وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

الكنوز المعمارية اليمنية الفريدة

المدينة القديمة للعاصمة صنعاء
المدينة القديمة للعاصمة صنعاء في 28 مايو 2015. Photo: MOHAMMED HUWAIS / AFP

المقدمة

تعود تقاليد العمارة اليمنية الفريدة إلى أكثر من ألفي عام، عندما ازدهرت الممالك القديمة في سبأ ومعين وقعطبان التي تركت للبشرية إرثا بديعا من المعابد القديمة وعرش بلقيس وسد مأرب الأسطوري. على مدار تاريخها الطويل، كانت اليمن موئلا لممالك يهودية ومسيحية وإسلامية مزدهرة وتبادلت التأثيرات المختلفة مع الفرس والإثيوبيين وحضارات شرق البحر الأبيض المتوسط ، تركت جميعهم بصمات باقية في اليمن السعيد.

طوَّر المعماريون والبناؤون اليمنيون على مدار ثلاثة آلاف عام تقريبًا مهاراتهم وأساليبهم الفريدة، والتي تم تكييفها للمناخ والتضاريس اليمنية ومواد البناء المتوفرة محليا ولاحتياجات السكان ونمط معيشتهم. على سبيل المثال، يعتبر الحجر المقطوع وغير المقطوع هو المادة الرئيسية للبناء في المناطق الجبلية في شمال اليمن، في حين أن الطين المناسب لصنع الطوب المُجفف في الشمس هو المادة السائدة في وادي حضرموت في الجنوب الشرقي. يركز هذا المقال على العاصمة صنعاء كمثال على العمارة التقليدية اليمنية الفريدة، التي تتعرض للتهديد جراء الحرب التي تدخل عامها الرابع.

عمارة صنعاء القديمة

تعتبر العاصمة اليمنية صنعاء واحدة من أكبر المدن القديمة التي لا تزال قائمة ومنتعشة. تم تصنيفها كواحدة من أكثر العواصم تميزًا بفضل طابعها المعماري الفريد الذي جعلها من جواهر التراث الإنساني والعالمي. تقع صنعاء في وادي جبلي على ارتفاع 2200 متر فوق سطح البحر وتتميز بطقس معتدل طوال العام. وقد ظلعت صنعاء مدينة حافلة بالنشاط البشري من حوالي 2500 سنة على الأقل أن لم يكن أكثر.

يبلغ إجمالي عدد سكان العاصمة صنعاء حاليا حوالي 3 ملايين نسمة، يعيش 87000 منهم في المدينة القديمة. تبلغ مساحة المدينة القديمة حوالي 1.8 كيلومتر مربع، وتشمل أكثر من 9000 منزل متلاصق ومتجاور تتوسطها بساتين بالإضافة إلى الأسواق المتنوعة والمساجد والحمامات العامة. أدرجت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) المدينة القديمة كموقع للتراث العالمي في عام 1986.

يتكون المنزل الصنعاني التقليدي من ثلاثة إلى ستة طوابق، وفقا للوضع الاجتماعي والاقتصادي لمالكه، ويعيش في هذه المنازل عادة أسرة ممتدة تضم ثلاثة أجيال (رب أسرة وأبنائه ووالديه). يجمع التصميم المعتاد للمنزل بين الراحة والفخامة إلى حد كبير. ينقسم الطابق الأرضي لقسمين يخصص أحدهما لتخزين المحاصيل والمؤن ويخصص الجزء الثاني للمواشي ويسمى السفل. يحتوي الطابق الأول على غرف للأطفال وقاعة كبيرة للمناسبات (الديوان). ويعيش في الطابق الثاني المتزوجون في الأسرة بينما تكون الطوابق العليا للرجال وضيوفهم وتضم “المفرج” وهي غرفة جلوس عالية تطل نوافذها المنخفضة على المدينة.

القمريات

أكثر سمة تميز المنازل الصنعانية واليمنية بشكل عام هي النوافذ الجميلة المزخرفة بالقمريات وهي إطارات نصف دائرية من الجبس مزينة بالزجاج الملون الشفاف وعادة ما تكون أعلى النوافذ الرئيسية التي غالبا ما تكون منخفضة على مستوى نظر الشخص الجالس على أرضيتها. تم استخدام المرمر الشفاف في القمريات حتى ثلاثينيات القرن العشرين حيث حل محلها الزجاج الشفاف والملون. عندما يتم تضاء المنازل في الليل، تلقي مئات من هذه النوافذ نقاط من الضوء متعدد الألوان عبر الشوارع.

يعتمد تخطيط المدينة القديمة على نظام الأحياء. على الرغم من أن المباني تبدو من بعيد وكأنها متلاصقة مصطفة بشكل عشوائي، إلا أن الطرق والأزقة المرصوفة بالأحجار التي تتوسطها منظمة ومترابطة بشكل وظيفي دقيق. ولكل حي مسجد وبستان (مقشام) لتوفير الفواكه والخضروات للسكان. تؤدي الأزقة إلى أسواق البضائع والحرف المختلفة التي يخصص سوق لكل منها في صنعاء القديمة.

يحيط بالمدينة القديمة سور طيني سميك يبلغ طوله حوالي 6200 متر وارتفاعه 8 أمتار. يعود تاريخ السور الدفاعي إلى فترة السبأيين (800 ق.م. – 275 م) ولكن يتم تجديده وصيانته بانتظام من قبل الحكام المتعاقبين. كان آخر تجديد لسور صنعاء في عام 2014، باستخدام نفس مواد البناء القديمة.

من بين البوابات السبعة الأصلية للسور لم يبق قائما إلا باب اليمن، محاطًا بأبراج دفاعية مهيبة تطل على واحدة من أكثر الميادين ازدحاما في المدينة ويؤدي مدخلها إلى عدد كبير من الشوارع الضيقة والمتاجر الصغيرة الذاخرة بالنشاط طوال اليوم. جميع أسماء البوابات الأخرى ومواقعها معروفة جيدًا ولا تزال تستخدم حتى اليوم لتحديد المواقع داخل المدينة، ولكن البوابات نفسها لم تعد موجودة فقد أفسحت للتوسع المستمر للمدينة.

Dar Al-Hajar yemen
طفل يمني يؤدي رقصة تقليدية خلال حفل زفاف خارج دار الحجر (قصر الصخرة) في وادي ضهر ، على بعد 14 كم شمال غرب صنعاء ، في 8 يناير 2010. Photo: AHMAD GHARABLI / AFP

المسجد والكنسية

يمثل مسجد صنعاء الكبير واحدة من معالم المدينة القديمة البارزة وأحدي رموزها المعمارية المتميزة، وأحد أقدم المساجد التي لا تزال تؤدي دورها في العالم. على الرغم من المسجد قد توسع وأعيد بنائه مرات عبر القرون، إلا أن بعض عناصره الأولى تعود إلى القرن السابع الميلادي.

خلال عملية تجديد روتينية في عام 1972، اكتشف العمال مجموعة من الأوراق والمخطوطات القديمة في مساحة علوية منسية. عند إجراء مزيد من التحقيقات، تم اكتشاف أن العديد من هذه الوثائق تعود إلى الأيام الأولى للإسلام وتضمنت ما يُعتقد أنه أقدم نسخة من القرآن على الأطلاق.

في قلب المدينة القديمة يوجد جدار حجري مستدير لما يعتقد أنه أول كنيسة في اليمن يطلق عليها غرفة القليس. شيدت كنيسة القليس بواسطة الحاكم الإثيوبي الغازي أبرهة حوالي عام 527 ميدانية، في محاولة لنشر المسيحية في البلد الذي كانت تسوده اليهودية في ذلك الوقت. لم يتبق من الكنسية حاليا إلا سورها الحجري شاهدا على تعدد عقائد الذين مروا على هذه المدينة العريقة.

الكنوز المعمارية المهددة

تتعرض العديد من كنوز اليمن التاريخية والأثرية، بما في ذلك كنوز صنعاء، لمخاطر التدمير جراء الحرب. أصابت الغارات الجوية للتحالف العربي الذي تقوده السعودية المدينة القديمة مرتين على الأقل في عامي 2015 و2018، مما أسفر عن مقتل العديد من الأشخاص وتدمير العديد من المباني.

وتعرضت مواقع أخرى، مثل مسجد الهادي الذي يبلغ عمره 1200 عاما ومدينة براقش ما قبل الاسلامية في مأرب، شمال اليمن ومدينة زبيد الساحلية لضربات مماثلة دمرت خلالها عددًا مهمًا من معالمها التاريخية. وتم تدمير متحف ذمار، الذي يحتوي على حوالي 12500 قطعة أثرية، بالكامل.

أدانت اليونسكو، التي بذلت جهدا كبيرا منذ أوائل الثمانينات للحفاظ على المدينة القديمة، القصف الجوي على ما وصفته بـ “واحدة من أقدم جواهر الثقافة الإسلامية في العالم”.
قالت إيرينا بوكوفا، رئيسة اليونسكو- وقتها – “هذا التراث يحمل روح الشعب اليمني؛ إنها رمز لتاريخ المعرفة الإنسانية لألفي عام وملك للبشرية جمعاء. ودعت جميع الأطراف المتورطة في النزاع إلى الامتناع عن استهداف التراث الثقافي الفريد للبلاد واستخدام المواقع التراثية لأغراض عسكرية، وقالت إنها “تشعر بالأسى العميق” بسبب الأضرار التي تعرضت لها هذه المواقع.