وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

صلاح الدين محمد: هاجس الفنان والناقد والموثِّق

نهض الناقد والباحث السوري صلاح الدين محمد بالحركة التشكيلية السورية لتصبح دعامةً أساسية في حركة الفن التشكيلي العربي.

صلاح الدين محمد
صلاح الدين محمد

يوسف م. شرقاوي

استطاع الناقد والباحث السوري صلاح الدين محمد (1949 – 2016) أن يحفر عميقاً في تربة الفن التشكيلي والتاريخ وجذور الحضارة السورية.

وبدأ صلاح الدين محمد حياته كفنان طليعيّ جاد في سوريا. منذ البدايات، بحث عن مداخل وأبواب جديدة للحداثة النقدية، تقوم على طريقة المقاربات الهندسية. وتمكّن من جعل تخصصه الجامعي، هندسة العمارة، مدخلاً ومنطلقاً لقراءاته ودراساته النقدية التشكيلية.

ونهض بالحركة التشكيلية السورية لتصبح دعامةً أساسية في حركة الفن التشكيلي العربي. ولم يمر وقتٌ طويل حتى صار معروفاً بوصفه “مهندس عمارة اللوحة الفنية”.

الناقد فنان آخر

تمتّع صلاح الدين محمد بحساسية بصرية وروحية عالية. ووفّق بين موقفه كناقد وفنان، حيث لم ينظر إلى اللوحة نظرةً استقرائية تحليلية، بنائية.

ولم يبحث عن الإشكالية وحدها ليتحدث عنها، كما أنّ لوحاته التي كان يرسمها ويعرضها في بداياته شكّلت له المدخل إلى عالم الكتابة النقدية.

باستخدام كلماته، يمكن القول إنه لم يكن كعالِم النبات الذي يجزئ الزهرة ليكتب عنها، بل عرف أنّ أفضل من كتب عن الفنانين هو الفنان، ذلك لأنّ كتابته تدغدغ المشاعر وترضي الغرور وتُشعِر بقدسية الفن.

لذا، نراه منذ بداياته في منتصف السبعينات يتفاعل مع الكلمة المنسابة انسياباً موسيقياً، ربما لأنه آمن بقول الفنان الألماني بول كلي: “من يرسم ويكتب يجب أن يمتزج بالموسيقى”.

صلاح الدين محمد كان أول ناقد تشكيلي يراهن على مستقبل العديد من الفنانين السوريين، والنقد عنده عمل إبداعي خلّاق، فلم يلجأ للتقريرية أو الإنشائية.

ويمكن القول إنه لولا صلاح الدين محمد لكانت الصورة الثقافية للحركة التشكيلية السورية ضبابية. فهو أوّل من رسم صورتها على مدى أكثر من نصف قرن، ذلك بإنجازه أكثر من خمسة وأربعين فيلماً سينمائياً في برنامجه “الفن التشكيلي في سوريا”.

كما أنه قدّم الكثير من الكتب والمقالات التي نشرت في مجلة الفنون التشكيلية ومجلة التلفزيون والمجلة الثقافية، والأخيرة قد نشرت له حوالي ألف فقرة.

سار صلاح الدين محمد إذن على خطا الرسّام والمعماري الإيطالي جيورجيو فاساري الذي ذكره أكثر من مرة، وهو مَن سجّل تاريخ عصر النهضة الإيطالية كله.

الناقد مثقف موسوعي

يرى صلاح الدين محمد أنه لا يمكن فهم الفن إلا إذا فهم المرء التاريخ بجوانبه المختلفة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والأدبية والفكرية.

لذلك، قال: “حين أشاهد لوحة أبحث عن مدى تطابقها مع المرحلة المفترضة، فحين أشاهد لوحة استشراقية أبحث عن نقاط التطابق مع صور المكان في مراحل سابقة”.

انفتاح كتابات محمد النقدية التشكيلية على مختلف الفنون وطّد وعزّز تعبيرية نصه النقدي التشكيلي، فضلاً عن الطابع الموسوعي التي امتاز به. وبطبيعة الحال، فقد ساهم ذلك في إبراز دوره الريادي في بلورة الاتجاهات النقدية الحديثة.

بكلمات الناقد والفنان التشكيلي السوري أديب مخزوم، هذا التوثيق أو البلورة “يمكن أن تثمر في المستقبل بظهور جمهور عريض للفن التشكيلي، على غرار الفنون الأخرى.

عندئذ تتحول كل الأعمال التشكيلية إلى ظاهرة جدلية تواكب التطور التكنولوجي، وتشارك في تكوين الذوق العام. فالمعرفة الجمالية المعاصرة، المقروءة في بحوثه وأفلامه وبرامجه (أي صلاح الدين)، تشكّل منطلق الإحساس والتذوق وعصب ثقافة العين والروح، والمدخل الحقيقي لتنمية الحساسية الفنية البصرية لدى الجمهور.

هذا إلى جانب اهتمامه بمحاولات اختراق حاجز الاتجاهات التربوية الفنية الراكدة من مفهومها الكلاسيكي، إلى مفهوم عصري متقدم يمكن من خلاله للمشاهد أن يقرأ ويعيش داخل العمل الفني، ويكتشف جمالياته عبر لغة شاعرية وواضحة وقريبة من عواطفه وأحلامه. فالمتلقّي هنا ينفعل داخلياً مع النص، ويصبح أكثر تفهماً للعمل الذي يجذبه ويثير انتباهه”.

يمكن لمس أثر ذلك منذ البدايات، أي منذ استطاع صلاح الدين محمد مع رفاقه أن يطغوا على الصورة العامة، إذ كتبت الصحافة حينها “ألا يوجد في حلب غير الفن التشكيلي؟”

هاجس الناقد كمؤرِّخ وموثِّق

لم يدخل صلاح الدين محمد عالم الشرق بشكلٍ مفتعل أو متكلف، بل حاول استعادة الطابع السحري لأجواء التراث العربي بطريقته الخاصة.

وانطلق هذا الفنان السوري في رحاب التاريخ الحضاري، موضحاً التأثيرات التي تركتها الحضارة العربية على معطيات الحضارة الغربية. كما حاول تأصيل عناصر ظهور نهضة تشكيلية عربية جديدة مغايرة لطروحات الثقافة الأوروبية المعاصرة.

حاول صلاح الدين محمد أن يكون في طريقة عمله عينياً، وفي طريقة بحثه مادياً لا نظرياً. ونتبين ذلك بقوله عن مراحل بحثه الثلاث:

“ففي المرحلة الأولى، ولسنين عديدة، جمعت المعلومات من الكتب أو ميدانياً من خلال الأسفار، من أستونيا إلى جورجيا، ومن موسكو إلى باريس، ومن تونس إلى الكويت، ومن القاهرة إلى فيينا، ومن إستانبول إلى برلين وروما. لقد أردت أن أطلع على المتاحف وعلى المجموعات الخاصة وعلى كل ما قد يساهم في توسيع دائرة اطلاعي.

وفي المرحلة الثانية التي أتت موازية مع الأولى، جمعت آلاف الصور والشرائح الضوئية “السلايدات” والخرائط القديمة وأعمال الجرافيك النادرة. وقد كان طموحي أن أحصر المعطيات والموجودات لكل ما يتعلق بوطننا العربي.

وكانت المرحلة الثالثة التي أتت موازية للأولى والثانية هي القيام بتحليل مقارن للحضارة العربية مع الحضارات الأخرى. وقد وظفت القليل من ذلك في أعمالي، لاسيما في أفلام من قبيل “آفاق حضارية”، ومن “ديلمون إلى أوغاريت” و”الحضارة الإسلامية في سوريا”.

ومع اقتناعي أن تقديم الجديد أمر صعب جداً، علينا أن نفكر بالإضافة مهما كانت صغيرة، فالجديد تماماً أمر نسبي”.

كان هاجسه الدائم خلال جولاته المتحفية هو البحث عن جذور الحضارة السورية في تلك المتاحف.

وعلى ذلك، برز دور صلاح الدين محمد كموثِّق، حيث وثّق مقتنيات المتاحف العالمية الكبرى مثل اللوفر والأرميتاج وقصر الحمراء والمكتبة الوطنية في باريس، ومركز جورج بومبيدو وبعض متاحف بريطانيا وفيينا وروما (الفاتيكان ومتحف الفن الحديث) وفلورنسا والبندقية وميلانو وقرطبا وإشبيليا وصولاً إلى جورجيا.

وقام بزيارة متحف المتروبوليتان في نيويورك مرتين، ووثق محتوياته بعدسته بالكامل.

لقد وُجِد صلاح الدين محمد لسد الثغرات، فامتدت بحوثه إلى التصوير الجداري، منها دراسته “التشكيل السوري عبر التاريخ”.

وتضمنت تلك الدراسة كل لوحات التصوير الجداري في سوريا. كما وثّق الرسوم الموجودة على جدران بعض البيوت الدمشقية الهامة.

لكن، كما يقول صلاح الدين نفسه: “ليس بمقدر فردٍ واحد أن يعمل كلّ شيء، بل يسهم في إضافة بضع قطرات إلى بحر، بضع قطرات فقط”. إلا أنه استطاع خلال حياته، إلى رحيله سنة 2016، أن يسهم في بحرٍ كامل، لأنه، وبقوله “إنّ أصحاب الحضارات هم الأكثر حساسية تجاه حضاراتهم”.