المدينة الآن والمرتادين شواطئها، قد تصبح هذه الأخيرة شديدة الازدحام.”
إذ منذ الرّابع عشر من أيّار، هجّرت الاشتباكات المستمرّة 93881 شخصًا من جنوب لبنان، 51 في المئة منهم نساء، والعديد منهم قد اتّخذ المدارس في صور ملجأ له.
سلّط هشام يونس، مؤسّس جماعة “الجنوبيّين الخضر” البيئيّة، الضّوء على أنّ القلق حيال الأمن قد أخّر مبادرات تنظيف الشّواطئ وتنظيم أعمال بيئيّة وتنفيذها في الجنوب.
في الشّهر الماضي، أطلقت الجماعة صراح ثعلب أحمر بعد معالجته في ظروف خطرة في منطقة بنت جبيل، وهي قرية حدوديّة ما زالت تحت القصف الشّديد منذ السّابع من تشرين الأوّل.
وقال يونس لفنك: “لقد عجزنا عن الوصول إلى مواقع كنّا قد حدّدناها كمواقع محلّيّة نشطة من الحياة البرّيّة، بسبب كثرة قنابل الفوسفور الأبيض الّذي ترميه قوّات الاحتلال الإسرائيليّ.”
الواجهة الجنوبيّة
لقد تواصلت جماعة “الجنوبيّين الخضر” مع وزارة البيئة، ووزارة الزّراعة، ووزارة الأشغال العامّة والنّقل بما يتناسب مع التّبليغ عن حوادث انتهاكيّة أو أخطار بيئيّة. إلّا أنّ يونس عبّر عن غضبه تجاه وزارة الأشغال العامّة والنّقل لعدم تجاوبها مع استفسارات الجماعة حول انتهاك موقع مهمّ لسلاحف البحر، المنزل البرتقاليّ، الّذي سبّبه مشروع ساحل النّاقورة الخاصّ العام الماضي.
وطالبت الجماعة بوقف المشروع وإجباره على التّراجع لأنّه يتعدّى على الأملاك العامّة، ويعيق الوصول إلى الشّاطئ العامّ، ويؤذي النّظام البيئيّ الشّاطئيّ. إذ قد حصل المشروع على ترخيص من الوزارة من دون اجتياز تقييم الأثر البيئيّ أو الحصول على موافقة وزارة البيئة.
قال يونس: ” توقّعنا أداء أفضل وردًّا مختلفًا من الوزارة حول هذا الموضوع.”
واعترف بأنّ الإمكانيّة الجيّدة نسبيًّا للوصول إلى الشّواطئ العامّة في جنوب لبنان، لا تعكس بالضّرورة مدى توسّع الانتهاكات على السّواحل الجنوبيّة، مشدّدًا على أنّ أثر الحرب يتعدّى السّياحة إلى الزّراعة مخلّفًا عواقب وخيمة وطويلة الأمد. كما أنّ الحرب تؤثّر على صيّادي السّمك المحلّيّين الّذين يقلقون حيال سلامتهم، ما يحدّ من قدرتهم على العمل أو خوض غمار البحر والابتعاد عن الشّاطئ.
على الرّغم من التّحدّيات، يصرّح يونس أنّ “الجنوبيّين الخضر” سيستمرّون بمراقبة الانتهاكات المحتملة حتّى أثناء الحرب، وسينذرون الوزارات المعنيّة عند الضّرورة.
ولقد فعلوا ذلك بالفعل بالقرب من بلدتَي ياطر والعبّاسيّة حيث لاحظوا مشاريع بناء قيد التّنفيذ.
قال يونس: “هذه مسؤوليّة الحكومة في نهاية المطاف، لكن على المواطنين أيضًا أن يبقوا متيقّظين ويحمّلون الدّولة المسؤوليّة متى أمكنهم ذلك.”
وأضاف أيّوب أنّ الضّغوطات المستمرّة على الشّعب اللّبنانيّ، بما في ذلك الأزمة الاقتصاديّة المستمرّة والحرب، تؤكّد على حاجتهم إلى أماكن استراحة عامّة، مثل الشّواطئ.
أخيرًا يشير أيّوب إلى أنّ: “الأماكن العامّة ضروريّة لتوطيد العلاقات بين النّاس، والتّعارف، والاستراحة. وكلّما انخفضت نسبة هذه المساحات، أُجبر النّاس على الانعزال أكثر فأكثر. ولا يمكننا إلّا تخيّل عواقب ذلك على شعب مرهق أصلًا.”