منذ بداية الاحتلال الاسرائيلي لفلسطين عام 1948، كان اعتقال الاطفال سمةً من سمات الاجراءات العسكرية التي حكمت الاراضي المحتلة، فقوانين الطوارئ العسكرية لا تفرق بين أعمار أو أجناس أو ديانات السكان الاصليين، حيث تم التعامل معهم جميعاً ضمن نطاق القانون العسكري المتمثل بالمحاكم العسكرية الخاضعة لقوانين الطوارئ، التي تنتهك حقوق الإنسان وأسقطت خصوصيات بعض الفئات كالاطفال والنساء وعاملتهم معاملة المقاتلين والفدائيين، سواء كان ذلك في ظروف اعتقالهم أو حتى في ظروف حياتهم الاعتقالية داخل السجون نفسها. فالمحاكم لا تنظر إليهم باعتبارهم مدنيين ولكن تعاملهم كمقاتلين عسكريين، وبالتالي فإن شروط احتجازهم أكثر قسوة بكثير.
وفي احصائيةٍ لهيئة شؤون الأسرى والمحررين، فقد اعتقلت سلطات الاحتلال أكثر من 7000 طفل منذ عام 2000 بحيث بلغ غالبيتهم سن الرشد داخل الأسر وما زالوا فيه. في حين بلغ عدد الاطفال الأسرى في عام 2018 قرابة 350 طفلاً اسيراً، يقبعون في سجونٍ خاصة بالاطفال ويعانون ظروفاً معيشية سيئة حيث يتم التنكيل فيهم بشكلٍ ممنهج وابتزازهم في كثيرٍ من الاحيان للتعاون مع أجهزة المخابرات الاسرائيلية عبر الضغط عليهم وتخويفهم. وقد أكد ذلك عددٌ من الاسرى الاطفال الذين افرج عنهم حيث قالوا إن ضباط الأمن غالباً ما كانوا يساومونهم على العمل معهم كمخبرين مقابل وعود بتخفيف أحكامهم او تحسين ظروفهم المعيشية.
وبحديثه عن أحد الأطفال الأسرى، جاءت شهادة رؤوف صنوبر كالآتي: “إن التحقيق معه كان عنيفاً تخلله تهديداتٍ باعتقال والدته وشقيقته وتم الضغط على رأسه بموضع اصابة كان قد تلقاها فبل اعتقاله بعام فقط حيث اخترقت رأسه رصاصة اسرائيلية وتم اصابته بشكل خطير وبالتالي أمام التهديدات اعترف هذا الطفل بما طلب منه ووقع على افادة بلغة عبرية لا يفهمها ليتم ادانته في المحكمة والحكم عليه مدة 30 شهراً. ويضيف ذات الطفل انه قبل الافراج عنه بأسابيع تم جلبه من معتقله لمقابلة ضابط مخابرات اسرائيلي حيث تم مساومته بتحسين وضعه المادي وعلاجه من اثر الاصابة مقابل التعاون والعمل كمخبر لدى جهاز الامن الاسرائيلي.”
هذا الأسلوب دفع عدداً من الاطفال للموافقة على ذلك الأمر الذي عرضهم لكثير من المشكلات الاجتماعية والامنية بعد التحرر من الاسر واتهامهم كعملاء للاحتلال، الأمر الذي أدى لنبذهم واقصائهم من محيطهم الاجتماعي وما يترتب على ذلك من مشكلاتٍ وتعقيداتٍ لهم ولعائلاتهم.
تلك الاساليب التعذيبية وهذه الظروف أكدت عليها عددٌ كبير من المؤسسات الانسانية والحقوقية التي عاينت ظروف الاعتقال للاطفال وتابعت عدداً كبيراً من القضايا لتخرج بشهاداتٍ حية تصف واقع الحال المزري للأطفال الأسرى المحررين.
فقد أكدت الحركة العالمية للدفاع عن الأطفال في فلسطين إن المحاكم العسكرية الاسرائيلية تطبق ذات القوانين التي تطبقها على البالغين بحق الاطفال دون سن الثامنة عشر. كما اكدت الحركة في تقريرها المقدم أمام اللجنة الخاصة المعنية في التحقيق في الممارسات الاسرائيلية التي تمس حقوق الانسان في الاراضي الفلسطينية لعام 2012 بأن الاجراءات العسكرية من اعتقال ومحاكمة وتعذيب وتحقيق للاطفال هي اجراءاتٌ واسعة الانتشار ومنهجية، حيث جاء ذلك بعد اخذ شهادات مشفوعة بالقسم لقرابة 108 أطفال تم اعتقالهم في فتراتٍ مختلفة.
من جهته أكد المحامي جميل سعادة من هيئة شؤون الاسرى الفلسطينية في مقابلة اجريناها معه في فَنَك على “إن سلطات الاحتلال تمارس القمع الممنهج تجاه الاطفال المعتقلين… الذين غالباً ما يتم اعتقالهم من منازلهم في الليل بواسطة قواتٍ عسكرية كبيرة وبطريقةٍ شرسة تضع الطفل امام تأثيراتٍ نفسية معقدة. ومن ثم يمارس عليه التحقيق بطريقة عنيفة كما حدث مع الطفل أحمد مناصرة وغيره حيث ظهرت طريقة التحقيق العنيفة وطريقة الاعتقال الهمجية له في تسريباتٍ مصورة من غرف التحقيق.”
وأضاف المحامي سعادة “إن المحاكم العسكرية الاسرائيلية تتعاطى مع الاطفال من سكان الضفة الغربية ضمن القوانين العسكرية وتعمل على الالتفاف على القوانين الدولية عبر المماطلة باصدار الاحكام بحق الاطفال إلى حين بلوغهم سن الثامنة عشر فتتم محاكمتهم كبالغين دون الأخذ بعين الاعتبار عمرهم أثناء تنفيذ العمل الذي يحاكمون عليه ليتم ردعهم باحكام مشددة ومبالغ مالية كبيرة كغرامات تفرض على ذويهم.”
فقد قدر إجمالي تلك الغرامات التي تفرضها المحاكم العسكرية على الاطفال دون سن الثامنة عشرة بمبلغ 660 ألف شيكل (189 الف دولار أمريكي) منذ بداية العام الجاري (2018) فحسب.
كما أن مرحلة التحقيق التي تسبق الادانة تشكل مرحلة انتهاكٍ كبير للطفولة بحيث يتم ترهيب الطفل وتكبيله واحتجازه لفتراتٍ طويلة دون زيارة محامي وبضغطٍ جسدي ونفسي. حتى إن بعض الاطفال شهدوا بحدوث تحرشاتٍ جنسية ولفظية، كما حدث في التصوير المسرب للتحقيق مع الطفلة عهد التميمي. وقد ورد ذلك في تقرير مؤسسة هيومن رايتس ووتش في تقريرها حول الأوضاع في الأراضي المحتلة لعام 2018 حيث اكد التقرير على ان “قوات الأمن الإسرائيلية اعتقلت الأطفال الفلسطينيين المشتبه بارتكابهم جرائم، تكون عادة إلقاء الحجارة، وغالباً ما استخدمت معهم القوة غير الضرورية، كما استجوبتهم دون حضور أحد أفراد أسرهم، وجعلتهم يوقعون اعترافاتٍ باللغة العبرية، لم يفهمها معظمهم. كما احتجز الجيش الإسرائيلي الأطفال الفلسطينيين بشكل منفصل عن البالغين أثناء جلسات المحاكمة الاحتياطية والمحاكمات العسكرية، ولكنه احتجز في كثير من الأحيان الأطفال مع البالغين بعد القبض عليهم مباشرة.”
وفي مقابلةٍ مع عددٍ من الاسرى الكبار وقيادات الحركة الاسيرة الفلسطينية المحررون فقد اكدوا ان الظروف التي يعيشها الاطفال في اقسام اعتقالهم طرأ عليها بعض التحسينات كالتعليم مثلاً، إلا أن ذلك لم يكن نابعاً من منطلقٍ إنساني من قبل سلطات الاحتلال. بل إن كل الامتيازات التي حصل عليها الاسرى عموماً والاطفال معهم هي نتيجة لنضالات ومطالبات الحركة الاسيرة التي خاضت اضرابات كثيرة عن الطعام واتخذت خطوات كثيرة لاجبار ادارة السجون ومن خلفها الحكومة الاسرائيلية على احداث أي تغيرات ايجابية. ومع ذلك، تحاول إدارة السجون دوماً اختلاق الأعذار لاعادة سلب هذه المكتسبات من الاسرى عند اول فرصة تتاح لها.
وفي اطار سياسة تجميل صورتها المحلية والعالمية، ادعت اسرائيل مراعاة قوانين حقوق الإنسان، بقولها انها تحتجز الاطفال ضمن ظروفٍ مقبولة انسانياً واخلاقياً مستغلةً بعض الحقائق المنقوصة التي تصف حالة السجون كما حدث مع الاسيرة الطفلة عهد التميمي حيث روجت الدعاية الاسرائيلية لتصريحاتها عندما وصفت واقع الحال في السجون بانه ترفيهي ومرح مع زميلاتها من الأسرى. فقد عرضت الحكومة هذه التصريحات وزعمت أنها تنطبق على جميع الأسرى، بل ادعت أيضاً أن لا وجود للتعذيب الجسدي والنفسي في السجون. ومع ذلك، نفسى الأسرى هذه الإدعاءات، كما أكد لنا الطفل الاسير فادي وشحة بمقابلة اجرتها Fanack حيث يقول “كان يتم عقابنا جماعياً اذا اردنا اللعب ولم يعجب ذلك السجان، فيقوم بقطع الكهرباء عن القسم او يتم اغلاق الغرف علينا وحرماننا من فترة التنزه الصباحية.”
ورغم كل ما يتم الترويج له لاضفاء معاملةٍ إنسانية بحق الاطفال الاسرى، إلا أن واقعهم ومراقبتهم بعد الافراج توضح بشكلٍ جلي الظروف المزرية التي عايشوها في المعتقل عبر الاثار النفسية والاجتماعية التي يعيشونها بعد التحرر لفقدانهم اي ارشاد نفسي مجتمعي داخل الاسر وابقائهم في دوامة مستمرة من الاستنفار والتوتر الداخلي بسبب الاجراءات الممنهجة المتبعة بحقهم لتحطيم ذاتهم بعد قضاء فترة الاعتقال.