وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

وثائق شرطة “الدولة الإسلامية” تكشف تفاصيل الحياة اليومية في دولة الخلافة

شرطة الدولة الإسلامية
صورة تم التقاطها يوم ١٨ مارس ٢٠٢١ لنساء وأطفال سوريين وهم يجلسون بالقرب من ممتلكاتهم بانتظار ترحيلهم من معسكر الهول الموجود في محافظة الحسكة شمال شرق سوريا. وشهد ذلك اليوم الإفراج عن مجموعة جديدة من العائلات السورية من المعسكر الذي يديره الأكراد ويتواجد فيه أقرباء لأشخاص مشتبه بانتمائهم لتنظيم “الدولة الإسلامية”. المصدر: Delil SOULEIMAN / AFP.

 

بياتريس دي خراف: أستاذة التاريخ والعلاقات الدولية، جامعة أوتريخت.

أحمد يايلا: أستاذ مساعد ومدير مركز دراسات الأمن الداخلي بجامعة ديسيلس.

 

ليس من المعتاد أن تتهاوى الأنظمة لتترك وراءها وثائق دفينة للأجيال التي تليها. فهذا ما حدث ذلك في ألمانيا إبان حقبة الرايخ الثالث النازي وحقبة جمهورية ألمانيا الشرقية. والآن نجد إلى حد ما بعض الدلائل المماثلة التي تكشف عن الحياة في ظل حكم تنظيم “الدولة الإسلامية”.

وإن كانت الشبكة الإرهابية ما تزال موجودة ببعض خلاياها النشطة في الشرق الأوسط وآسيا وإفريقيا، لكنها تعمل باعتبارها منظمات إرهابية “منتظمة” ولا تسيطر على مناطق بعينها مثلما كان الحال سابقاً مع الخلافة في “تنظيمها شبه الدولتي” في الموصل والرقة وما حولهما.

بيد أن مختلف مؤسسات “الخلافة” وأسلحتها البيروقراطية وسياساتها يُعاد بناؤها وتحليلها في هذه الفترة ضمن مشروع وثائق الدولة الإسلامية الذي يديره برنامج عن التطرف في جامعة جورج واشنطن. وقد طُلب منا النظر في وثائق شرطة الخلافة “العادية” المستعادة لنرى كيف تبين لنا هذه الوثائق طرق عمل الخلافة على أرض الواقع، لا سيما في تفاعلها مع سكان المنطقة.

وللإجابة على هذا السؤال؛ استخدمنا مفهوم “حوكمة المتمردين” والذي يعني: ممارسات الفاعلين من غير الدول للحكم أو تطبيقاتهم الجوهرية والعرضية للحكم الإداري تجاه مجموعات وسكان منطقة محددة التي تؤدي إلى سيادة واقعية وسلطة عامة.

وباختصار، فقد تم استخدم تنظيم “الدولة الإسلامية” جهاز الشرطة الخاص به لخلق حالة من الدعم بين رعايا الخلافة وذلك عبر توفير درجة من الأمن والنظام العام.

قد يبدو هذا غير متوقع؛ فتنظيم “الدولة الإسلامية” أدار نظام إرهاب وإكراه مطلق وأعمالاً وحشية غير محدودة كانت مطبقاً على أنفاس الناس. إلا أن قيادة تنظيم الدولة أعلنت وقبل إعلانها الخلافة “وثيقة المدينة” التي تُعتبر نوعاً من العقد الاجتماعي، إذ توفر الخلافة “الأمن والأمان” لرعاياها “من دون فساد”.

وبالفعل، بدأت أقسام الشرطة عملها على الفور، وتم توظيف ما يزيد عن ثلاثة آلاف ضابط بمرتبات عالية جداً، ما منع الرشوة والفساد بشكل شبه تام.

وقد كان يُخشى من أدوات العدالة الأخرى في “الدولة الإسلامية” مثل الحسبة ونظام المحاكم نتيجة عقوباتهم الشديدة وممارساتهم التعذيب. وكذلك كان يُخشى من إدارة الأمن – المعنية بالأمور الأمنية الحساسة والمخابرات – داخلياً وخارجياً من تنظيم الهجمات الإرهابية.

لكن على النقيض من هذه الأعمال الإرهابية الفجة، نجحت الشرطة في خلق علاقة “فعالة” بل و”مثمرة” مع الجمهور؛ فقد وجدنا في وثائق الشرطة مئات الشكاوى المقدمة من العامة، كثيرٌ منها كان يتعلق بالقضايا المالية مثل: عدم سداد الديون، وعدم دفع الإيجارات أو الرواتب، واقتطاع المهور. لكنها اشتملت أيضا قضايا “أخلاقية” مثل: تدخين أبناء الجيران للسجائر أو لعب بعض الأقارب السكات (نوع من ألعاب الورق يستخدم للمقامرة). كما استدعى الآباء الشرطة لتقويم أبنائهم في حالات أساؤوا فيها التصرف مثل: حلق اللحية أو تفصيل الفساتين بمقاسات ضيقة.

إن هذا الكم الهائل من الشكاوى ومحتواها يضمر قدراً كبيراً من القبول والتعاون بل والشرعية التي منحها السكان للخلافة.

لكن الشرطة اعتمدت جزئياً على ما عُرف تاريخياً في ممارسات الدولة الشمولية “بدولة التجسس”، فالكتابات عن الرايخ الثالث تصف النظام بأنه معتمد على “الشجب”، أي “الاتصالات الفورية بين المواطنين والدولة التي تشمل دائماً اتهامات بارتكاب المواطنين أو الموظفين أخطاء واستدعاء ضمني أو صريح للعقاب”.

وضّح لنا عددٌ من الناس الذين قابلناهم لماذا كانوا على استعداد لقبول هذا الأمر. إذ قالوا إن الحياة في ظل نظام الأسد في سوريا أو فترة ما بعد صدام في العراق وقبل إعلان الخلافة (وغالبيتهم من المسلمين السنّة) كانت غير آمنة ولا مستقرة: “كان الجنود يجوبون الشوارع، وتتعرض بناتنا للاغتصاب بكل بساطة. وقد وفر لنا تنظيم الدولة الاستقرار بل ونوعاً من الأمان”.

وهذا بالطبع ما دام السكان ملتزمون بحكم تنظيم الدولة. فهذا الانصياع للحكم الذي كان دينياً وأخلاقياً إلى جانب كونه سياسياً وعسكرياً، كان على المدى القصير وفي سياق الحرب والفوضى أهون الشرّين. بل وفي بعض الأحيان كان مفيداً؛ إذ أصبح من السهل تسوية الديون والشكوى بفاعلية من الإيجارات والبدلات.

ومن المثير للاهتمام كذلك أننا استطعنا معرفة ما فعلته الشرطة بهذه الشكاوى؛ فمعظمها حُلّ بطريقة “سلمية”. إما عن طريق عمل مصالحة (ويتضمن ذلك شعائر دينية وقراءة لسورة من القرآن)، وإما عن طريق الغرامات المالية أو الإعذار والاعتذار.

أما بالنسبة بعض القضايا التي لم تكن الشرطة قادرة على حلها، فقد تمت إحالتها إلى القاضي والمحاكم. لكن في جميع الاحتمالات، لم يخاطر المتقاضون بتصعيد القضية إلى هذه السلطات خشية العقوبة الجسدية أو ما هو أسوأ. ويبدو أن الشرطة بسعيها لحلّ النزاعات “سلمياً” عن طريق المصالحة كانت صدى لممارسات محلية قديمة ظلت حتى الدولة العثمانية في إدارة النزاعات والعدالة الجزائية.

واستطاع تنظيم “الدولة الإسلامية” أن يوفر مظهراً من مظاهر الحكم والعدالة داخل حدود الخلافة. لكن ممارسات الشجب ظلّت تشير إلى انقسامات عميقة بين السكان. ويبقى السؤال المفتوح عمّا يقف وراء الشجب: أهو دافع أيديولوجي وديني أم وسيلة انتهازية لتصفية الحسابات وتلبية الاحتياجات المادية والشخصية وحلّ المشاحنات؟

إن النظر إلى الأدلة الوثائقية عن حياة الناس في ظل الخلافة يظهر حقيقتين: الأولى أنه في حالة غياب العدالة وسيادة القانون كانت شرطة “الدولة الإسلامية” قوة شرطية حديثة ومعقدة بل وفعالة. والثانية أن عملها بوصفها أداة لنظام حكم المتمردين الوحشي والمتطرف والقمعي أدى إلى ترسيخ أوتاد الانقسام و(الطائفية) في المجتمع.

ملاحظة

الآراء الواردة في هذا المقال تعبّر عن آراء الكاتب (الكتّاب)، وليس المقصود منها التعبير عن آراء أو وجهات نظر فَنَك أو مجلس تحريرها.

ملاحظة

تم نشر هذه المقالة في الأصل على موقع https://theconversation.com/au في 7  أيار 2021