وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

في الدلالات السياسية لحرب يونيو

حرب يونيو أدت إلى حصول نقلة كبيرة في السياسة العربية، حيث انتقل الحديث إلى مستوى الصراع على حدود إسرائيل.

الدلالات السياسية لحرب يونيو
متطرفون يهود يصلّون يوم 9 يونيو 1967 على جدار البراق/ حائط المبكى في القدس. المصدر: AFP.

ماجد كيالي

شكلت الهزيمة المتحققة للعرب في حرب يونيو 1967 صدمةً هائلةً وغير متوقعة في البيئة السياسية الرسمية والشعبية العربية. واستطاعت حينذاك إسرائيل توجيه ضربة قوية لجيوش مصر وسوريا والأردن بأيام معدودات. وكانت النتيجة احتلال إسرائيل باقي أراضي فلسطين (الضفة والقطاع)، ومعها سيناء المصرية والجولان السورية.

ولعلّ ما زاد من هول تلك الصدمة أن الهزيمة لم تكن هذه المرّة من نصيب أنظمة رجعية أو بالية، على ما جرى تصنيفه بشأن نكبة 1948. وكانت هذه الهزيمة من نصيب نظامين يمثلان حركة التحرر الوطني والقومية العربية (مصر وسوريا). ولعلّنا نخصّ بالذكر في هذا المقام نظام الرئيس الراحل جمال عبد الناصر. وكما هو معروف، فإن عبد الناصر كان يتمتع بزعامة كاريزمية علقت عليها جماهير الوطن العربي جل آمالها بالتحرير والوحدة والتقدم.

حرب يونيو مثّلت انعطافة حادة بين زمنين سياسيين، لدى كلّ من العرب وإسرائيل وفي مجال الصراع بينهما. فهي كشفت العطب في النظام الرسمي العربي، على تباين توجهاته وخطاباته السياسية والاقتصادية والاجتماعية.

كما أنها أكدت أن هذا النظام، على اختلاف شعاراته ومقولاته وادعاءاته، من نسيج واحد. وكما هو معروف، فإنّ هذه الأنظمة تعمل على عزل الجماهير عن المشاركة بتقرير شؤونها ومستقبلها.

يضاف إلى ذلك إعلاء هذه الأنظمة لشأن السلطة على حساب الدولة ومؤسساتها. كما أنها تغلّب الدولة الأمنية على دولة المواطنين، بدعوى متطلبات أو ضرورات الصراع العربي-الإسرائيلي. وبطبيعة الحال، فقد كشفت هذه التوجهات عمّا تحمله الأنظمة العربية من نوايا للتجبّر إزاء الداخل، فضلاً عمّا تعانيه من عجزٍ وانكشاف إزاء الخارج.

وكما بات معروفاً، فإن النظام العربي السائد، على تبايناته، حاول التغطية على الهزيمة أو النكبة الثانية باعتبارها مجرد نكسة. وادعى هذا النظام العربي أن تلك الحرب لم تحقق أهدافها، على أساس أنها كانت تتوخى إسقاط الأنظمة العربية التحررية والتقدمية، وهو ما لم يحدث!

في تلك المرحلة، توافق النظام العربي على تعويض الهزيمة بإطلاق العنان للعمل الفدائي الفلسطيني من الأردن ولبنان وسوريا. وكان الهدف من ذلك تنفيس الاحتقان في الوضع العربي، والتقليل من شأن الهزيمة، التي لحقت بالواقع العربي، وبالأنظمة السائدة. وجاء ذلك في لحظة تاريخية تتطلب سد الفراغ الرسمي العربي، في مجال الصراع ضد إسرائيل.

ومع ذلك، فإن حرب يونيو أدت فيما أدت إليه إلى حصول نقلة كبيرة في السياسة العربية. وانتقل الحديث بعد الحرب من مستوى الصراع على وجود إسرائيل إلى مستوى الصراع على حدودها. كما بات النظام العربي يتحدث عن مواجهة العدوان الإسرائيلي عوضاً عن مواجهة المشروع الصهيوني.

في الجهة المقابلة، أي على صعيد إسرائيل، فقد أدت الحرب إلى توحيد فلسطين أو ما يسمى “أرض إسرائيل الكاملة“، بحسب المصطلحات الإسرائيلية. وفي هذه المرحلة، بات ثمة تطابق في الوعي الإسرائيلي بين دولة إسرائيل و”أرض إسرائيل”، وفق المفهوم التوراتي (“أرض الميعاد”).

والمقصود هنا مناطق الضفة الغربية. كما باتت القدس موحدة تحت السيادة الإسرائيلية، ما نتج عنه تطوراً كبيراً على مستوى الساحة السياسيّة الإسرائيلية. وبموجب هذا التطور، اقتربت الصهيونية الدينية أكثر فأكثر من الصهيونية القومية والعلمانية.

ونتيجة لحرب يونيو، بات يهود العالم ومواطنو إسرائيل اليهود ينظرون إليها كدولةٍ إقليمية قوية ورادعة وكحليفة للغرب. وامتد هذا التصوّر ليصبح انطباعاً راسخاً في عموم المنطقة وعلى مستوى العالم. كما لا يمكننا إغفال أن هذه الحرب حسّنت من الوضع الاقتصادي لإسرائيل بشكلٍ كبير.

ثمة لكل شيء نتيجة مناقضة. وأدى احتلال الضفة والقطاع إلى توحيد الأرض الفلسطينية والشعب الفلسطيني أيضاً. والتقى فلسطينيو 48 مع إخوانهم في الضفة والقطاع. كما توحّد مسار الهوية الوطنية الفلسطينية. كما أخلّت الحرب بالأكثرية اليهودية وأدت بمرور الزمن إلى ظهور ما بات يعرف بـ”القنبلة الديمغرافية“، التي باتت تهدد الطابع اليهودي لدولة إسرائيل.

وفي المحصلة، لم تستطع إسرائيل ضم الضفة والقطاع. كما أنها لم تستطع لفظ الأراضي، باستثناء وضع القدس الخاص وهضبة الجولان السورية. ويعود السبب في ذلك إلى ممانعة الفلسطينيين للاحتلال، ومقاومتهم العنيدة له. يضاف إلى ذلك تخوّف الإسرائيليين من التحول إلى أقلية، وتحول دولتهم إلى دولة “ثنائية القومية”.

فوق كلّ ذلك، وبنتيجة هذه الحرب، باتت إسرائيل تعرّف كدولة استعمارية، كونها احتلت أراضي بالقوة، وتسيطر على شعب آخر بوسائل القهر والقسر. كما باتت علامات الشك تطرح بشأن صدقية الديمقراطية الإسرائيلية.

وبدت هذه الديمقراطية بمثابة ديمقراطية لليهود وحدهم، في حين يجري التمييز بين السكان من غير اليهود. وبطبيعة الحال، فقد أثار هذا الأمر شبهة العنصرية بالنظام الإسرائيلي، الذي بات نظاماً استعمارياً وعنصرياً في آن معاً.

ومعلوم أنّ غياب الحسم في إسرائيل بشأن مصير الأراضي المحتلة (الضفة والقطاع)، خلق انشقاقاتٍ سياسية وفكرية عديدة بين اليمين واليسار الإسرائيلي. كما تنامت حالة الانشقاق بين مؤيدي التسوية أو الانسحاب من الأراضي المحتلة، وضمنهم أصحاب نظرية وحدانية شعب إسرائيل، من جهة، والقوميين المتطرفين، وضمنهم المستوطنين وأصحاب نظرية أرض إسرائيل الكاملة.

كل الحروب التي خاضتها إسرائيل بعد حرب 1967، جاءت لتؤكد على نتائج تلك الحرب. ولم تستطع إسرائيل التي هزمت العرب حينها أن تحوّل ذلك إلى انتصار ناجز من النواحي السياسية.

وبرغم ضعفهم وتشتت أحوالهم، فإنّ العرب لم يذعنوا لنتائج هذه الحرب تماماً. في المقابل، لم تتحوّل إسرائيل إلى ملاذ آمن لليهود، بقدر ما باتت تعرف بأنها المكان الذي يقتلون فيه أكثر من أي مكان آخر. وبطبيعة الحال، فإنّ ذلك يعود إلى سياسات إسرائيل التي باتت تشكّل عبئاً سياسياً وأخلاقياً على يهود العالم.

حرب يونيو وما تلاها أظهر مقاومة الشعب الفلسطيني للعالم. وتجلّت تلك المقاومة فيما قام به هذا الشعب من انتفاضات وبما أظهره من صمود في الحروب المتوالية على قطاع غزّة.

أما على الصعيد العالمي، فقد باتت إسرائيل تعرّف بأنها آخر ظاهرة استعمارية من القرن العشرين. وبدأت علامات الشك تطرح علانية بشأن صدقية ديمقراطيتها. كما باتت الشبهات تثار حول تحول إسرائيل إلى نظام أبارتهايد عنصري.

ورغم حرب 1967 وباقي الحروب بعدها، ظلت إسرائيل بمثابة دولة مصطنعة وغريبة ودخيلة وغير شرعية في منطقة الشرق الأوسط. كما أن هذه الدولة بقيت مصدر قلاقل وعدم استقرار في المنطقة، وكعبءٍ سياسي وأمني وأخلاقي على الغرب.

كلّ المؤشرات تؤكد أن آثار وتداعيات حرب يونيو ما زالت متواصلة ولم تنته بعد، لا بالنسبة للفلسطينيين ولا بالنسبة للإسرائيليين. ويبدو أن الصراع وكأنه متوقفٌ عند النقطة ذاتها، بالنسبة لكل الأطراف.

ملاحظة

الأفكار الواردة في هذه التدوينة هي آراء المدوّن الخاص بنا ولا تعبّر بالضرورة عن آراء أو وجهات نظر فنك أو مجلس تحريرها.