وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

غياب التعاونيات الماليّة يحرم العرب من فرص كبيرة

يرتبط غياب التعاونيات الماليّة في المنطقة العربيّة بعوامل عديدة، وفي طليعتها تلك المرتبطة بالإطار القانوني الذي يرعى عمليّات الادخار والتسليف.

غياب التعاونيات الماليّة
مزارعون مصريون يحصدون القمح في قرية بمها بالقرب من بلدة العياط في محافظة الجيزة. خالد دسوقي/ أ ف ب

علي نور الدين

تنشط التعاونيّات الماليّة في الغالبيّة الساحقة من دول أوروبا وشمال أميركا، في تقديم خدمات تلقّي الودائع وتقديم التسليفات، لتنافس بذلك كبرى المصارف التجاريّة المعروفة.

فعلى سبيل المثال، تنشط في الولايات المتحدة أكثر من 5000 تعاونيّة ماليّة، تحت مسمّى “الاتحادات الإئتمانيّة”، ويستفيد من خدماتها نحو 127 مليون عضو. وفي فرنسا، تسيطر التعاونيات الماليّة على 45% من الودائع في سوق، فيما تبلغ هذه النسبة حدود ال40% في هولندا. وفي أوروبا ككل، تنشط أكثر من 3874 تعاونيّة ماليّة، حيث تقدّم هذه التعاونيات خدماتها لأكثر من 181 مليون عضو.

بالمختصر، ينقسم النظام المالي والمؤسسات الإدخاريّة في الدول الغربيّة ما بين المصارف الاستثماريّة والتجاريّة التقليديّة، التي تعمل وفق قواعد الشركات المساهمة، والتعاونيات الماليّة، والتي تعمل بحسب قواعد الاقتصاد التضامني. وكل نوع من هذه المؤسسات الإدخاريّة، يقدّم مزايا خاصّة على مستوى المخاطر والعوائد، فيما يبقى للمدّخر حرية الاختيار بين النوعين. أمّا نموّ التعاونيّات الماليّة، فجاء نتيجة مسار طويل من التطوّر في أسواق المال والقوانين التي تنظم عمل التعاونيات، وهو ما سمح بتوسّع نشاط هذه المؤسسات بشكل آمن وقانوني.

أمّا في المنطقة العربيّة، فتبدو الصورة مغايرة إلى حدٍّ بعيد، إذ تهيمن المصارف التجاريّة وحدها على أنشطة الإدخار والتسليف بشكلٍ شبه كامل، باستثناء بعض الحالات الصغيرة والهامشيّة بعض الشيء و التي تعمل خارج النظام المالي الرسمي. بل وأكثر من ذلك، شرّعت القوانين الماليّة والنقديّة احتكار المصارف التجاريّة لهذه الأنشطة، من خلال مجموعة من الضوابط الإداريّة والتقنيّة، مما جعل نشوء أسواق جديدة وكبيرة للتعاونيّات الماليّة شبه مستحيل.

مع الإشارة إلى أنّ هذا الواقع لا ينفي وجود حركة تعاونيّة ناشطة في قطاعات الزراعة والصناعة والأعمال الحرفيّة، في الدول العربيّة، حيث يستفيد العاملون في هذه القطاعات من عضويّة التعاونيّات للتعاضد والحصول على الخدمات المهمّة لنشاطهم الإنتاجي. إذ من المعلوم أن الحركة التعاونيّة قد نشطت وتوسّعت في الكثير من البلدان العربيّة، مثل لبنان وسوريا ومصر وتونس والأردن وغيرها، وذلك منذ بدايات القرن الماضي. إلا أنّ هذا النشاط التعاوني لم يمتد ليشمل قطاع الخدمات الماليّة، كما في الدول الغربيّة، وهذا ما غيّب التعاونيّات الماليّة عن خارطة العمل التعاوني في المنطقة العربيّة.

المشكلة الرئيسة اليوم، هي أنّ غياب التعاونيات الماليّة بات يحرم الدول العربيّة من الكثير من الفرص، التي كان من الممكن تقديمها عبر هذه التعاونيّات، وخصوصًا على مستويات النمو الاقتصادي والتعاضد الاجتماعي. بل ثمّة الكثير من المشاكل الاقتصاديّة في بعض الدول العربيّة، مثل لبنان ومصر وتونس، التي كان بالإمكان تلافيها أو معالجتها، من خلال توفير خدمات قطاع التعاونيات الماليّة بشكل ناشط وفاعل.

الفرق بين التعاونيّات الماليّة والمصارف التقليديّة

كما هو معروف، تنشط المصارف التجاريّة وفق نموذج الشركات المُساهمة، بحيث يسيطر على القرار الإداري حملة الأسهم، الذين ينتخبون بدورهم مجلس الإدارة ويصادقون على الميزانيّات السّنويّة. كما يستفيد حملة الأسهم من أنصبة الربح السنويّة، التي يتم توزيعها عليهم بعد احتساب تكاليف العمليّات والأرباح المدوّرة. أمّا المصدر الأساسي للتمويل، فيأتي من أصحاب الودائع، الذي ينالون نصيبًا ثابتًا ومضمونًا من الفوائد، فيما يلعب المصرف التجاري دور الوسيط بين المدخرين والمقترضين.

يعتقد أنصار نموذج التعاونيّات الماليّة بأنّ نموذج المصارف التجاريّة ينطوي على ثغرات كبيرة. إذ لا يملك المودعون في هذا النموذج أي تأثير عند اختيار مجلس الإدارة، أو عند تحديد استراتيجيّات عمله ونوعيّة المخاطر التي سيتحمّلها المصرف، على الرغم من أصحاب الودائع الذين يمثّلون المصدر الأساس للتمويل. في المقابل، يهيمن على القرار في المصارف التجاريّة أصحاب الأسهم، الذين يساهمون بجزء صغير جدًا من التمويل. وهذه الفئة تملك المصلحة في زيادة أرباح المصرف لزيادة عوائدها، ولو على حساب تحميل المصرف المزيد من المخاطر الاستثماريّة، أو على حساب تحميل العملاء المزيد من العمولات والأعباء.

في واقع الأمر، يربط البعض هذه الثغرة ببعض الأزمات المصرفيّة الكبرى، كالتي مرّت بها قبرص وأيسلندا ولبنان، حيث اندفع أصحاب المصارف إلى تحميل المودعين مخاطر مجازفاتهم، سعيًا لتحقيق المكاسب والأرباح لمصلحتهم كأصحاب أسهم. وفي النتيجة، تحمّل المودعون جزءًا كبيرًا من الخسائر، على الرغم من عدم مشاركتهم الفعليّة في الرقابة على أنشطة المصارف الاستثماريّة والتجاريّة، ولا في تحديد خططها الماليّة.

في المقابل، وعلى العكس تمامًا، لا تفرّق التعاونيات الماليّة بين مصدر التمويل –أي المدخرين- وأصحاب المؤسسة، بل إنّ أصحاب المؤسسة الفعليين هم أصحاب الودائع الموجودة فيها. وبهذا الشكل، وتمامًا كحال التعاونيّات في القطاعات الأخرى، يُعتبر أصحاب المدخرات أعضاءً في التعاونيات الماليّة، ما يمنحهم حق التصويت والمشاركة في اتخاذ القرار والرقابة.

وبهذا الشكل، تتجه المؤسسة ومجلس إدارتها تلقائيًا إلى تخفيض حجم المخاطر التي تحيط بأموال المدخرين، وتخفيض حجم العمولات التي يتحمّلها هؤلاء، بدل السعي لزيادة الربح والمخاطر، لمصلحة المساهمين كما يحصل في بعض المصارف التجاريّة. ولذلك، يصف كثيرون نموذج التعاونيات كأحد أدوات الاقتصاد التشاركي، أو الاقتصاد الديمقراطي.

علاوة عن الأسباب، تشير الدراسات إلى أنّ التعاونيات الماليّة كانت أقل تعرّضًا لمخاطر الأزمات الاقتصاديّة الكبرى، كالتي حدثت عام 2007، وكتلك التي ضربت بعض المصارف الغربيّة مؤخرًا. إذ أن حرص التعاونيّات الماليّة على تخفيض مخاطر استثماراتها كهدف أساسي، بدل السعي لتحقيق الربح لصالح المساهمين، يجعلها أكثر حصانة اتجاه الخضات الماليّة المفاجئة وغير المتوقّعة. كما تشير الدراسات أيضًا إلى أنّ التعاونيات الماليّة تفرض عمولات منخفضة كمتوسّط عام، على المدخرين (أي الأعضاء في هذه الحالة)، مقارنة بتلك التي تفرضها المصارف التجاريّة.

غياب التعاونيات الماليّة في المنطقة العربيّة

يرتبط غياب التعاونيات الماليّة في المنطقة العربيّة بعوامل عديدة، وفي طليعتها تلك المرتبطة بالإطار القانوني الذي يرعى عمليّات الادخار والتسليف.

فعلى سبيل المثال، يمنع قانون النقد والتسليف اللّبناني تلقي الودائع من الجمهور إلا من قبل مؤسسات مرخّصة كمصارف تجاريّة، فيما يمنع القانون ترخيص أي مصرف إلا إذا تأسس وفق نموذج الشركة المساهمة. وبهذا الشكل، يستحيل من الناحية العمليّة تأسيس تعاونيّة ماليّة قادرة على منافسة المصارف التجاريّة، على مستوى تلقي الادخارات ومنح القروض.

في سوريا، ينص القانون على تأسيس المصارف على شكل شركات مساهمة مشتركة ما بين القطاعين العام والخاص، أو على شكل شركات مساهمة مملوكة كليًا من القطاع الخاص. أما بالنسبة للتعاونيات الزراعيّة، فيمكنها تأمين التمويل اللازم لنشاطها عبر الاقتراض من المصرف الزراعي التعاوني، وهو مؤسسة عامّة مملوكة من قبل الدولة، وليس من قبل أعضاء التعاونيات الماليّة. وبشكل عام، يسمح هذا الإطار القانون بتأمين التمويل للتعاونيات الزراعيّة، لكنّه لا يسمح بنشوء قطاع مالي تعاوني أو تعاونيّات مالية مستقلة مملوكة من أعضائها.

الإمارات العربيّة المتحدة أقرّت عام 2022 قانون عصري للتعاونيّات، حيث سمح القانون للتعاونيات بدخول قطاعات جديدة مثل المنصّات الإعلاميّة والمنتجات الرقميّة والخدمات العامّة. كما سمح القانون بإدراج التعاونيّات في الأسواق الماليّة، بما يسمح لها بالاستفادة من الخدمات الماليّة الموجودة في هذه الأسواق. على الرغم من أن القانون قد عكس فهمًا متقدمًا للدور الذي يمكن أن تلعبه التعاونيّات، لم ينص القانون على ما يسمح بتشكيل تعاونيّات ماليّة قادرة على منافسة المصارف، في مجال تقديم خدمات الادخار والتسليف.

وعلى هذا النحو، يبدو من الواضح أنّ العوائق التنظيميّة والإجراءات الإداريّة المتعمّدة هي ما يحول دون توسّع نشاط التعاونيّات الماليّة في المنطقة العربيّة، بالرغم من توفّر حركة تعاونيّة نشطة في غالبيّة الدول العربيّة في القطاعات الأخرى. أمّا السبب الأساس وراء فرض كل هذه القيود، فهو نظرة الأنظمة والحكومات العربيّة للتعاونيّات، التي تحصر دور العمل التعاوني في تقديم الخدمات في بعض القطاعات المنتجة، بدل اعتباره نمطًا من أنماط النشاط الاقتصادي التشاركي والتضامني، الذي يمكن أن يتطوّر لينافس خدمات المؤسسات الماليّة التقليديّة.

وفي الوقت عينيه، من الواضح أن مصالح المصارف التجاريّة الكبرى، ذات الأثر الكبير على مراكز القرار السياسي في معظم البلدان العربيّة، لا يناسبها تطوّر العمل التعاوني، لينافس المصارف على استقطاب الودائع وتقديم القروض. وهذا ما أخّر حتّى اللّحظة تطوير القوانين الناظمة للقطاع المالي، لتفتح الباب أمام تأسيس تعاونيّات ماليّة قادرة على تقديم مختلف المنتجات الماليّة، كما جرى في الدول الغربيّة.

فرص ضائعة

من الواضح أنّ غياب التعاونيات الماليّة عن الساحة في الدول العربيّة بات يحرم هذه الدول من العديد من الفرص الهامّة. ففي حالة لبنان مثلًا، كان من الممكن أن تسهم التعاونيات الماليّة في ملء الفجوة التي خلّفها انهيار النظام المصرفي التقليدي، من خلال تقديم الخدمات الماليّة عبر هذه التعاونيّات.

مع الإشارة إلى أنّ القطاع المصرفي اللّبناني لم يتمكن حتّى اللّحظة من استعادة توازنه المالي، على الرغم من مرور نحو أربع سنوات على حصول الانهيار في الربع الأخير من العام 2019. لا بل يشير البعض إلى أن وجود تعاونيات ماليّة منخفضة المخاطر، كان من شأنه تحييد جزء من مدخرات اللّبنانيين، عن الأزمة الماليّة التي ضربت المصارف التجاريّة بسبب تورّطها في مجازفات مكلفة.

في المقابل، كان من الممكن أن تستفيد بعض الدول المأزومة نقديًا، مثل سوريا وتونس ومصر، من التعاونيّات الماليّة في حال توسّع نشاطها، عبر التدفّقات الماليّة التي كان يمكن أن ترد بالعملة الصّعبة إلى هذه التعاونيّات. مع العلم أن سمعة التعاونيّات الماليّة كملاذ آمن خلال فترات الأزمات قادرة على اجتذاب ودائع إلى هذه الدول، بعدما شحّت التحويلات إلى المصارف التجاريّة، بفعل الخشية من تداعيات الأزمات الاقتصاديّة القائمة هناك.

بالنتيجة، على الدول العربيّة أن تعمل على تطوير قوانينها المحليّة وأنظمتها الماليّة، لفتح المجال أمام توسّع عمل التعاونيّات الماليّة على نطاق أوسع. وهذا ما سيعود بالفائدة على الاقتصادات المحليّة أولًا، من خلال النمو الذي سيحققه هذا القطاع، كما سيسمح بخلق إطار جديد لنظام مالي أكثر تشاركيّة وديمقراطيّة. أمّا الأهم، فهو أن تستفيد الدول العربيّة من الأطر التنظيميّة التي وضعتها الدول الغربيّة لهذا القطاع، بناءً على تجاربها الطويلة في هذا المجال، لوضع أفضل معايير للحوكمة.