وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

عبد العزيز آل سعود وتأسيس المملكة (1902-1946)

بين عامي 1891 و1892، استعان العثمانيون بحلفائهم آل رشيد في شمال نجد، وعمدوا إلى تدمير الدولة السعودية الوهابية الثانية. وحينها فرّ معظم آل سعود إلى قطر والكويت. ولكن منذ عام 1902، شرع عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود، المعروف في الغرب باسم "ابن سعود"، في إعادة بناء سلطة عائلته في نجد.

إصلاح مسار السكة الحديد بالقرب من معان عام 1918
المصدر Imperial War Museum © IWM Q 60116

فأحيا عبد العزيز آل سعود الوهابية بين القبائل من خلال التعاون مع حركة دينية وعسكرية تدعى “إخوان من أطاع الله” أو “الإخوان” اختصاراً، واستهدفوا احتلال المناطق المجاورة مرة أخرى. وقد دعمتهم الإدارة البريطانية في الهند لكونهم حلفاء يُستفاد منهم في الصراع مع العثمانيين على ساحل الخليج. لذلك ساعدوا السعوديين على التوسع في شرق شبه الجزيرة العربية عام 1913.

الاستقلال العربي تحت السيطرة البريطانية

على الجانب الآخر من شبه الجزيرة العربية، أخذ العثمانيون يوطدون سيطرتهم على الحجاز من خلال مد خط سكة حديد من دمشق إلى المدينة المنورة ومكة (لم يكتمل حتى مكة). قُدم المشروع وكأنّ له غاية نبيلة خالصة وهي توفير وسيلة نقل جيدة للحجاج، ولكن المشروع كان له أيضاً هدف عسكري: تسهيل نقل القوات بسرعة إلى المدينتين المقدستين.

وعلى الصعيد السياسي، كانت الحجاز تابعة للدولة العثمانية ويحكمها شريف مكة الهاشمي، العدو اللدود للسعوديين. وكان الدولة العثمانية قد نقلت بعض الهاشميين إلى إسطنبول حفاظاً على أمنهم. وأصبح الحسين بن علي، المولود في إسطنبول في خمسينيات القرن التاسع عشر، عضواً في مجلس شورى الدولة العثمانية. وبعد الثورة التركية عام 1908، ظفر بمنصب شريف مكة وسافر إليها في نهاية العام.

خط قطار الحجاز الذي يربط دمشق بمكة. المصدر: فنك

نجح الحسين في توسيع نفوذه من مكة إلى قلب شبه الجزيرة العربية، ما أشعل الصراع بينه وبين عبد العزيز آل سعود. ولم يقتصر الصراع بينهما على الجانب العسكري فحسب، بل امتد إلى الأيديولوجيا. إذ كان للوهابية مناصرون في الهند، بينما أُسست جمعيات وأحزاب وطنية عروبية في شتى أنحاء الشرق الأوسط، وكثير منها كان في المنفى.

تشكلت جمعية العربية الفتاة في باريس عام 1909 للمناداة باستقلال العرب ضمن نظام فيدرالي في الدولة العثمانية. وبعد ذلك أُسس حزب اللامركزية الإدارية العثماني في القاهرة عام 1912. وفي العام التالي، دعا الحزب إلى مؤتمر عربي في باريس للمطالبة باللامركزية في الدولة العثمانية ومنح الولايات المختلفة حرية التصرف من دون الانفصال عن الدولة. وفي أغسطس 1913، دعت مجموعة في البصرة، جنوب العراق الحالي، إلى تشكيل حكومة عربية مستقلة هناك والإطاحة بنظام الاتحاد والترقي الذي يحكم البلاد من إسطنبول. وسعت التنظيمات السرية التي شكّلها الضباط العراقيون في الجيش العثماني إلى استقلال العراق أيضا.

عندما بدأت الحرب العالمية الأولى في أوروبا (والدولة العثمانية حينها جزء من التحالفين المتصارعين)، طلب الشريف حسين من العثمانيين أن يُعيّن حاكماً على الحجاز وفقاً لما تقتضيه قواعد الوراثة، ثم بدأ يتواصل مع الجمعيات القومية العربية السرية ومع البريطانيين في مصر.

وكان البريطانيون يرغبون في إخراج الدولة العثمانية من الحرب حتى يتمكن أسطول حلفائهم الروس من الوصول إلى البحر المتوسط. وفي أوائل عام 1915، نزلت القوات البريطانية والفرنسية في جاليبولي. ولكن الحملة فشلت في تحقيق هدفها، فاضطر البريطانيون إلى التحايل وطعن الدولة العثمانية في ظهرها من خلال التفاوض مع الشريف حسين. وفي يوليو 1915، طردت القوات الحجازية الحامية العثمانية من مكة، لكن القوات التركية في المدينة المنورة صمدت طوال الحرب بفضل خط سكة حديد الحجاز. وعقب ذلك، نصَّب الحسين نفسه ملكاً على العرب.

شجع البريطانيون الشريف حسين، لكنه أراد منهم وعداً صريحاً. فأجرى السير هنري مكماهون، المندوب السامي البريطاني في مصر، اتصالاته الشهيرة التي عُرفت فيما بعد باسم “مراسلات الحسين – مكماهون“. ووعده مكماهون بدعم الاستقلال العربي مقابل الثورة ضد الأتراك، ولكن وعده صِيغ في كلمات غامضة وتعهد بتأسيس “أفضل نظام حكم يلائم تلك المناطق المختلفة”.

وكان الوعد مقيداً من جهة الأقاليم والأراضي: إذ استُثني لبنان الحالي وشمال غرب سوريا حيث تعيش أقليات مسلمة وغالبية مسيحية من “المنطقة العربية” وفقاً للمراسلات:

“مقاطعتا مرسين والإسكندرونة وبعض المناطق السورية التي تقع غرب مقاطعات دمشق وحمص وحماة وحلب لا يمكن القول إنها عربية تماماً، لذلك يجب أن تُستثنى من الحدود المقترحة”.

سكة حديد الحجاز
داخل إحدى عربات قطار سكة حديد الحجاز. يظهر في الصورة ركاب من خلفيات متنوعة، ففيهم رجال يرتدون الطربوش التركي وآخرون يرتدون الغترة العربية

ولم يكن في نية البريطانيين أن يكون الاستقلال العربي متحرراً من سيطرتهم، فلم يعترفوا بالشريف حسين إلا “ملكاً على الحجاز” فقط، وليس ملكاً على العرب كلهم.

أرسل البريطانيون الدعم العسكري للحجاز، وساعد الضابط توماس إدوارد لورنس (لورنس العرب) عدة قبائل صحراوية دأبت على مهاجمة السكة الحديد قبل اندلاع الحرب، وخطط للاستيلاء على العقبة شمال البحر الأحمر في يوليو 1917. ما أدى إلى فتح الطريق أمام الجيشين الأسترالي والبريطاني حتى يعبرا من مصر إلى فلسطين.

عجزت قوات الحجاز عن طرد القوات العثمانية من المدينة المنورة رغم مساعدة لورنس، لكنهم استطاعوا احتلال دمشق في سبتمبر 1918. وسمح ذلك للأمير فيصل بن الحسين بالتواصل مع الأعيان والقوميين العرب هناك. لكن رغم دعم وزارتي الحرب والخارجية البريطانيتين للشريف حسين في مكة، دعمت الإدارة البريطانية في الهند عبد العزيز آل سعود. وفي ديسمبر 1915، اعترفت الحكومة في نيودلهي به حاكماً مستقلاً لنجد وأرسلت له البنادق والذخيرة والمال.

لم تكن مراسلات الحسين – مكماهون التفاوض السري الوحيد الذي جرى على مصير الدولة العثمانية خلال الحرب العالمية الأولى. ففي عام 1915، وافق البريطانيون والفرنسيون سراً على تقسيم الولايات العربية إلى مناطق نفوذ. وقضى الاتفاق بين الطرفين أن يكون لبريطانيا العراق وشرق الأردن وأن تأخذ فرنسا سوريا ولبنان.

وعُرفت تلك المفاوضات فيما بعد باتفاقية سايكس بيكو نسبةً إلى الدبلوماسيين فرانسوا جورج بيكو الفرنسي والبريطاني مارك سايكس. وفي عام 1917، اتفقت بريطانيا مع الاتحاد الصهيوني البريطاني على مساعدتهم على إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين.

وأخيراً، أُجريت ترتيبات كثيرة لتقسيم نفط الشرق الأوسط، الأمر الذي سيكون له أثر اقتصادي هائل على المدى البعيد.

دور النفط

قبل بداية القرن العشرين، كانت السيارات قليلة، والطائرات لم تُخترع بعد، وكانت الصناعة الكيميائية ضئيلة. حصل وليام نوكس دارسي، رجل الأعمال الأسترالي المتخصص في التعدين، على امتياز التنقيب عن النفط في إيران عام 1908. ولم يكن سهلاً على شركته –شركة النفط الأنجلو إيرانية– جمع رأس المال وإيجاد أسواق بعد أن اكتشفت النفط في جنوب غرب إيران عام 1908. لكن الطلب من الجيوش كان في ازدياد، لا سيما من القوات البحرية الأوروبية، وذلك لأن التزود بالوقود في البحر مكّن السفن الحربية من الإبحار لمسافات أبعد.

وفي عام 1912، تحولت البحرية الملكية البريطانية بالكامل إلى استعمال النفط، ولكن لم تكن الأراضي الخاضعة لبريطانيا تنتج النفط بكميات وفيرة إلا في مناطق قليلة. وفي عام 1911، تعاقدت الحكومة البريطانية مع شركة النفط الأنجلو إيرانية لتزويدها بالنفط، ثم اشترت نصف أسهم الشركة عام 1914 وأصبح لها مقعدين في مجلس الإدارة لهما حق النقض.

وقد أثار ذلك قلق الحكومة الألمانية التي كانت تتفاوض مع الدولة العثمانية على إنتاج النفط والتنقيب عنه في العراق. وقبل الحرب العالمية الأولى، كانت الدولة العثمانية أكثر استقراراً من إيران، وأراد العثمانيون أن يكون لهم سيطرة أكبر على أصول دولتهم، وألا تهيمن دولة أجنبية واحدة عليها. لذلك أصرت الدولة العثمانية أن يتولى تحالف دولي التنقيب عن النفط في العراق.

ولذلك، لجأ العثمانيون إلى مهندس النفط الأرمني كالوست كولبنكيان إلى تشكيل ذلك التحالف. فأُسست شركة النفط التركية ووُزعت نصف أسهمها على شركة النفط الأنجلو-إيرانية، و25% لشركة رويال داتش شل، ومثلها لمصرف دويتشه بنك. ونصّ الاتفاق على أن يحصل كولبنكيان على 5% من الأرباح السنوية إلى الأبد. كما اتفقت الشركات على تسوية تضمنت “قانون إنكار الذات” الشهير داخل أراضي الدولة العثمانية كلها، واتفقت أيضاً على التعاون وتجنب التنافس، ثم توقفت أعمال التنقيب كلها مع بداية الحرب.

تقسيم الأراضي العربية في فترة ما بعد الحرب

خريطة أعدّها مكتب الحرب البريطاني عام 1921 للتقسيمات المقترحة لشبه الجزيرة العربية. أُلحقت هذه الخريطة بمذكرة في 19 فبراير 1921 كتبها لامينغ ورثينغتون إيفانز وزير الحرب البريطاني (1921-1922) بشأن تشكيل المملكة المقترحة لبلاد الرافدين (العراق) وتضمنت مناطق من شبه الجزيرة العربية لم يُحدد موقفها. المصدر: الأرشيف البريطاني.

في عام 1921، أعدّت وزارة الحرب البريطانية، تحت قيادة لامينغ ورثينغتون إيفانز، خريطة توضح طريقة التقسيم السياسي التي تصلح للمنطقة من دون الإخلال بأي وعود. وبموجب اتفاقية سايكس بيكو، صارت سوريا ولبنان تحت الانتداب الفرنسي، وبقيت فلسطين تحت الانتداب البريطاني. وصارت شرق الأردن والعراق دولتين عربيتين بحسب ما ذُكر في مراسلات الحسين – مكماهون. وعلى هذا النحو، وُضعت منطقتي النفوذ البريطانية والفرنسية (العراق وسوريا) ضمن الخط الأحمر الذي يرسم حدود الدولة العربية. ولم يُدرس ذلك المشروع جيداً على الإطلاق.

وحاولت الأسرة الهاشمية أن تستفيد من ذلك الوضع، إذ أراد فيصل بن الحسين أن يعلن نفسه ملكاً على سوريا عام 1920، وعندما فشل مسعاه أمام معارضة فرنسا، عينته بريطانيا على عرش المملكة العراقية الوليدة. وعينت بريطانيا أيضاً شقيقه عبد الله أميراً على شرق الأردن وهي المنطقة الواقعة في جهة الشرق من الانتداب البريطاني في فلسطين. وبذلك، فقد الهاشميون قاعدة كبيرة في الجنوب بعد أن تُركت من دون تحديد وتضمنت نجد والحجاز واليمن وشرق شبه الجزيرة العربية.

توطيد حكم آل سعود

أتي الدور على تلك المنطقة في السنوات اللاحقة، إذ استولى آل سعود تدريجاً على معظم ما بقي من أراضي شبه الجزيرة. وفي عام 1921، احتلت قوات عبد العزيز آل سعود مدينة حائل في وسط الجزيرة العربية، وكانت تمثل القاعدة الرئيسة لخصومهم الأبرز وهم آل رشيد.

حاول الهاشميون استعادة مكانتهم بعد إعلان الجمهورية الجديدة في تركيا وإلغاء الخلافة عام 1924. واستغلالاً لتلك اللحظة، أعلن الشريف حسين نفسه خليفة من بعد العثمانيين، لكن في الواقع، كان عبد العزيز آل سعود صاحب النصر على الأرض. وعندما منع الحسين أتباع حركة “إخوان من أطاع الله” الوهابيين من الحج، رفعوا ضده السلاح. فاستولى الإخوان على الطائف في سبتمبر 1924. وفي ديسمبر 1925، استسلم الملك علي بن الحسين وأعلن عبد العزيز آل سعود نفسه ملكاً على الحجاز ثم على نجد. ثم استُبدل علم القومية العربية الهاشمي بالعلم السعودي الذي يحمل الشهادة باللون الأبيض على خلفية خضراء في إشارة إلى أيديولوجيته الإسلامية.

وبحلول عام 1930، اختفت جميع الإمارات المحلية في وسط شبه الجزيرة العربية. وفي معاهدة الطائف عام 1934، احتفظ اليمن باستقلاله مقابل تنازله عن عسير التي تمثل الجزء الشمالي من أراضيها للسيطرة السعودية. وفي عام 1932، اتحدت مملكتا الحجاز ونجد لتشكّلا المملكة العربية السعودية. وفي الوقت نفسه تشاركت هذه الدولة حدوداً مع دول على حدود الجزيرة العربية خضعت في معظمها للحماية البريطانية وهي: شرق الأردن والعراق في الشمال، وعدن ومناطقها النائية في الجنوب، وسلطنة عُمان والكويت في الشرق، وسلسلة من إمارات المشايخ الصغيرة على طول الأطراف الشرقية للجزيرة العربية.

وعلى الرغم من انتصارات عبد العزيز آل سعود، فإن سلطاته في شبه الجزيرة كانت محدودة. إذ رفض أبرز داعميه المسلحين (الإخوان) وجود “الكفار” لا في الجزيرة العربية ولا فيما ورائها. وشكّل هذا الأمر تهديداً لحكم عبد العزيز آل سعود.

في ديسمبر 1922، عقدت بريطانيا اتفاقاً مع عبد العزيز آل سعود حول الحدود بين نجد ومملكة العراق الوليدة. لم تكن القبائل في تلك المنطقة مستقرة، لذا وُقّع بروتوكول منفصل لتنظيم وصول هذه القبائل لآبار المياه. ونصّ البروتوكول على إعلان منطقة محايدة مستقلة على الحدود بين العراق ونجد والكويت تتيح لجميع القبائل الحصول على المياه فيها. مع ذلك تواصلت غارات هذه القبائل عبر الحدود، بدعم من الإخوان. وعندما حاول عبد العزيز آل سعود وقفها، أضعف هذا من سلطته. وفي عام 1926، هاجم مقاتلو الإخوان الأردن والعراق.

أما داخل السعودية، فصُدم الإخوان مما عدّوه “انحلالاً في القيم الأخلاقية” في الحجاز. فأسسوا هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التي بدأت حملة لتطهير الأخلاق. وطبقوا عقوبة الجلد على فتح المحال التجارية في أوقات الصلاة وعلى التدخين. وكره الإخوان الاختراعات الحديثة مثل التلغراف. ولم يقتصر تهديدهم على سلطة عبد العزيز آل سعود في الداخل، بل هددوا علاقاته بالحكومة البريطانية. وأصبح من الواضح أن استمرار الدولة السعودية يستلزم كبح جماح الإخوان.

تبنى عبد العزيز آل سعود أسلوبين لفرض سيطرته. اعتمد اﻷول على دعم عشيرته التي حرص على توسيع نطاقها بعقد الزيجات الاستراتيجية ومن خلال تعيين أبنائه في المناصب الحيوية. والثاني كان بجمع جيش جديد استخدمه في عامي 1929 و1930 في القضاء على الإخوان. ورغم أن ذلك أوقف غارات الإخوان الحدودية وقضى على المقاومة السياسية الداخلية لبعض الوقت، فقد عاد الإخوان ليسببوا مشكلة للسعودية بعد نصف قرن خلال ما يعرف بحادث الاستيلاء على المسجد الحرام عام 1979.

مثَّل نقص الأموال مشكلة أخرى، إذ لم تكن الدولة غنية بالموارد المالية. فكانت إيرادات الدولة من الضرائب القليلة التي فُرضت على التجارة في المنطقة الشرقية وإيرادات الحجاج الوافدين إلى الحجاز إلى جانب الإعانات البريطانية. إلا أن الركود خلال أزمة الكساد الكبيرة عام 1929 أوقف تلك المساعدات. كما أثّر الكساد في تطور إنتاج النفط الذي سوف يجعل السعودية دولة ثرية بحق. لم تكن السعودية تنتج النفط بعد، وكان هناك ركود في الطلب عليه تسبب في انهيار أسعاره. بدأت أسعار النفط في الانخفاض عام 1926، وبحلول عام 1928 كانت صناعة النفط العالمية في أزمة.

احتكار النفط

اكتشفت شركة نفط العراق النفط في شمال العراق عام 1928. وأُسست شركة نفط العراق بعد إعادة هيكلة شركة النفط التركية التي أحلت الشركات الفرنسية والأمريكية محل الشريكين الألماني والتركي. وكان الشركاء الجدد هم شركة النفط الأنجلو إيرانية، ورويال داتش شل، والشركة الفرنسية للنفط (التي عُرفت لاحقاً باسم توتال)، وتحالف من الشركات الأمريكية (شمل شركات ستاندرد أويل نيو جيرسي، وستاندرد أويل نيويورك، وجولف أويل، وبان أمريكيان للنفط والنقل، شركة أتلانتيك ريتشفيلد).

حصل كل من الشركاء الأربعة على حصة 23.75% من إجمالي النفط الخام الذي أنتجته شركة نفط العراق. واحتفظ كالوست كولبنكيان بنسبة 5% من الأرباح. واتفق أعضاء التحالف الجديد في مؤتمر أوستند عام 1928 على الإبقاء على أحد الشروط الأصلية في شركة النفط التركية: ألا يتصرف أي شريك بصفة مستقلة داخل الأراضي السابقة للدولة العثمانية. فحدد كولبنكيان هذه المنطقة بخط رسمه بقلم أحمر على خريطة الشرق الأوسط. وشملت اتفاقية الخط الأحمر جميع أراضي منطقة الشرق الأوسط من قناة السويس إلى إيران باستثناء الكويت. ورسمت هذه الاتفاقية مستقبل النفط في الشرق الأوسط.

اتفاقية الخط الأحمر كما حددها نص مؤتمر أوستند عام 1928. من الواضح أن هذه نسخة منقحة عن شرح كولبنكيان، إلا أنها احتفظت بلون الخط الأحمر وتشمل شرحاً لاتجاهاته من خلال الإشارة إلى الاتفاقات الخاصة بالدولة العثمانية البائدة. وتُعد هذه الخريطة إحدى الخرائط المؤسِسة لتاريخ صناعة النفط في الشرق الأوسط.
Biblioteca de Arte / Fundaçao Calouste Gulbenkian المصدر

في الواقع، لم يكن لشركة نفط العراق أي اهتمام بتوسيع نطاق عملياتها خارج العراق في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة وانخفاض سعر النفط. وكانت الشركات تميل نحو تقليل الإنتاج لترفع سعر النفط، إلا أن هذا أدى بالضرورة لخفض إيرادات الدول المنتجة. أما السعودية، فكان ذلك يعني لها أن الشركات المساهمة في شركة نفط العراق لن تنقّب عن النفط في شبه الجزيرة العربية. فكان احتكار النفط ضربة قاصمة لعبد العزيز آل سعود.

لجأ عبد العزيز آل سعود إلى الاستشارة الاقتصادية والسياسية لهاري سانت جون فيلبي، وهو موظف عام بريطاني سابق اعتنق الإسلام وأصبح معارضاً للإمبريالية. عرّف فيلبي عبد العزيز إلى مليونير أمريكي يُدعى تشارلز كرين كان على دراية عميقة وحماس بالغ للشرق الأوسط. وفي عام 1931، ذهب كرين إلى السعودية وأخبر عبد العزيز آل سعود بأنه سينقّب عن المياه والمعادن هناك. وبلداً من ذلك، اكتشف كرين النفط، لكن شركة نفط العراق ما كانت لتقدر على الاستفادة من ذلك الاكتشاف.

هاري سانت جون بريدجر فيلبي (1885-1960) بالملابس العربية. المصدر: Wikimedia Commons

لكن كان هناك مخرج من هذا المأزق، إذ لم يكن هناك ما يمنع الشركات التي لم تنضم إلى التحالف من عقد اتفاقات مع السعودية. وفي عام 1928 حصلت شركة ستاندرد أويل كاليفورنيا على امتياز التنقيب عن النفط في البحرين، وفي عام 1933، حصلت الشركة على امتياز من الحكومة السعودية للتنقيب عن النفط في الأحساء بالمنطقة الشرقية. وفي عام 1936 اشترت شركة تكساس أويل حصة في الشركة السعودية المملوكة لستاندرد أويل كاليفورنيا. وفي عام 1938، وتزامناً مع تعافي العالم من الكساد الكبير، عثرت ستاندرد أويل كاليفورنيا على النفط في الدمام، ليصبح أكبر حقل نفطي في العالم.

بئر الدمام رقم 7، أول بئر نفطي تجاري في السعودية. اكتُشف النفط فيه يوم 4 مارس 1938. المصدر: Wikimedia Commons

وأخيراً، شرع الاقتصاد السعودي في النمو. وبدأ يبزغ في تلك المرحلة المبكرة نجم عائلتين حضرميين في خدمة الدولة السعودية الوليدة: عائلة بن محفوظ التي حولت نشاطها في تحويل العملة بمكة إلى البنك الأهلي التجاري (البنك الأهلي السعودي حالياً)؛ وعائلة محمد عوض بن لادن الذي كان يعمل بجدة حمالاً على طريق الحج، وانتقل بعدها للعمل بالإنشاءات.

Advertisement
Fanack Water Palestine