وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

مصر وأزمة الديون المتفاقمة

مصر وأزمة الديون المتفاقمة
رجال مصريون يعملون في مخبز بأحد أسواق القاهرة وسط ارتفاع الأسعار ، في 17 مارس 2022. خالد دسوقي / وكالة الصحافة الفرنسية

علي نور الدين

عادت مصر، وللمرّة الرابعة منذ العام 2016، لتطلب من صندوق النقد الدولي قرضًا جديدًا بقيمة تتراوح ما بين مليارين وثلاثة مليارات دولار أميركي، للتمكّن من التعامل مع الاستحقاقات والتحديات الماليّة والنقديّة الداهمة التي تواجهها مؤخّرًا. وهذا القرض، إذا تمكّنت مصر من الحصول عليه، سيُضاف إلى قيمة القروض التي حصلت عليها أساسًا البلاد من الصندوق خلال السنوات الماضية، والتي تجاوز حدود ال24 مليار دولار، وهو ما جعل مصر ثاني أكبر دولة مدينة للصندوق بعد الأرجنتين. مع الإشارة إلى أنّ الطلب المصري، الذي يتم التفاوض عليه مع الصندوق في الوقت الراهن، يشمل كذلك إعادة جدولة القروض السابقة مع فوائدها، عبر تمديد فترات الدفع، وهو ما اعتبره الصندوق مؤشّرًا سلبيًا قبل البحث في طلب القرض الجديد.

مسعى مصر للحصول على القرض، كان موضوع اجتماعات الربيع السنويّة ما بين صندوق النقد والبنك الدولي، التي انطلقت في 18 نيسان/أبريل الماضي وامتدّت لنحو أسبوع. ومنذ ذلك الوقت، كان من الواضح أن مسار الحصول على القرض الجديد لن يكون نزهة يسيرة بالنسبة للنظام المصري، بالنظر إلى الشروط الصارمة التي يضعها الصندوق للحصول على هذا القرض، والتداعيات المعيشيّة القاسية التي يمكن أن تنتج عن تنفيذ هذه الشروط. فأبرز الإصلاحات التي تحدّث عنها الصندوق في المباحثات التمهيديّة، شملت تعديلات إضافيّة في السياسة النقديّة التي تعتمدها البلاد، عبر تطبيق مرونة أكبر في ما يخص سعر الجنيه المصري مقابل الدولار، وهو ما سيعني من الناحية العمليّة تسجيل انخفاضات إضافيّة في قيمة العملة المحليّة. وهذا النوع من الخطوات المطلوبة من مصر، ستؤدّي –في حال القيام بها- إلى المزيد من التراجع في القدرة الشرائيّة للمواطن المصري، ما سيفاقم من السخط الشعبي القادر على تهديد استقرار النظام.

أمّا شروط الصندوق الأخرى، والتي تم ربطها بطلب القرض الجديد أيضًا، فلم تقل قساوة، وتحديدًا تلك التي تتصل بالتوسّع في تنفيذ برامج الخصخصة، وتفكيك الهيئات الاقتصاديّة الحكوميّة وإعادة هيكلتها وعرضها للبيع. وجميع هذه الشروط، ستعني عمليًا صرف فئات واسعة من الموظفين المستفيدين من رواتب هذه المؤسسات وشبكات الحماية الاجتماعيّة التي تقدّمها، ناهيك عن ارتفاع تكاليف الخدمات والسلع التي تؤمّنها هذه المؤسسات بعد خصخصتها. ومرّة جديدة، كان من الأكيد أن المضي قدمًا في البرامج التي يطرحها الصندوق سيؤدّي إلى زعزعة الأمن الاجتماعي في البلاد، وهو ما يؤرق صانعي القرار في البلاد، وخصوصًا الجيش الذي يأخذ بعين الاعتبار حسابات الاستقرار الأمني إلى جانب الحسابات الماليّة والاقتصاديّة.

لكل هذه الأسباب، أدرك النظام المصري أنّ عليه توسيع قائمة خياراته والبدائل التي يعمل عليها، عوضًا عن حصرها بالرهان على قرض صندوق النقد الجديد. فبالتوازي مع التحضير لمخاض المفاوضات الجديدة مع الصندوق، كان الرئيس المصري يعمل خلال الشهرين الماضيين على جولات خليجيّة شملت زيارات لكل من المملكة العربيّة السعوديّة والكويت والإمارات العربيّة المتحدة، وهو ما بدا كمحاولة لحشد دعم الحلفاء الخليجيين لمصر على أعتاب دخولها مرحلة مليئة بالتحديات الماليّة والنقديّة. وهذا المسعى، يمثّل اليوم بالنسبة للنظام المصري البديل البديهي المتوفّر، في حال تعثّر المفاوضات القائمة مع صندوق النقد الدولي.

في الوقت نفسه، كان النظام المصري يدرس الخيارات والبدائل الأخرى المتوفّرة في حال عدم تمكّنه من الحصول على أي دعم خارجي، سواء من صندوق النقد أو من الحلفاء الخليجيين. ومن هذه الخيارات إقحام الجيش نفسه في أتون التعامل مع تبعات الأزمة الماليّة، بما يشمل مثلّا استعمال السيولة المتوفّرة بحوزة القوّات المسلّحة لدعم الاحتياطات النقديّة المتبقية لدى المصرف المركزي. مع الإشارة إلى أنّ القوّات المسلّحة في مصر تضطلع بأدوار اقتصاديّة كبيرة تتجاوز المهام التقليديّة التي تقوم بها الجيوش في سائر الدول، حيث يمتلك الجيش سلسلة من مصانع المواد الغذائيّة والحديد والنحاس وغيرها، وهو ما يمكّنه من الاستحواذ على احتياطات وازنة بالعملات الأجنبيّة من خلال عمليّات التصدير.

السيسي ومسار الاقتراض لتمويل المشاريع

لا يمكن المضي قدمًا بفهم تحديات الوضع الراهن، دون العودة إلى المسار المالي والنقدي الذي سلكته مصر منذ وصول الرئيس عبد الفتاح السيسي إلى سدّة الرئاسة في أيار/مايو 2014، والتي أنتجت المشاكل التي تواجهها البلاد اليوم. فمنذ ذلك الوقت، حاول السيسي تعزيز مشروعيّة حكمه بجملة من المشاريع الطموحة والكبيرة، والتي غالبًا ما تعرّضت لانتقادات لاذعة من جهة كلفتها الكبيرة، ناهيك عن الشكوك التي حامت حول جدواها وأهميّتها بالنسبة إلى الشعب المصري. وفي النهاية، نتج عن هذه المشاريع كتلة ضخمة من الديون والالتزامات التي تورّطت بها الدولة المصريّة، والتي تحوّلت إلى عبء دائم بفعل استحقاقات السندات والفوائد على مدى السنوات الماضية. وهكذا، باتت مصر أسيرة معادلة الاقتراض الدائم، لتمويل سداد ديونها السابقة مع فوائدها. أما الإشكاليّة الكبرى، فكانت فقدان المشاريع -التي تسببت بالديون- الربحيّة المأمولة منها، ما عنى فقدان العوائد المتوقعة والقادرة على سداد الديون.

من هذه المشاريع مثلًا، عمليّة تشييد مشروع “قناة السويس الجديدة”، والذي يمثّل فرعا جانبيا فرع جانبي للقناة الأساسيّة بطول 35 كيلومترًا، وبكلفة إنشاء ناهزت حدود الثمانية مليارات دولار، وهي كلفة باهظة مقارنةً بإمكانات الدولة المصريّة ووضع البلاد الاقتصادي. يومها، ومع تدشين القناة عام 2016، أغرقت السلطة في مصر شعبها بالوعود لجهة الأرباح التي سيتم تحقيقها من المشروع، وزيادة العوائد المتوقعة من قناة السويس بعد إنشاء الفرع الجانبي. لكن بعد سنوات قليلة من افتتاح القناة الجديدة، تبيّن الفارق الشاسع بين الوعود والمردود الذي توقّعته دراسات الجدوى الاقتصاديّة من جهة، والواقع والعوائد الفعليّة التي تم تحقيقها من جهة أخرى. باختصار، لم يحقق المشروع الضخم الزيادة التي توقّعها السيسي في عوائد قناة السويس الماليّة، بالنظر إلى عدم ارتفاع الحركة التجاريّة عبر القناة بنسبة الزيادة في سعتها بعد تشييد الفرع الجانبي.

في خلاصة الأمر، ورث المصريون من هذا المشروع المتعثّر، وغير المربح، ديونا ضخمة نتجت عن إصدار الدولة المصريّة سندات دين لتمويل المشروع، بنسبة فائدة قاربت ال12% سنويًّا. وبعد أن فشل المشروع في تأمين الأرباح المتوقعة منه، بات على الحكومة المصريّة أن تؤمّن سداد هذه السندات وفوائدها من العوائد التي كانت تستعملها لتمويل ميزانيّتها. وهكذا، كان هذا النوع من المشاريع الطموحة سببًا في مراكمة الديون على الدولة المصريّة، وفي استنزاف مداخيلها منذ وصول السيسي إلى سدّة الحكم.

سيناريو الذهاب نحو المشاريع الطموحة الكبرى، المشكوك في جدواها، والتي لم تهدف إلا إلى تعزيز مشروعيّة النظام، تكرر في ما يخص مشروع “العاصمة الإداريّة الجديدة”، والتي من المرتقب أن ترتب على النظام المصري تكاليف تصل إلى حدود ال25 مليار دولار، في المرحلة الأولى من المشروع وحدها. هذا المشروع، يشمل إنشاء مباني جديدة لمؤسسات الدولة وطرقات سريعة وخطوط قطار سريع، بالإضافة إلى جملة من المشاريع العقاريّة الفاخرة والمجمعات السكنيّة وغيرها، على بُعد 25 كليومترًا شرق القاهرة. وكالعادة، ولتمويل هذا المشروع الضخم، لجأت الدولة المصريّة إلى الاقتراض مجددًا من المصارف والمؤسسات الأجنبيّة، وهو ما رتّب على الدولة كتلة جديدة من الأعباء التي يُفترض سدادها لاحقًا مع فوائدها. أما اليوم، فبات هناك شكوك كبيرة لجهة العوائد الاقتصاديّة المتوقّعة من هذا المشروع، وهو ما سيعني تكرار نموذج مشروع “قناة السويس الجديدة”، أي نموذج التورّط في دين بغياب العوائد التي تكفل سداده.

الدخول في دوامة صندوق النقد

على هذا النحو، دخلت مصر دوامة الاقتراض والاستدانة المتكرّرة، وبات عليها في كل مرّة الاستندانة لإعادة تمويل سداد الديون القديمة مع الفوائد، ناهيك عن إشكاليّة تأمين العملات الصعبة لتمويل فاتورة استيراد البلاد وعجز الميزانيّة العامّة. وككل بلد يواجه أزمة سيولة كهذه، لجأت مصر منذ العام 2016 إلى برنامج “تسهيل الصندوق الممدد” للحصول على سيولة توازي قيمتها ال12 مليار دولار، لدعم برنامج اقتصادي تم التفاهم عليه مع الصندوق. يومها، نص التفاهم مع الصندوق على سحب المبلغ على دفعات على مدار ثلاث سنوات متتالية، فيما تم ربط هذه الدفعات بخطوات إصلاحيّة فرض الصندوق تنفيذها، لاستمرار استفادة مصر من هذه الدفعات.

شملت الإصلاحات المفروضة من الصندوق مجموعة من الخطوات المؤلمة على المستوى المعيشي، من قبيل خفض قيمة الجنيه المصري، واتخاذ خطوات تقشّفيّة صارمة في الموازنة العامّة لخفض العجز فيها، مع كل ما يعنيه ذلك من تقليص قدرة الدولة المصريّة على الأنفاق لتمويل برامج الحماية الاجتماعيّة. كما طلب الصندوق منذ ذلك الوقت خفض الدعم التي تؤمّنه الدولة للسلع الأساسيّة، بما فيه الدعم المخصص للمحروقات والطاقة والمياه، وهو ما أدّى في مراحل لاحقة إلى ارتفاع أسعار هذه السلع. أمّا مطالب الصندوق المرتبطة بتقليص عجز الموازنة العامّة الخاصّة بالدولة المصريّة، فسرعان ما فرض على الحكومة التوسّع في فرض الضرائب الجديدة وزيادة نسب الضرائب القائمة، وهو ما ضاعف من الضغوط المعيشيّة على المواطن المصري.

لم تنتهِ رحلة مصر مع صندوق النقد بحصولها على قرض ال12 مليار دولار الذي وافق على منحه الصندوق على دفعات سنة 2016. فنتيجة تفشّي وباء كورونا وما رافقه من ضغوط ماليّة ونقديّة على الدولة المصريّة، احتاجت مصر للحصول على قرض آخر وفقًا لآليّة “التمويل السريع” بقيمة ناهزت ال2.77 مليار دولار، فيما عادت البلاد لتحتاج إلى قرض إضافي من الصندوق بقيمة 5.2 مليار دولار وفقًا لآليّة “برنامج الاستعداد الائتماني”. مع الإشارة إلى أن مصر حصلت أيضًا على دعم إضافي من صندوق النقد بقيمة 2.8 مليار دولار، في إطار عمليّة إعادة توزيع حقوق السحب الخاصّة، التي استفادت منها جميع الدول المنضوية في الصندوق، وهي عمليّة دعم استثنائيّة لم ترتّب أي ديون على الدول المستفيدة. وعلى أي حال، مع احتساب فوائد القروض الثلاثة التي استفادت منها مصر منذ العام 2016، تراكمت التزامات الدولة المصريّة لمصلحة صندوق النقد، لتتجاوز اليوم حدود ال24 مليار دولار، وهو ما يمثّل مبلغا ضخما مقارنة بمديونيّات سائر الدول المستفيدة من قروض الصندوق.

انفجار الأزمة الماليّة من جديد

لم تقتصر أزمة المديونيّة في مصر على القروض التي استحصلت عليها البلاد من صندوق النقد. فكما ذكرنا سابقًا، احتاجت الدولة المصريّة منذ وصول السيسي إلى الحكم عام 2014 للاقتراض بشكل متكرّر لتمويل مشروعاتها الطموحة، كما اضطرّت لإصدار سندات الدين الدوليّة بالعملة الصعبة لتأمين حاجاتها الإضافيّة من العملة الصعبة، فيما استحصلت على ديون ضخمة كدعم من دول الخليج وخصوصًا السعوديّة. وفي النتيجة، ارتفع حجم الديون السياديّة المصريّة من 46.5 مليار دولار سنة 2013، إلى أكثر من 84.7 مليار دولار سنة 2016، وصولًا إلى مستويات تجاوزت ال392 مليار دولار في نهاية العام 2021. وبذلك، تحوّلت الديون الخارجيّة الضخمة إلى قنبلة موقتة تهدد انتظام ماليّة الدولة المصريّة باستمرار، فيما باتت الدولة أسيرة حاجتها الدائمة للاقتراض لتسديد الديون السابقة مع فوائدها.

في مطلع هذا العام، تراكمت العديد من العوامل التي فرضت أزمة ماليّة خانقة على الدولة المصريّة، وهو ما دفعها إلى طلب القرض الجديد من صندوق النقد، ودراسة البدائل المختلفة في حال فشلت في الحصول على هذا القرض. العامل الأوّل، تمثّل في عودة الاحتياطي الفيدرالي الأميركي إلى رفع فوائده بشكل متدرّج منذ منتصف شهر آذار الماضي، وهو ما أدى إلى موجة من نزوح الرساميل من الأسواق الناشئة باتجاه سوق السندات الأميركي والمصارف الغربيّة. مع العلم أن هذا النوع من الخطوات، غالبًا ما يؤدّي إلى مشاكل في السيولة لدى الدول النامية، وهو ما بدأت السوق المصريّة بتلمّسه مؤخرًا.

أمّا العامل الثاني، والذي ساهم في الضغط على الوضعين النقدي والمالي في مصر، فتمثّل في الحرب الأوكرانيّة وتداعياتها على الاقتصاد العالمي، وما نتج عن هذه التداعيات من تحديات تواجه مصر. فارتفاع أسعار جميع المواد الأساسيّة عالميًّا، نتيجة هذه الحرب، بما فيها المحروقات والقمح والحديد، ساهم في زيادة حاجة مصر للعملة الصعبة، لتمويل استيراد هذه المواد. كما ساهمت هذه التطورات في زيادة الضغط على ميزان المدفوعات في مصر، والذي يلخّص الفارق بين ما يرد إلى البلاد من تحويلات بالعملات الأجنبيّة وما يخرج منها. وكما هو معلوم، فأي زيادة في العجز في ميزان المدفوعات يساهم تلقائيًّا في زيادة الضغط على قيمة العملة المحليّة، التي يدافع عنها المصرف المركزي المصري من احتياطاته.

في النتيجة، ومع تقاطع كل هذه العوامل، انفجرت الأزمة الماليّة من جديد في مصر، فبات على نظام السيسي إعادة ترتيب أوراقه ودراسة خيارته، بما فيها خيارات اللجوء مجددًا إلى صندوق النقد أو طلب معونة الحلفاء الخليجيين. وفي الوقت نفسه، ساهمت مديونيّة الدولة المتضخّمة، وحاجتها للاقتراض باستمرار لتمويل سداد الديون وفوائدها في مضاعفة آثار العوامل الضاغطة المستجدة، وهو ما يهدد اليوم قدرة الدولة المصريّة على الالتزام بسداد ديونها، بما فيها تلك التي استحصلت عليها من صندوق النقد. ومن هذه الزاوية بالتحديد، يمكن فهم طلب مصر إعادة جدولة الديون التي استحصلت عليها من الصندوق، وتحسّس صندوق النقد من هذا الطلب، الذي أوحى بأن مصر غير قادرة على إيفاء هذه الالتزامات في الوقت الراهن. وهكذا، من المرتقب أن تشهد مصر خلال الأشهر المقبلة ظروفا قاسية، سواء من ناحية وضع الدولة المالي والنقدي، أو من ناحية الوضع المعيشي على مستوى المواطنين، أو من ناحية الخضات السياسيّة التي يمكن أن تنتج عن ذلك.