وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

الهجمات على غزة تُسلط الضوء على نموذج التغيير المستجد

غزة
أشخاص يلوحون بالعلم الفلسطيني أثناء احتفالهم أمام أحد المباني المدمرة في مدينة غزة في وقتٍ مبكر من 21 مايو 2021، بعد وقف إطلاق النار الذي توسطت فيه مصر بين إسرائيل وحركة حماس في قطاع غزة.

نور عودة

خلال أحد عشر يوماً، حولت إسرائيل قطاع غزة المحاصر إلى “جحيمٍ على الأرض،” حيث سُوِّيت عشرات المباني والأبراج بالأرض بفعل القصف الإسرائيلي، ليسحق بعضها عائلاتٍ بأكملها إلى أن ارتقت أرواحٌ إلى بارئها أو على نحوٍ أدق محو خمس عشرة أسرة صغيرةٍ وكبيرة من السجلات المدنية بالكامل كحال المجزرة بحق عائلة الطناني و21 فرداً من عائلة الكولك، كما فرّت أسرٌ يتملّكها الرعب الشديد من منازلها ليبحث عشرات الآلاف منهم عن مأوى في مدارس وكالة غوث اللاجئين.

في غضون ذلك، احتج آلاف الفلسطينيين في جميع أنحاء فلسطين التاريخية، رافعين العلم الفلسطيني ومرددين شعاراتٍ تتغنى بالحرية في انسجامٍ لم يسبق له مثيل، في حين لجأت إسرائيل إلى قوتها العسكرية المفرطة وأطلقت العنان لعنفٍ وحشي ليصب عناصر الشرطة جام غضبهم ضد المتظاهرين العزل، إلى أن اتشحت البلاد بالسواد والجنازات والدموع وصرخات الألم.

استندت معظم تحليلات المجزرة الأخيرة إلى رسم خطٍ وهمي وافتراضي واستخدامه كفتيلٍ أشعل “التصعيد” الأخير. ومع ذلك، يعدّ هذا النهج التقليدي للتحليل سطحي ومضلل، فالواقع في فلسطين هو سلسلةٌ متصلة من الظلم والسلب والاضطهاد تمتد لما يقرب من قرنٍ من الزمان منذ بداية النكبة المستمرة منذ عام 1948.

بل إن أحداث الشهر الماضي والأشهر التالية القادمة ما هي إلا نتيجة لهذا الظلم المتراكم والمتعدد الأوجه.

فلم يكن هناك ما يبعث على الطمأنينة فيما يتعلق بـ”الهدوء” الذي كان سائداً قبل الأزمة، فلطالما كان الجمر مشتعلاً ويطفو على السطح.

تصاعدت التوترات على نحوٍ كبير خلال شهر رمضان المبارك، حيث يواجه الفلسطينيون قيوداً إسرائيلية صارمة في القدس حدّت من وصول آلاف الفلسطينيين إلى المدينة المقدسة وبشكل أكثر تحديداً إلى حرم المسجد الأقصى. وبالإضافة إلى الصعوبات الجمّة التي يواجهها الفلسطينيون من جميع أنحاء الضفة الغربية المحتلة بالوصول إلى القدس، حاولت سلطات الاحتلال الإسرائيلي أيضاً حرمان الفلسطينيين من تقليد التجمع عند باب العامود والصلاة في حرم المسجد الأقصى، بل إن موكب سبت النور لم يسلم من الوحشية الإسرائيلية، إذ قام ضباط الاحتلال الإسرائيلي بمعاملة المصلين والمارة بوحشية، مستخدمين القوة الضاربة التي تسببت في وقوع مئات الجرحى.

كانت هذه الوحشية تحدث بينما كانت منظمات المستوطنين الإسرائيليين تمضي قدماً في هدفها المعلن والمتمثل في هندسة القدس اجتماعياً، وتحديداً حي الشيخ جراح، من خلال طرد 28 عائلة فلسطينية من منازلهم باستخدام المحاكم الإسرائيلية. وليس من المستغرب أن تقلل الحكومة الإسرائيلية من شأن قضية الشيخ جراح واصفةً إياه بـ”النزاع العقاري” بين الفلسطينيين والإسرائيليين اليهود. تسبب هذا الموقف في مزيدٍ من الغضب بين الفلسطينيين والمنظمات الدولية، بما في ذلك الأمم المتحدة، التي شجبت التطهير العرقي الإسرائيلي الصامت للمدينة. وداخل إسرائيل، كان المواطنون الفلسطينيون يخوضون أيضاً نضالهم ضد السلب والعنصرية المؤسسية التي تلوح في الأفق، وعلاوةً على ذلك، كانت المنظمات اليمينية المرتبطة بحركة المستوطنين في الضفة الغربية المحتلة تعتدي أيضاً على الأحياء الفلسطينية، مما زاد من ترسيخ شعور الفلسطينيين الإسرائيليين بالقهر والحرمان من حقوقهم.

كان هذا برمته يحصل في خضم تطبيع العنصرية والتحريض ضد الفلسطينيين في الضفة الغربية المحتلة بما فيها القدس والداخل الفلسطيني. وفضلاً عن ذلك، كانت العصابات الغوغائية من المستوطنين تجوب شوارع القدس وهم يهتفون “الموت للعرب” في ظل حماية قوات الاحتلال لهم، بينما تعاملت بوحشية مفرطة مع الفلسطينيين المحتجين على هجمات الكراهية. فهذه الحشود نفسها طاردت الفلسطينيين الإسرائيليين في اللد وعكا ويافا بعد أيامٍ فقط وبتواطؤٍ صريح من الشرطة الإسرائيلية.

وفي حين أن ملامح الواقع في قطاع غزة المحاصر قد تختلف عما هي عليه في باقي الأراضي الفلسطينية المحتلة، بيد أن الأحداث في القدس استفزت الفلسطينيين في غزة الذين تحتل القدس في قلوبهم مكانة دينية وقومية عظيمة لا يمكن المساس بها. فقد جاء الهجوم على المدينة ومقدساتها في وقتٍ تصاعد فيه الإحساس بالخذلان وسط التطبيع العربي، إذ جاءت هذه الظروف أيضاً وسط نكسةٍ داخلية وذلك بعد قيام الرئيس الفلسطيني بتأجيل انتخابات المجلس التشريعي إلى أجلٍ غير مسمى وبقرارٍ أحادي الجانب، مما بدد أي آمالٍ في التغيير المنشود في السياسة الفلسطينية.

وعليه، اكتملت أركان عاصفة الغضب الفلسطينية، فقد شكّل النظام الاستعماري الإسرائيلي القائم على القمع والسلب والحصار، إلى جانب غطرسته في استعراض القوة، والفشل الدولي المطلق، وتأزم السياسة الداخلية الفلسطينية، الشرارات التي أشعلت فتيل الغضب في المنطقة موقدةً حلقةً جديدة من العذاب والمعاناة والخسارة.

جميع هذه الأحداث ما هي إلا دلالاتٌ على النكبة الفلسطينية المستمرة والنظام الاستعماري الإسرائيلي المتواصل، الذي تتفق اليوم الجماعات الإسرائيلية والدولية على حد سواء أنه نظام تفرقة عنصري. كما أنها تذكير قاسٍ بفشل ما يسمى بالنظام العالمي القائم على القواعد، والذي يؤكد مراراً وتكراراً أن أفعال إسرائيل غير قانونية، بيد أنه يفشل بشكلٍ متعمد في تحميلها المسؤولية ويفضل إدارة هذا الصراع الراسخ بدلاً من حله.

كان هذا واضحاً في الدبلوماسية الدولية الصماء وبطيئة الحركة التي تواصل خذلان الفلسطينيين، والتي كان لا بد للرأي العام من أن يمارس ضغوطه عليها للتوسط في وقفٍ لإطلاق النار بعد مضي أحد عشر يوماً على المجزرة الإسرائيلية. ففي عالم سياسي وزعماء العالم، يُعامل المستعمِر والمُستَعمَر على قدم المساواة، إذ يُلقى باللوم على الفلسطينيين لمعاناتهم بينما تنعم إسرائيل بالدلال والحماية، حيث تتمحور مصالحهم حول عودة “الهدوء،” الأمر الذي لا ينطبق في هذه الحالة على الفلسطينيين الذين سيواصلون حياتهم تحت وطأة الاحتلال في صمتٍ تقشعر له الأبدان.

بيد أن هناك عالم موازٍ مناهض للمؤسسة سئم من الصيغ الاستعمارية التي تتجاهل حياة الفلسطينيين وتجرّد الأصوات الفلسطينية من إنسانيتها أو تمحوها بالمجمل. وبينما ينفض السياسيون ممن “شاب شعرهم” الغبار عن الصيغ القديمة والفاشلة ويعدلونها من أجل “حل” النزاع، يواصل عشرات الآلاف من المواطنين حول العالم التنظيم والتعبئة للتعبير عن اشمئزازهم المطلق من الوضع الراهن المتمثل في نزع ملكيات الفلسطينيين وقمعهم وقتلهم.

يتجلى هذا النموذج المتغير بشكلٍ أكثر وضوحاً في الولايات المتحدة، حيث أعرب بعض أعضاء الكونغرس التقدميين وبعض أعضاء الكونغرس الرئيسيين بوضوح غير مسبوق عن دعمهم للحقوق الفلسطينية ومعارضة السياسات الإسرائيلية، بل حتى أن الصحفيين والممثلين الكوميديين من التيار السائد تجرأوا على التلفظ بكلمة فصلٍ عنصري والتحدث عن حق الشعب الفلسطيني في الوجود. وبينما تقيد منصات التواصل الاجتماعي وتفرض الرقابة على المحتوى الفلسطيني، نشر موظفو جوجل رسالةً يطالبون فيها شركتهم باتخاذ موقف واضح ضد الهجوم الإسرائيلي.

اليوم، بات الحديث عن فلسطين ينطوي على زخمٍ متسارع الوتيرة بما يتجاوز إدراك النقاد، إذ لم يعد خطاب “كلا الجانبين” والمساواة الزائفة الخيار الوحيد المتاح. فبالنسبة للفلسطينيين، يعدّ تعزيز مناخ التضامن الناشئ وتقوية أواصر الإنسانية المشتركة هذه الخيار الوحيد الممكن لضمان ألا يتوقف وقف إطلاق النار عند منح إسرائيل الهدوء الذي تريده. وعليه، تقدم هذه التطورات للفلسطينيين فرصةً لتحدي النظام الدولي الذي لطالما خذلهم وفي نهاية المطاف، لجعل النظام الاستعماري الإسرائيلي مُكلفاً. ستؤمن مثل هذه التعبئة إعادة الإعمار التي تمس الحاجة إليها في غزة، ولكن من الناحية الاستراتيجية، ستقرّب الفلسطينيين أكثر فأكثر من تحقيق حريتهم التي لطالما سعوا إليها.