وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

مجلس التعاون الخليجي

مجلس التعاون الخليجي
صورة لصحفي سعودي أمام شعار مجلس التعاون الخليجي في المركز الإعلامي قبل القمة الـ 41 في مدينة العلا شمال غرب المملكة العربية السعودية في 5 يناير 2021. FAYEZ NURELDINE / AFP

المقدّمة

لا يمكن فصل أسباب تأسيس مجلس التعاون لدول الخليج العربيّة، أو ما بات يُعرف اليوم بمجلس التعاون الخليجي، عن مجمل التحديات السياسيّة الإقليميّة التي واجهت جميع دول الخليج عند تأسيس المجلس في أيّار 1980. فقبل عام واحد من هذا التاريخ، وعلى الضفّة الشرقيّة من الخليج العربي، شهدت إيران ثورة إسلاميّة أطاحت بنظام آل بهلوي الملكي الذي حكمها منذ العام 1925، وهو ما دفع أنظمة الخليج الملكيّة والأميريّة للقلق من مصير مشابه لمصير آل بهلوي في طهران.

ثم زادت ريبة دول الخليج من النظام الإسلامي الجديد في إيران، مع تحسّسها اتجاه هذا النظام إلى استثمار الزخم السياسي لثورته، عبر تصدير نموذجه الثوري إلى دول الجوار، خصوصًا أن قائد الثورة الإسلاميّة نفسه -الإمام الخميني- أعلن صراحة نظريّته لنشر نموذج الثورة الإسلاميّة في العالم من خلال مفهوم ولاية الفقيه. باختصار، رأت دول الخليج في الثورة الإيرانيّة تهديدًا وجوديًا لها، خصوصًا إذا ما أدّت إلى إنعاش مشاريع الإسلام السياسي في المنطقة.

ومن الناحية العمليّة، كانت دول الخليج تملك في تلك المرحلة أسباب أخرى للارتياب من مشاريع الإسلام السياسي الثوري، بعد أن مهّدت لهذه المشاريع في العالم العربي جماعة الإخوان المسلمين، بنسخة سنيّة قادرة على مخاطبة أبناء دول الخليج، الذين ينتمي أغلبهم إلى الطائفة السنيّة. وعلى أي حال، مثّل ترحيب جماعة الإخوان بالثورة الإسلاميّة في إيران أولى أسباب الخلاف بين الجماعة والأنظمة الملكيّة في الخليج، ما دلّ بوضوح على نوعيّة الهواجس التي أحاطت بالدول الخليجيّة بعد حصول الثورة الإسلاميّة في إيران، خاصةً من جهة تقاطعها مع مشاريع الإسلام السياسي السنّي.

وتزامنت هذه التطوّرات يومها مع حادثة جهيمان العتيبي، الداعية السّلفي الذي احتلّ مع مجموعة من المسلّحين المسجد الحرام في مكّة، وقاد انطلاقًا من المسجد تمرّد عسكري في وجه السلطة، وهو ما فاقم بدوره من خشية المملكة السعوديّة من الحركات الإسلاميّة بمختلف أنواعها.

وفي المقابل، في تلك المرحلة بالتحديد، كان الرئيس المصري أنور السادات يذهب بعيدًا في الخروج عن الإجماع العربي، بتوقيعه معاهدة السلام المصريّة الإسرائيليّة في آذار 1979، ثم بتطبيعه العلاقات الدبلوماسيّة مع إسرائيل رسميًّا في كانون الثاني 1980. ومنذ البداية، عبّرت دول الخليج –خاصةً المملكة العربيّة السعوديّة- عن إدانتها لخطوة السادات، وصولًا إلى مقاطعة مصر دبلوماسيًّا واقتصاديًّا كترجمة عمليّة لرفض هذه الخطوة.

لكنّ هواجس دول الخليج هنا لم ترتبط حصرًا بتفريط السادات بالقضيّة الفلسطينيّة، أو “خيانة مصر للدول العربيّة” بحسب مصطلحات الحكومة السعوديّة، بل بنوعيّة الاستقطاب الذي ولّدته خطوة السادات في صفوف الدول العربيّة. فاندفاعة السادات نحو السلام مع إسرائيل، رفعت في العالم العربي أسهم دول “جبهة الصمود والتصدي”، التي تشكّلت من مجموعة من الدول العربيّة الرافضة للحلول السلميّة مع إسرائيل، ومن بينها العراق وسوريا وليبيا.

وهكذا، كانت النتيجة صعود دور هذه الدول المناهضة لخطوة السادات، والتي كانت تحكم أنظمتها السياسيّة إيديولوجيّات صاخبة ومتشدّدة في علاقتها مع الغرب، الأمر الذي مثّل عامل تهديد لمصالح الدول الخليجيّة الأكثر تحفّظًا، والتي كانت تحاول في ذلك الوقت أن توازن بين دورها العربي وعلاقتها الجيّدة مع الولايات المتحدة.

باختصار، كانت المخاطر السياسيّة تحيط بدول الخليج من كل الجهات في مطلع الثمانينات: من طموحات النظام الإسلامي الثوري المستجد في إيران، ويقظة مشاريع الإسلام السياسي، إلى مغامرات السادات في مصر، وما ولّدته من اصطفافات. ثم جاءت الحرب الإيرانيّة العراقيّة لتؤكّد إمكانيّة تفجّر كل هذه التناقضات في لحظة من الزمن.

وفي ظل هذه الظروف، جاء تأسيس مجلس التعاون لدول الخليج العربيّة في أيّار 1980، ليكون أداة تسمح لدول الخليج بالتكتّل ومواجهة هذه التحديات، خصوصًا بعد أن فقدت جامعة الدول العربيّة القدرة على لعب هذا الدور إثر الانقسامات الحادّة التي تلت معاهدة السلام المصريّة الإسرائيليّة. وكما هو واضح منذ البداية، مثّل العامل الأمني الهاجس الأساسي للدول الستّة التي ساهمت بإطلاق المجلس، أي الكويت والمملكة العربيّة السعوديّة والإمارات العربيّة المتحدة وقطر والبحرين وعمان.

ولهذا السبب تحديدًا، وبعد نحو سنتين فقط من تأسيس المجلس، اتّخذت الدول الأعضاء قرار تشكيل قوّة درع الجزيرة بهدف “إيجاد قوّة خليجية قادرة على القيام بالمهام المطلوبة للدفاع عن أمن الخليج، وردع أي اعتداء تتعرّض له دول الخليج”.

درع الجزيرة: قوّة ردع… شكليّة؟

تمّ إقرار تأسيس قوّة درع الجزيرة في تشرين الثاني 1982، في الدورة الثالثة لمجلس التعاون الخليجي المنعقدة في البحرين، بناءً على توصية رفعها وزراء دفاع الدول المنضوية للمجلس ضمن مجلس التعاون. وفي العام 1983، دخل القرار حيّز التنفيذ، مع إجراء أوّل مناورة تدريبيّة مشتركة للوحدات العسكريّة التي تم ضمّها إلى قوّة درع الجزيرة.

ومنذ ذلك الوقت، وضع المؤسّسون أهداف طموحة جدًّا لهذه القوّة، من بينها “الحفاظ على الأمن الخليجي من دون أي تدخّل خارجي”، بالإضافة إلى “الارتكاز على التهديدات الحاليّة والمتوقّعة” لتحديد الأهداف العامّة والعمل على “تحقيقها وفق استراتيجيّة واضحة”. ومن ضمن أهداف القوّة أيضًا “تشكيل القاعدة الأساسيّة للأمن من الناحية الداخليّة والخارجيّة بمختلف مقوّماته” للدول المنتسبة للمجلس.

لكن هذه الطموحات الكبرى، التي صوّرت درع الجزيرة كإطار عسكري قادر على مواجهة التحديات الأمنيّة والعسكريّة الداهمة، لم تتناسب مع الحجم المتواضع للإمكانيّات والذي تم تخصيصه لهذه القوّة. فعند إطلاقها، اقتصر عدد القوّة على خمسة آلاف عنصر، تمركزوا في منطقة حفر الباطن شمال شرقي السعوديّة. ولهذا السبب بالتحديد، وعند حصول الغزو العراقي للكويت عام 1990، لم تتمكّن هذه القوّة بالتحديد من لعب أي دور يُذكر في صد الغزو لحظة حصوله، رغم تلقي هذه القوات طلب المعونة الرسمي من طرف الكويت.

وبعد حصول الغزو، عادت درع الجزيرة للعب دور رمزي ضمن إطار عمليّة “عاصفة الصحراء“، التي قادتها الولايات المتحدة الأمريكيّة لطرد الجيش العراقي من الكويت. وبذلك، تناقضت هذه التطوّرات مع أبرز أهداف قوّة درع الجزيرة، المتمثّلة في حماية الأمن الخليجي من دون أي تدخّل خارجي. فمن الناحية العمليّة، لم تتمكّن درع الجزيرة من أداء هذه المهمّة إلّا بالتوازي مع تدخّل الولايات المتحدة الخارجي، وإلى جانب هذا التدخّل كقوّة رديفة.

ولاحقًا، في تشرين الأوّل/أكتوبر عام 2002، وبعد إدراكها لمحدوديّة قدرات درع الجزيرة، وضعت دول الخليج في اجتماع لوزراء دفاعها مخطّطات لزيادة عدد هذه القوّة لتبلغ نحو 22 ألف عنصر، مع مدينةٍ عسكريّةٍ متكاملةٍ في منطقة حفر الباطن. لكن، تعثّرت تلك المخطّطات نتيجة عدم قدرة الدول الخليجيّة على حشد أكثر من 5,000 عنصر وفرزهم للخدمة في مركز القوّة في السعوديّة. ولهذا السبب، اقترحت السعوديّة في كانون الأوّل عام 2005 إعادة هيكلة هذه القوّة، بحيث تتمركز الوحدات العاملة ضمنها في بلدانها الأصليّة، على أن تستجيب لقيادة الوحدة عند اللزوم.

وبالفعل، صادق مجلس التعاون الخليجي على هذا المقترح عام 2008، ما سمح خلال الأعوام اللاحقة بزيادة عدد القوّة لنحو 30 آلاف عنصر، بعد أن بات بإمكان الدول الخليجيّة ضم وحدات إضافيّة إلى هذه الوحدة من دون الاضطرار إلى نقلها خارج بلدانها الأصليّة.

مجلس التعاون الخليجي
سار المتظاهرون المناهضون للحكومة نحو السفارة السعودية في المنامة، في 15 مارس عام 2011، حيث أعلن ملك البحرين حالة الطوارئ لمدة ثلاثة أشهر حيث أدانت إيران بشدة التدخّل العسكري من قبل القوات الخليجية للمساعدة في إخماد الاضطرابات التي يقودها الشيعة في مملكةٍ يحكمها السنّة. AFP PHOTO / STR

حصل التدخّل الأبرز لقوّة درع الجزيرة خلال العقد الماضي في آذار عام 2011، يوم دخل نحو ألف جندي سعودي و500 رجل شرطة إماراتي الأراضي البحرينيّة، لمساندة النظام الحاكم في إخماد المظاهرات التي اندلعت في ذلك الوقت في العديد من المدن البحرينيّة؛ على رأسها العاصمة المنامة التي شهدت اعتصامات في ميدان اللؤلؤة. ويومها، واجه النظام السعودي الكثير من الانتقادات اللاذعة على المستوى الدولي نتيجة تدخله العسكري هذا، بل وواجه احتجاجات رافضة لهذا التدخّل من داخل المملكة نفسها.

فمن الناحية العمليّة، بدا واضحًا أن دخول هذه القوّات العسكريّة إلى البحرين كان أقرب إلى التدخّل في التوازنات الداخليّة بين السلطة والمعارضة، بدل أن يكون في خدمة حماية الأمن الخليجي من التدخّلات الخارجيّة. بل وبصورة أدق، تحوّلت درع الجزيرة هنا، بحسب المنتقدين، إلى قوّة تدخّل خارجي تعبث بقواعد اللعبة الداخليّة، وهو ما يناقض الهدف المعلن من تأسيسها، والذي ينص على تحييد التدخلات الخارجيّة عن أمن الدول الخليجيّة.

وفي مقابل هذا الرأي، دافعت دول مجلس التعاون الخليجي، وخصوصًا السعوديّة والبحرين، عن قرار التدخّل بوصفه عمليّة تجسّد تضامن الدول الخليجيّة في وجه أي أحداث يمكن أن تزعزع أنظمتها السياسيّة أو أمنها الداخلي، وهو ما يندرج برأيها من ضمن أهداف مجلس التعاون الخليجي.

ومن ناحية المؤيّدين لهذه الخطوة، ثمّة من يعتبر أن دخول قوات درع الجزيرة إلى البحرين بهذه الطريقة كان مجرّد تطبيق عملي لمبدأ التضامن بين دول مجلس التعاون الخليجي، لكون العمليّة تندرج ضمن إطار الحفاظ على الأمن العام في البحرين، خصوصًا أن معظم دول الخليج نظرت بعين الريبة إلى الاحتجاجات البحرينيّة ذات الطابع الشيعي.

لكن ابتعاد الكويت عن إرسال قوّات بريّة ضمن إطار هذا التدخّل، واكتفائها بإرسال قوات بحريّة غير قادرة على الاحتكاك بالمتظاهرين، واكتفاء قطر بمساهمة رمزيّة تمثّلت بإرسال بعض ضباط الارتباط، مثّلا دلالة على إشكاليّة هذا التدخّل وحرج قطر والكويت من هذا الموقف، خصوصًا بعد أن عبّرت الولايات المتحدة الأمريكيّة بشكل صريح عن امتعاضها من استخدام القوّة في وجه الاحتجاجات الشعبيّة في البحرين. مع الإشارة إلى أن موقف الكويت وقطر الخجول في هذا التدخّل قد يكون مرتبطًا بالامتعاض الأمريكي، وحرج الدولتين من المواقف الدوليّة غير المرحّبة بهذه العمليّة العسكريّة.

باستثناء التدخّل البرّي في وجه الاحتجاجات المدنيّة في البحرين، لم يُسجّل لدرع الجزيرة دور يُذكر في التعامل مع التحديات الأمنيّة أو العسكريّة الكبرى التي أحاطت بدول الخليج العربي منذ تأسيسها. وحتّى حين طالبت حكومة عبد ربه هادي اليمنيّة تدخّل قوّة درع الجزيرة في وجه تمدّد الحوثيّين، فضّلت المملكة السعوديّة تحييد درع الجزيرة عن هذه العمليّة قدر الإمكان، مقابل التدخّل بحلف عسكري آخر ضمن إطار عمليّة “عاصفة الحزم”.

مع الإشارة إلى أن المراقبين أشاروا في ذلك الوقت إلى أن الموقف السعودي ينطلق من إدراك المملكة لمحدوديّة قدرات هذه القوة، وصعوبة الاعتماد عليها في مهمّة معقّدة وشائكة كمهمّة الحرب ضد الحوثيين في اليمن. وعلى أي حال، كانت ذكرى تدخّل عبد الناصر في اليمن في ستينيات القرن الماضي درسًا يذكره الجميع، يوم تورّطت مصر في وحول الحرب الأهليّة اليمنيّة ولم تخرج منها إلّا بخسائر وأضرار فادحة، وهو ما دفع السعوديّة إلى الحذر من فكرة توريط قوّة متواضعة كدرع الجزيرة في حرب قاسية كالحرب اليمنيّة.

باختصار، كانت إشكاليّة قوة درع الجزيرة منذ البداية محدودة من حيث قدراتها قياسًا بالتحديات العسكريّة القائمة. ثم سرعان ما تبدّلت التحديات لتأخذ منحى أكثر قسوة، من قبيل الحرب اليمنيّة التي تورّطت فيها المملكة العربيّة السعوديّة، فيما لم تتمكّن قوّة درع الجزيرة من التماشي مع هذه التحديات المستجدة وتطوير قدرتها على مواكبتها.

معاهدة الدفاع العسكري المشترك

تتمثّل الأداة الدفاعيّة الثانية التي قدّمها مجلس التعاون لدول الخليج العربيّة باتفاقيّة الدفاع المشترك لمجلس التعاون، التي تم الاتفاق على توقيعها عام 2000 في اجتماع المجلس المنعقد في مدينة المنامة في البحرين. وهدفت الاتفاقيّة منذ البداية تأسيس تكامل دفاعي مشترك بين دول الخليج العربي، بحيث يتم اعتبار أي اعتداء على أي دولة من الدول الست بمثابة اعتداء على جميع دول مجلس التعاون.

كما نصّت المعاهدة على تطوير قوّات درع الجزيرة المشتركة، وتطوير التمارين العسكريّة المشتركة، بالإضافة إلى التعاون لتأسيس قاعدة للصناعات العسكريّة في دول الخليج. بمعنى آخر، جاءت المعاهدة لتكمّل فكرة قوّات درع الجزيرة، من خلال وضع برامج عمليّة وخطوات إضافيّة لترجمة التعاون العسكري بين دول الخليج، بدل الاكتفاء بإنشاء قوّات مشتركة.

مجلس التعاون الخليجي
جنود من دول مجلس التعاون الخليجي يشاركون في عرض عسكري أقيم في جزيرة فيلكا على بعد حوالي 30 كيلومترًا قبالة الساحل الكويتي، في 25 فبراير 2013 ، ضمن التدريبات العسكرية الخليجية المشتركة التي جرت خلال الاحتفالات بعيد الاستقلال الـ 52. يوم الدولة الخليجية والذكرى الثانية والعشرون لانتهاء حرب الخليج بتحرير الكويت من الاحتلال العراقي. AFP PHOTO / ياسر الزيات

لاحقًا، في عام 2013، طوّرت دول الخليج إطار التنسيق العسكري في ما بينها، ليشمل إنشاء قيادة عسكريّة موحّدة قادرة على تنسيق أداء جيوشها بشكل مركزي، وتنسيق الخطوات الدفاعيّة الاستباقيّة للدول الأعضاء. كما قامت الدول الخليجيّة كجزء من هذه المبادرة بتأسيس أكاديميّة خليجيّة للدراسات الاستراتيجيّة والأمنيّة، وجهاز مشترك للشرطة (الإنتربول الخليجي)، بالإضافة إلى مركز موحّد للعمليّات البحريّة تم تأسيسه عام 2014. جرى كل ذلك بالتوازي مع خطط لربط العمليّات العسكريّة الجويّة وأنظمة الدفاع الجويّة، مع تطوير مشاريع الاتصالات المؤمّنة بهدف ربط القوات المسلّحة المنتشرة في دول الخليج، من خلال شبكة ألياف ضوئيّة.

ومع ذلك، ظلّت معظم هذه المبادرات بعيدة عن الترجمة العمليّة خلال فترات التوتّر العسكري. فخلال حرب اليمن، التي تعدّها المملكة العربيّة السعوديّة حرب دفاعيّة استباقيّة في وجه التمدد الحوثي، ساهمت قطر إلى جانب قوات التحالف الذي قادته السعوديّة في بدايات الحملة العسكريّة عام 2015، عندما انسجمت وجهة الحرب مع السياسة الخارجيّة القطريّة. لكن مع حصول التباينات السياسيّة بين كل من قطر والمملكة العربيّة السعوديّة، ومع انعكاس هذه التباينات على أولويّات الطرفين في الحرب اليمنيّة، بادرت قطر للانسحاب من هذه الحرب، وصولًا إلى تبنّي الدعوة للحوار وإنهاء الحرب بالحلول السلميّة.

وحتّى في ما يخص الإمارات العربيّة المتحدة، اختلفت القوى المسلّحة اليمنيّة التي دعمتها الإمارات عن تلك التي دعمها رسميًّا التدخّل العسكري السعودي، وهو ما عنى تباين الأهداف العسكريّة للدولتين، رغم التقائهما على محاربة الحوثيين كعدو مشترك. مع الإشارة إلى أن حلفاء الإمارات اليمنيين، تصادموا عسكريًّا في العديد من المحطات مع حلفاء المملكة العربيّة السعوديّة المحليين، ما دلّ على حجم التباين في مقاربة الملف اليمني بين الدولتين.

بمعنى آخر، ورغم توقيع المعاهدة الدفاعيّة وإقرار تشكيل القيادة العسكريّة الموحّدة، ظلّ تضامن الدول الخليجيّة محكومًا بتلاقي المصالح والوجهات السياسيّة، فيما انعكس كل تباين سياسي على الأداء العسكري لهذه الدول، وعلى تضامنها خلال النزاعات. وهكذا، لم تكن جميع الخطوات الهادفة إلى تحقيق التكامل الدفاعي سوى غطاء يسمح بالتدخّل العسكري المشترك حين تسمح الظروف السياسيّة بذلك، فيما يغيب هذا الفعل بمجرّد انتفاء المصلحة السياسيّة لذلك. ومع التبدّل المستمر للتحديات، لم تكن المعاهدة وجميع الخطوات الدفاعيّة قادرة على مواكبة هذه التحديات، وضمان سياسة دفاعيّة مشتركة بعيدًا عن التبدّلات المستمرة في المصالح السياسيّة.

التعاون الاقتصادي

بخلاف محدوديّة نتائج التعاون الأمني والدفاعي، تمكّن مجلس التعاون الخليجي من فتح أبواب تعاون مثمرة بين أعضائه الستّة، ربما بفضل تقاطع جزء كبير من مصالح هذه الدول الاقتصاديّة، خصوصًا بالنظر إلى تشارك اقتصاداتها في الكثير من الخصائص المشتركة. فعلى سبيل المثال، تمكّنت دول الخليج من إنشاء “منطقة التجارة الحرّة لأعضاء المجلس” عام 1983، والتي سمحت باستيراد وتصدير منتجات هذه الدول في ما بينها من دون الحاجة لوكيل محلّي أو اتخاذ أي إجراءات باستثناء إبراز شهادة المنشأ.

كما سمحت منطقة التجارة الحرّة بإعفاء منتجات هذه الدول الزراعيّة والصناعيّة والحيوانيّة من الرسوم الجمركيّة في عمليّات التبادل التجاري التي تجري بين هذه الدول. وبفضل “منطقة التجارة الحرّة”، تمكّنت دول الخليج من زيادة حجم التبادل التجاري في ما بينها من أقل من 6 مليار دولار عام 1983، إلى نحو 15.1 مليار دولار في عام 2002، وصولاً إلى 90 مليار دولار عام 2019.

وعام 2002، طوّرت الدول الخليجيّة تعاونها الاقتصادي عبر تحويل المنطقة الحرّة إلى “اتحاد جمركي بين دول مجلس التعاون الخليجي”. ومن خلال هذا الاتحاد، تم الإبقاء على سياسة إعفاء منتجات دول مجلس التعاون الخليجي من الرسوم الجمركيّة عند تصديرها لدول أخرى منضوية في المجلس، كما تم الاتفاق على وضع تعرفة جمركية موحّدة اتجاه العالم الخارجي (للسلع المستوردة من خارج دول مجلس التعاون الخليجي)، بالإضافة إلى نظام جمركي موحّد. وبذلك، بات بإمكان جميع أنواع السلع، بمعزل عن منشأها، التدفّق بحريّة بين دول مجلس التعاون الخليجي من دون قيود، بعد دفع الرسم الجمركي الموحّد في حال كانت مستوردة من دول غير منضوية في المجلس.

وعلى صعيد الطاقة، أنجز مجلس التعاون الخليجي مشاريع مميّزة، من قبيل مشروع الربط الكهربائي بين دول المجلس، الذي سمح لهذه الدول بتبادل فائض إنتاجها من التيّار الكهربائي عن الحاجة. ومن خلال هذا المشروع تحديدًا، انطلقت دول المجلس للتباحث في اتفاقيات مع الدول المجاورة، كمصر والأردن والعراق، لربط شبكاتها الكهربائيّة بشبكة الربط الخليجيّة، وتصدير الطاقة الكهربائيّة إلى هذه الدول عند الحاجة، أو تصديرها إلى دول أخرى مجاورة من خلال شبكاتها، وهو ما أفضى إلى تفاهمات يتم العمل على تنفيذها حاليًّا.

وعلى مستوى مشاريع المواصلات، اتّفقت دول المجلس على المضي بمشروع سكّة حديد قادرة على ربط السواحل الشرقيّة للدول الست، وهو ما سيسمح لاحقًا بتطوير التبادلات التجاريّة بين هذه الدول وتخفيض كلفتها.

ومع كل هذه التطوّرات الإيجابيّة، ظلّت الخلافات السياسيّة كامنة لتطعن في بعض المراحل بمصداقيّة هذه التفاهمات، كما جرى خلال الأزمة الخليجيّة بين قطر من جهة، والسعوديّة والإمارات العربيّة المتحدة والبحرين وبعض الدول العربيّة الأخرى من جهة أخرى. ففي تلك المرحلة، وبمعزل عن اتفاقيّة الاتحاد الجمركي التي حرّرت التجارة العابرة للحدود بين دول الخليج بشكل تام، لجأت السعوديّة وحلفائها إلى فرض ما يشبه المقاطعة الاقتصاديّة الشاملة في وجه قطر، وصولًا إلى إغلاق الحدود في وجهها بشكل تام.

وبذلك، تبيّن أن جميع خطوات التكامل الاقتصادي، مهما بلغت جديّتها، يمكن أن تتأثّر في لحظة بالخلافات السياسيّة في الدول الأعضاء للمجلس. ومن الناحية العمليّة، تجاوز المجلس أزمة الانقسام الخليجي والمقاطعة التي فرضها على قطر، لكن الخلافات التي أدّت إلى استعار الأزمة مازالت على حالها من دون معالجة، وهو ما ينذر بتجدّد الأزمة بشكل مماثل في المستقبل.

وعلى مستوى السياسة الضريبيّة، أقرّ مجلس التعاون الخليجي مبدأ ضريبة القيمة المضافة الموحّدة في عام 2016، كما دخلت في دراسة تحديد العديد من الضرائب الأخرى بشكل موحّد ومتجانس، كضريبة الرفاهيّة. مع الإشارة إلى أن مجلس التعاون أقرّ عام 1988 مبدأ مساواة مواطني دول مجلس التعاون في الرسوم الضريبيّة المفروضة على أعمالهم، عند انتقالهم للعمل في دولة خليجيّة غير الدولة الأم. وهذا المبدأ، سمح لدول الخليج بتبادل الخبرات والأيدي العاملة في العديد من القطاعات الاقتصاديّة بكلفة منخفضة، وبأقل قدر من الأعباء على مواطني هذه الدول.

العملة الموحّدة: مشروع معلّق

بالرغم من كل ما تحقّق، مازال قدر كبير من المشاريع الاقتصاديّة المشتركة معلّقًا لغياب التوافق المطلوب عليه بين دول مجلس التعاون الخليجي. فعلى سبيل المثال، لم يتمكّن مجلس التعاون الخليجي من المضي قدمًا بمشروع العملة الموحدة بشكل جماعي، رغم إقرار المجلس عام 2002 برنامج زمني لإطلاق هذه العملة. ففي عام 2006، انسحبت سلطنة عُمان من هذا المشروع لعدم تمكّنها من الالتزام بمعايير الاتحاد النقدي الذي يفترض أن يصدر العملة، من دون أن تمانع مضي سائر دول المجلس بالعملة الموحّدة من دونها.

ثم قرّرت الإمارات العربيّة المتحدة عام 2009 الانسحاب من المشروع أيضًا، احتجاجًا على اختيار مدينة الرياض كمركز للمصرف المركزي المشترك. وهكذا، تحوّل مشروع الاتحاد النقدي الذي يُفترض أن يُطلق العملة الموحّدة إلى مشروع رباعي يقتصر على الكويت والسعوديّة والبحرين وقطر، ما أفقد هذه فكرة زخمها.

وعلى أي حال، مازالت فكرة إطلاق العملة الموحّدة ترتبط بجملة من التحديات، أبرزها ضرورة اتفاق الدول المشاركة في الاتحاد على سياسة موحّدة للفوائد والاحتياطات النقديّة، ونظام سعر الصرف وأولويّاته، وطريقة التعامل مع عجوزات ميزان المدفوعات عند حدوثها. وهذا النوع من التفاهمات، غالبًا ما يرتبط بإشكاليّات لا تنتهي بالنظر إلى تباين الأهداف الاقتصاديّة للدول المنضوية في هذا النوع من المشاريع المشتركة، وطبيعة التحديات الماليّة التي تتعامل معها، وهو ما يخلق تحديات في مواجهة تبني عملة واحدة وسياسة نقديّة موحّدة.

حلم الوحدة السياسيّة

منذ إطلاق مجلس التعاون الخليجي، كان الهدف الأساسي توسيع نطاق التضامن الخليجي تدريجيًّا، وصولًا إلى تحقيق حلم الوحدة السياسية من خلال اتحاد سياسي شبيه بالاتحاد الأوروبي اليوم. لكن حماسة الجانب السعودي للانتقال إلى هذه المرحلة عام 2013، واجهها التحفّظ العماني الواضح، الذي بلغ حد التهديد بالانسحاب من مجلس التعاون الخليجي لحظة تحويله إلى اتحاد سياسي.

ومن الناحية العمليّة، بدا واضحًا أن التحفّظ العماني على فكرة الوحدة، من خلال اتحاد سياسي مثل الاتحاد الأوروبي، ارتبط بالدرجة الأولى برغبة السلطنة بالحفاظ على هامش من الاستقلاليّة عن سياسة المملكة العربيّة السعوديّة في المنطقة. فلطالما حافظت سلطنة عمان على سياسة هادئة ومحايدة ومستقلّة عن سائر دول مجلس التعاون.

وهذه السياسة، هي ما سمح للسلطنة بأداء العديد من الأدوار السياسيّة التوفيقيّة في المنطقة، من قبيل استضافتها جزءًا من المفاوضات الأمركييّة الإيرانيّة حول البرنامج النووي الإيراني. ولهذا السبب، بدا واضحًا أن عمان أرادت منذ البداية الحفاظ على علاقاتها الإيجابيّة ومصالحها المشتركة مع إيران بالتحديد، وهو ما دفعها إلى محاولة تحييد نفسها عن أي اتحاد سياسي يمكن أن تقوده السعوديّة المندفعة إلى مواجهة الدور الإيراني في المنطقة.

وبمعزل عن تحفّظ عمان المبدئي في ذلك الوقت، والذي من شأنه أن يعرقل قرار من هذا النوع، نظرًا لحاجة جميع القرارات بإجماع الدول الأعضاء، من الأكيد أنّ تطوّر من هذا النوع سيكون صعبًا في ظل الانشقاقات التي ألمّت بالساحة الخليجيّة مؤخّرًا، خاصةً من جهة الخلاف السعودي القطري. فالدخول في اتحاد سياسي، يفرض التزام جميع الدول المنضوية فيه بآليّات واضحة لتنفيذ قرارات الاتحاد بتسليم الدول بآليّات الحوكمة المعتمدة في الاتحاد.

وفي ظل انعدام الثقة الموجود حاليًّا نتيجة تجربة مقاطعة قطر، من الصعب توقّع تسليم جميع دول مجلس التعاون، وخصوصًا قطر، بصيغة اتحاد تملك السعوديّة اليد الطولى فيه. مع العلم أن الإمارات العربيّة المتحدة بدأت بدورها بالبحث عن هامش خاص لحركتها في المنطقة، من دون الارتباط حصرًا بالدور السعودي، بل بما يتعارض مع الدور السعودي في بعض الأحيان. وبذلك، يبدو أن الإمارات باتت تحذّر من الانضواء حصرًا تحت مظلة النفوذ السعودي في المنطقة، تمامًا كعمان وقطر.

تحديات وعوائق

كما بات واضحًا، مازال مجلس التعاون الخليجي أسير الخلافات السياسيّة والمصالح المحليّة الضيّقة للدول الأعضاء فيه، وهو ما لجم حتّى اللحظة توسّع المجلس في إرساء سياسة دفاعيّة مشتركة، قادرة على حماية الخليج من دون الارتكاز للتدخّل الخارجي، أو بالأحرى: التدخّل الأمريكي بالتحديد. وفي الوقت نفسه، لم ينجح المجلس في تطوير التكامل الاقتصادي للوصول إلى مرحلة السياسة النقديّة والاقتصاديّة المشتركة، بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى، نظرًا لغياب الثقة بين الدول المؤسسة للمجلس، والتي مازالت حتّى اللحظة تخشى الارتباط ببعضها على المدى الطويل بمسائل مصيريّة كالسياسة النقديّة.

وحتّى في ما خص الانتقال إلى مرحلة الاتحاد السياسي، من الصعب توقّع خطوة من هذا النوع في القريب العاجل، للأسباب نفسها. وبذلك، يصبح المجلس أسير معادلة شائكة، مع تعاظم التحديات الاقتصاديّة والسياسيّة والأمنيّة المحيطة به، في مقابل محدوديّة الدور الذي يتمكن من أدائه.

وفي المقابل، تتسارع خطوات بعض الدول الأعضاء في المجلس البعيدة عن الإجماع الخليجي، كحالة تطبيع العلاقات ما بين الإمارات العربيّة المتحدة وإسرائيل، وهو ما يتناقض بشكل جذري مع مواقف دول أخرى مناهضة للتطبيع كالكويت مثلًا. كما يزداد تباين الدول الخليجيّة في مقاربة بعض الملفّات الإقليمية الساخنة، كالملف اليمني أو العلاقة مع النظام المصري وحجم الدعم السعودي الممنوح له، وهو ما سيؤثّر بدوره على انسجام دول مجلس التعاون وإمكانيّة تحوّل المجلس إلى اتحاد في المستقبل القريب.

أمّا الأكيد، فهو أن دول الخليج ستستمر بالتعاون من خلال المجلس، للتضامن معًا عند بلوغ المخاطر “الخط الأحمر” الذي لا يقبل أحد المساس به: إمكانيّة قلب الحكم في إحدى الدول الأعضاء، أو تغيير هويّة العائلة الحاكمة فيها.

لمعرفة المزيد عن مجلس التعاون الخليجي، يرجى الإطلاع على المقالات المتعددة في هذا الملف الخاص من موقع فنك.

أحدث المقالات