وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

سد النهضة وتداعيات نزاعات المياه

سد النهضة
مزارع يسير في حقل بقرية كفر الدوار شمال دلتا النيل، مصر. محمد الشاهد/ وكالة فرانس برس

علي نور الدين 

تمكّنت أثيوبيا في 20 شباط/فبراير الماضي من تحقيق قفزة إضافيّة في مسار مشروع سد النهضة الواقع ضمن أراضيها، مع إعلانها تدشين المرحلة الأولى من مشروع إنتاج الكهرباء من هذا السد، بعدما بدأت منذ عامين بملء السد تدريجيًّا من مياه نهر النيل. وكما كان متوقعًا، أثارت الخطوة استياء السودان، الجارة الشماليّة الغربيّة لأثيوبيا، التي يمرّ بها نهر النيل بعد عبوره بالأراضي الأثيوبيّة.

فالحكومة السودانيّة اعتبرت هذا الإعلان “خطوة أحاديّة”، لا تأخذ بعين الاعتبار ضرورة “إبرام اتفاق قانوني ملزم” بين أثيوبيا والسودان ومصر، لتنظيم عمليّة ملء السد وإدارته وتشغيله. أمّا مصر، جارة السودان الشماليّة التي يمر بها النهر بعد عبوره السودان، فاختارت الذهاب نحو تصعيد أقسى، من خلال توجيه رسالة إلى مجلس الأمن اعتبرت فيها الخطوة الأثيوبيّة “انتهاك للقانون الدولي”، محذّرةً من الآثار السلبيّة المباشرة التي ستطال “حقوق مصر ومصالحها كدولة مشاطئة” في نهر النيل.

وبذلك، أجّج الإعلان الأثيوبي الأخير السجال بين مصر والسودان من جهة، وأثيوبيا من جهة أخرى، حول السد وآثاره على كل من السودان ومصر، وتحديدًا من جهة إمكانيّة تقلّص حجم المياه التي سترد إلى الدولتين من نهر النيل بعد بناء السد، وخلال فترة ملئه.

مع الإشارة إلى أن مصر بالتحديد ستكون الدولة الأكثر تضرّرًا من أي تقلّص في منسوب مياه النيل، لكونها دولة المصب الأخير التي ستنخفض قدرتها على سحب حصّتها من مياه النهر في نهاية مساره، بعد استنزاف مياهه، فيما سيكون السودان قادرًا على سحب جزء كبير من حصّته قبل بلوغ النهر الأراضي المصريّة. وهذه المسألة بالذات هي ما يفسّر تشدد وتشنّج الموقف المصري إزاء سد النهضة طوال السنوات الماضية، مقارنةً مع الموقف السوداني الأقل حدّة، ولو أنّ الدولتين اشتركتا في رفض أسلوب أثيوبيا في التعاطي مع هذا الملف.

على أي حال، لم يكن السجال الأخير حول السد مسألة استجدّت بعد تدشين المرحلة الأولى من إنتاج الكهرباء من السد. فمنذ شروع أثيوبيا ببناء السد عام 2011، تحوّل المشروع إلى نقطة خلاف بين أثيوبيا وجارتيها الشماليّتين مصر والسودان، ومنذ ذلك الوقت فشلت جميع المفاوضات التي استهدفت التوصّل إلى آليّة مرضية للأطراف الثلاثة لإدارة السد.

ورغم توقيع الدول الثلاث “إعلان مبادئ” حول هذه المسألة بالتحديد عام 2015، في قمّة ثلاثيّة حضرها قادة الدول الثلاث في مدينة الخرطوم، لم تتمكّن هذه الدول من ترجمة هذا الإعلان في أي خطوات ملموسة تستهدف التفاهم على طريقة إدارة مشروع سد النهضة. مع العلم أن مبادىء الإعلان انحصرت بأفكار عامّة بدون أي آليّات تطبيقيّة، من قبيل الحديث عن التفاهم المشترك وحسن النوايا واستخدام الموارد المائيّة بشكل منصف ومناسب.

ومع بدء أثيوبيا ملء السد في يوليو/تمّوز 2020، بعد إنجاز الغالبيّة الساحقة من عمليّات البناء، تصاعدت احتجاجات كل من مصر والسودان، دون أن تبدي أثيوبيا الكثير من الاستعداد لمراجعة مخططاتها بالنسبة إلى طريقة إدارة المشروع. فحتّى اللحظة، مازالت أثيوبيا ترفض بشكل صارم مطالبات مصر بإشراكها في عمليّة إدارة السد، وبصياغة إطار قانوني يحدد طريقة تشغيله، كما ترفض وضع فتحات إضافيّة في السد تكفل تدفّق أكبر لمياه النيل باتجاه السودان ومصر.

في الوقت نفسه، لم تبدِ أثيوبيا أي تجاوب مع مطلب مصر بالالتزام بضخ 40 مليار متر مكعّب من المياه سنويًّا من السد، على اعتبار أن ذلك سيبطئ عمليّة ملء السد. أمّا السودان، فمازالت ترفع في المقابل مطالب تتمحور حول ضرورة التزام أثيوبيا بجداول زمنيّة تحدد كميّات المياه المحتجزة، ومواعيد ملء السد السنويّة، بالإضافة إلى تحديد آليّات واضحة لمعالجة النزاعات المتعلّقة بالسد في المستقبل.

بمعزل عن كل هذه المطالب، سارت أثيوبيا في مشروعها الطموح وأنجزت السد، على مساحة تتجاوز ال1800 كلم2، وبارتفاع تجاوز ال170 مترًا، ما يجعله السد الأكبر في أفريقيا. وفي المحصّلة، ستتمكّن أثيوبيا من خلال السد من إنتاج ما يقارب ال6000 ميغاواط من الكهرباء، والتي يمكن تصدير نحو 2000 ميغاواط منها إلى دول الجوار، وهو ما سيجلها الدولة الأولى في قارّة أفريقيا من جهة صادرات الطاقة الكهربائيّة. وهذه النتائج الكبيرة المتوقّعة من المشروع، جاءت بكلفة إجماليّة تخطّت ال4.7 مليار دولار أميركي، ما يجعله أحد أكبر المشروعات الاستراتيجيّة التي تقوم بها أثيوبيا في تاريخها.

باختصار، تفسّر كل هذه المخططات الكبيرة تعنّت أثيوبيا في ما يخص مشروعها الكبير، بمعزل عن التداعيات القاسية المتوقعة منها على المستوى الإنساني، وبمعزل عن كل التصعيد الذي قامت به مصر مؤخّرًا في وجه المشروع. أمّا التداعيات القاسية، فستنتج تحديدًا عن تراجع منسوب مياه النيل المتدفق إلى كل من مصر والسودان بعد بناء السد، نتيجة حبس أثيوبيا لمياه النهر لملء السد خلال السنوات القادمة، ونتيجة تجميع المياه في السد بعد كل موسم من مواسم الأمطار لاحقًا.

تداعيات إنسانيّة في السودان ومصر

في الوقت الذي يدور فيه السجال السياسي بين أثيوبيا ومصر والسودان حول سد النهضة وطريقة ملئه وإدارته، بدأت الدراسات العلميّة بتفصيل الآثار الإنسانيّة المتوقّعة للسد على مجتمعات مصر والسودان، وتحديدًا من ناحية آثار تقليص حصّتيهما من مياه نهر النيل بعد بناء السد. فمن الناحية العمليّة، لا تتجاوز حصّة الفرد من المياه في السودان حدود ال787.5 متر مكعّب سنويًّا، فيما لا تتجاوز هذه الحصّة حدود ال660 متر مكعّب سنويًّا في مصر، ما يعني أن حصّة الفرد من المياه في كل من مصر والسودان تقل أساسًا عن الحد الأدنى المطلوب بحسب الأمم المتحدة (1000 متر مكعّب في السنة).

ولهذا السبب، ووفقًا لهذه الأرقام، من الأكيد أن الدولتين تعانيان من الشح المائي حتّى قبل إنشاء السد، نتيجة الاكتظاظ السكاني وتزايد عدد السكّان السريع وعدم توفّر سبل تخزين مياه الأمطار وغيرها من العوامل. وبينما تعتمد السودان على نهر النيل لتأمين 73% من حاجتها للمياه العذبة، ترتفع هذه النسبة في مصر لتتجاوز حدود ال97%.

باختصار، وقبل إنشاء سد النهضة، كان لدى كل من مصر والسودان ما يكفي من أزمات الأمن المائي، فيما من المتوقّع أن تتزايد هذه الأزمات نتيجة الزيادة السكانيّة المتوقّعة في الدولتين. إذ من المرتقب أن يرتفع عدد السكّان في مصر من 78.68 مليون نسمة عام 2010، إلى أكثر من 95.9 مليون نسمة في العام 2025، فيما من المتوقّع أن يرتفع عدد السكّان في السودان من 41.7 مليون نسمة عام 2010 إلى أكثر من 54.3 مليون نسمة خلال العام 2025. وبالتوازي مع ارتفاع عدد السكان، وفي ظل محدوديّة مخزون المياه المتوفّر في كل من الدولتين، من الطبيعي أن ترتفع معدلات الشح المائي، المرتبطة بدورها بأزمات ري المساحات الزراعيّة والأمن الغذائي.

هكذا، يأتي سد النهضة في أثيوبيا في ظل مشهد سوداوي أساسًا على مستوى أزمات المياه في كل من السودان ومصر، فيما من المتوقّع أن تتعمّق هذه الأزمات في الدولتين نتيجة تناقص كميّات المياه الواردة إليهما عبر نهر النيل، بعد بناء سد النهضة. فكميّة المياه التي يفترض أن تفقدها مصر والسودان نتيجة بناء السد، وجرّاء عمليّة ملئه، ستتراوح بين 14 و24 مليار متر مكعّب خلال السنوات الثلاث المقبلة، فيما ستخسر الدولتان كميّات إضافيّة من المياه نتيجة تسرّب المياه المتوقّع من أرضيّة السد. كما من المتوقّع أن تزداد نسبة المياه المتبخّرة نتيجة تخزينها في السد بنسبة 5.9%، وهو ما سيؤدّي في النتيجة إلى زيادة ملوحة مياه نهر النيل، وتقليل عذوبيّتها المطلوبة لري المزروعات في الدولتين.

لهذا السبب، وكنتيجة لتراجع كميات المياه المتدفقة إلى مصر والسودان خلال فترة ملء السد، تشير الدراسات إلى انخفاض متوقّع في مساحات الأرض المزروعة في مصر بنسبة 29.47% في منطقة صعيد مصر، وبنسبة 23.03% في منطقة دلتا النيل في مصر، وهو ما سيعني تحوّل أزمة الأمن المائي إلى أزمة أمن غذائي في دولة تعاني أساسًا لتأمين حاجات سكّانها الغذائيّة. وفي الوقت نفسه، وكنتيجة لتراجع منسوب مياه النيل في مصر، من المتوقّع أن تخسر بحيرة ناصر ما يقارب العشر أمتار من مستوى مياهها، وهو ما سيؤدّي تلقائيًّا إلى خسارة نسبة تتراوح بين 20% و40% من كميات الطاقة التي يولّدها سد البحيرة.

في خلاصة الأمر، ستكون الآثار الإنسانيّة لأزمة المياه القادمة في مصر والسودان مزيجا من نقص حصّة الفرد السنويّة من المياه، وارتفاع في أسعار الغذاء، وزيادة في الاعتماد على المنتجات الغذائيّة المستوردة، بالإضافة إلى زيادة في معدلات الهجرة من الريف إلى المدينة نتيجة ضمور القطاعات الزراعيّة.

كما من المرتقب أن تنعكس الأزمة في تراجع إمدادات الطاقة من السدود القائمة في الدولتين، وتدهور في نوعيّة الحياة الريفيّة وقدرة الأنشطة الزراعيّة على تأمين الاكتفاء الذاتي لسكّان الأرياف. أمّا تصحّر الأراضي الزراعيّة، نتيجة انخفاض منسوب المياه المتوفّر للري، فسيترك آثار استراتيجيّة على المدى البعيد، من ناحية قدرة السكّان على إعادة استصلاح الأراضي في المستقبل والعودة لممارسة الأنشطة الزراعيّة.

مع الإشارة إلى أن أرقام الدراسات تشير أيضًا إلى أن كل انخفاض في كميّة المياه الواردة إلى مصر بمقدار 4-5 مليار متر مكعّب، سيؤدّي تلقائيًّا إلى خسارة 12% من إنتاج البلاد الزراعي، وإلى تشريد أكثر من مليوني عائلة ريفيّة، أي ما يزيد عن العشر ملايين فرد. وهذه التداعيات الكارثيّة كفيلة بزيادة الفجوة الغذائيّة، أي نقص كميّات الغذاء المطلوبة لتأمين حاجة السكّان، من 55% من حاجة السكّان كما هي حاليًّا إلى أكثر من 75%. وفي الوقت نفسه، ستؤدّي زيادة ملوحة مياه النيل المتوقّعة إلى تراجع الثروة السمكيّة الموجودة في النهر، والتي تعتمد عليها مصر لتأمين جزء وازن من حاجاتها الغذائيّة.

في كل الحالات، ولفهم آثار نقص المياه في مصر الذي سينتج عن بناء سد النهضة في أثيوبيا، تكفي الإشارة إلى أن 80% من مياه النيل الواردة إلى مصر تذهب لري مزروعات البلاد، فيما يستوعب القطاع الزراعي وحده ربع القوّة العاملة الموجودة في مصر. بمعنى آخر، أي تراجع في كميّة المياه التي ترد إلى مصر، ستنعكس تلقائيًّا في معدلات البطالة ومستوى معيشة الأسر العاملة في القطاع الزراعي، وقدرتها على البقاء في الأرياف. مع العلم أن حجم العجز المائي السنوي في مصر، المقدّر خلال فترة ملء سد النهضة، يتجاوز ال43 مليار متر مكعّب، وهذا العجز كفيل بالتسبب بركود كبير في القطاع الزراعي تحديدًا.

آثار على العدالة الجندريّة

يستوعب القطاع الزراعي في كل مصر والسودان ملايين النساء اللواتي يعتمدن على هذا النشاط الاقتصادي لكسب الرزق، حيث تعاني النساء العاملات في هذا القطاع أساسًا من انخفاض الأجور وعدم حصولهن على استقرار وظيفي. ورغم أن النساء لا يمثّلن سوى أقليّة صغيرة من أصحاب الأراضي الزراعيّة، مازال القطاع الزراعي في الأرياف يمثّل أحد أبواب انخراط النساء في النشاط الاقتصادي في البلدين، وهو ما يسمح لهن بالمشاركة في تأمين مداخيل عائلاتهن.

مع العلم أن الإحصاءات تشير إلى أن 42.8% من النساء العاملات في مصر يعملن في القطاع الزراعي بالتحديد، ما يعني أن أي ضمور في النشاط الزراعي في البلاد سينعكس تلقائيًّا في مستوى انخراط المرأة المصريّة في النشاط الاقتصادي في البلاد.

لكل هذه الأسباب، من المرتقب أن تترك أزمة شح المياه، وما سينتج عنها من تراجع في النشاط الزراعي، أثر كبير على فرص العمل المتاحة أمام المرأة المصريّة، وعلى قدرتها على المساهمة في الاقتصاد المحلّي. وإذا أخذنا بعين الاعتبار التقديرات التي تشير إلى أن ملايين العائلات المصريّة والسودانيّة الريفيّة ستتأثّر بنقص المياه، فمن الأكيد أن أزمة المياه ستعني إخراج نسبة كبيرة من النساء في البلدين من سوق العمل دون وجود قطاعات اقتصاديّة بديلة قادرة على استيعابهن.

مع الإشارة إلى أنّ تركّز عمل النساء في النشاط الزراعي بالتحديد، سيجعلهن أيضًا أكثر عرضة لزيادة التلوّث والملوحة المتوقّعة في مياه النيل، نتيجة ارتفاع معدلات التبخّر الناتج عن تجمّع المياه في سد النهضة، وتراجع منسوب مياه النهر في السودان ومصر.

في النتيجة، بات سد النهضة أمرًا واقعًا بعد أن أنجزت أثيوبيا بناءه، وباشرت عمليّة ملئه بعيدًا عن أي تفاهم مسبق مع دول المصب، أي مصر والسودان. ولذلك، بات على العالم أن يكتفي بترقّب النتائج الإنسانيّة لتراجع منسوب مياه النهر في دول المصب، سواء من ناحية الأمن الغذائي والمائي، أو من ناحية ارتفاع معدلات النزوح والبطالة وتراجع معدلات انخراط المرأة في النشاط الاقتصادي. أمّا المسألة الأكيدة، فهي أن العالم بات بحاجة إلى آليّات دوليّة كفيلة بتنظيم خلافات الدول على مصادر المياه، خصوصًا أن أزمة سد النهضة وعجز الدول الثلاث عن الوصول إلى تفاهم عادل مسألة قابلة للتكرار في أي منطقة من العالم، في ظل تزايد معدلات شح المياه الناتجة عن ظواهر التغيّر المناخي.