غاليا غولان
لا يعدّ الفلسطينيون والإسرائيليون غرباء عن العنف، في واقع الأمر، يألف المواطنون الإسرائيليون، سواء كانوا فلسطينيين أو يهوداً، الحروب جيداً، بيد أن هذه المرة كانت الأمور مختلفة، ولربما لن تعود إلى سابق عهدها قط. فقد كان الهجوم العسكري مشابهاً للجولات السابقة، بالرغم من إطلاق وابلٍ أكبر من الصواريخ من غزة عما كانت عليه الأمور في الماضي، فضلاً عن عدم لجوء الجيش الإسرائيلي للاجتياح البري لغزة كما كان عليه الحال في عام 2014، آخر جولات الهجوم العسكري الاسرائيلي. ومجدداً، بمجرد التوصل إلى اتفاقٍ لوقف إطلاق النار بوساطة دولٍ أخرى، أدرك الجميع تقريباً- سواء كانوا من اليسار أم من اليمين- أن هذه لن تكون الجولة الأخيرة، إذ ستعاد الكرّة مرةً أخرى ولربما مراتٍ أخرى.
بعد كل ما قيل، بات المعظم يدركون أن هذه الجولة كانت مختلفةً بالفعل؛ في واقع الحال، ربما تكون قد شكلت نقطة تحولٍ وتغيير نوعي في الصراع الإسرائيلي الفلسطيني المستمر، إذ كان التغيير الحاسم هو توسع مدى نطاق الهجوم بالصواريخ ليصل إلى المجتمعات العرقية داخل إسرائيل، والاشتباكات الطائفية بين الإسرائيليين اليهود وفلسطيني الداخل الذين يعيشون، حرفياً، بجانب بعضهم البعض في البلدات والمدن الإسرائيلية أو في مكانٍ قريب. وإذا ما تفكّر المرء بالأمر، فسرعان ما سيدرك أن هناك تمييزاً واضحاً ضد فلسطيني الداخل الإسرائيلي، وأن المجموعتين العرقيتين تنحدران من نسل أعداء لدودين حاربوا بعضهم البعض في عام 1948 وما زالوا بعيون بعضهم البعض ألدّ الأعداء. ومجدداّ، إذا ما تفكّر المرء بالأمر لأدرك أيضاً أن التعليم وإنفاذ القانون وملكية الأراضي والعديد من جوانب الحياة الأخرى لا يتم التعامل معها على قدم المساواة من قبل دولة إسرائيل. فقد كانت التوترات قائمةً بالفعل في مدن مشتركة مثل اللد ويافا، كما أن إقرار قانون الدولة القومية لليهود لعام 2018 الذي منح الأفضلية لليهود الإسرائيليين على فلسطيني الداخل قد وفر أساساً بصبغةٍ رسمية لكثير من عدم المساواة القائمة.
ومع ذلك، مراراً وتكراراً، والحرب بعد الحرب – 1956 و1967 و1973 و1982 – ومنذ ذلك الحين، خاضت إسرائيل حروبها دون الحاجة إلى التعامل في الوقت نفسه مع السكان الفلسطينيين المحليين المتمردين. ومنذ قيام دولة إسرائيل في عام 1948، شارك جزءٌ فحسب من فلسطيني الداخل في إسرائيل في حادثة عنفٍ واحدة، الانتفاضة الثانية عام 2000، التي تم قمعها فوراً بإطلاق الشرطة النار على المتظاهرين الفلسطينيين. وبشكلٍ عام، يمكن لإسرائيل أن تشن هجمات عسكرية، وهو الأمر الذي فعلته بالفعل، وتتملكها الثقة إلى حدٍ ما بأن الـ20% من مواطنيها، أي الأقلية الفلسطينية، (بخلاف الفلسطينيين بأعدادهم الكبيرة القابعين تحت الاحتلال في الأراضي التي تم احتلالها من الأردن في حرب 1967)، سيلتزمون الهدوء.
بيد أن هذا لم يعد واقع الحال، ففي البلدات التي يتجاور فيها الإسرائيليون والفلسطينيون داخل إسرائيل، وذلك في المدن المختلطة مثل اللد وعكا وبلدية تل أبيب الإسرائيلية بشكلٍ أساسي ويافا الفلسطينية المجاورة، اعتدى الإسرائيليون وفلسطينيو الداخل على بعضهم البعض، وأشعلوا النيران في مركبات وأعمال بعضهم البعض التجارية، بل وصل بهم الحد إلى تنفيذ إعداماتٍ خارج نطاق القانون ومحاولات القتل. لم تكن حرباً أهلية شاملة، إلا أنها لم تكن أيضاً حادثة أو اثنتين فرديتين. وهذا بالضبط ما جعل جولة العنف هذه مختلفة، مما ينذر بمستقبلٍ مختلف تماماً للبلاد.
وهنا، قد يشير البعض إلى ظروفٍ استثنائية: مشاعر الكبت والإحباط بعد عامٍ ونصف من القيود الوبائية التي فرضت على الجميع، وتمتع مواطني إسرائيل الفلسطينيين المتعلمين تعليماً عالياً بمزيدٍ من الاستقلالية والثقة بالنفس، وغياب أي دلالة على التحرك نحو السلام مع الفلسطينيين في الأراضي المحتلة، والنضال المستمر في القدس الشرقية والتهجير القسري للعائلات الفلسطينية من منازلهم في حي الشيخ جراح وتوغلات المستوطنين، وتصرفات الشرطة عند مدخل البلدة القديمة في القدس الشرقية (عند باب العامود) مع اقتراب شهر رمضان من نهايته، وحتى التفسيرات الأكثر تشاؤماً للمناورات السياسية لرئيس الوزراء نتنياهو. وبقدر ما قد يبدو الأمر باعثاً على السخرية، بيد أن هناك مراقبون فسروا الأحداث على أنها محاولة من نتنياهو لتعطيل المفاوضات التي كانت تشهد تقدماً نحو تشكيل ائتلافٍ حكومي جديد، ليتم استبداله كرئيس للوزراء حتى أثناء محاكمته بتهمة الفساد واحتمالية سجنه. ومن الجدير بالذكر هنا أن إسرائيل أجرت مؤخراً انتخاباتها الرابعة خلال عامين ولم يتمكن نتنياهو مرةً أخرى من تشكيل ائتلاف، فقد منح الرئيس ريفلين التفويض بالفعل لزعيم المعارضة يائير لبيد، الذي بدا أنه في طريقه لتشكيل حكومة يسار- وسط، التي ربما كانت ستعتمد على حزبٍ عربي وباستبعادٍ لحزب الليكود بزعامة نتنياهو. ومع ذلك، في حين يمكن القول إن البعض، حتى نتنياهو نفسه، لربما رأى ميزةً برفع وتيرة التوترات من أجل البقاء في السلطة، كان صحيحاً أيضاً أن أجهزة الأمن الإسرائيلية، باستثناء جهاز الأمن الداخلي، الشاباك، لم تصدق أن حماس ستطلق الصواريخ على المدن الإسرائيلية مرةً أخرى في هذا الوقت، إذ لم يكن شن هجومٌ جديد متوقعاً أبداً.
كان هناك بالطبع العديد من التفسيرات والمحفزات والظروف المحتملة وراء الاقتتال العرقي الحاصل، فلربما تكون جميعها قد فاقمت المظالم التي كانت تتراكم عبر الأجيال، وتفجرت اليوم (غالباً بمساعدة المستوطنين الإسرائيليين الذين يدخلون من أماكن أخرى). فقد كانت هذه التوترات توشك أن تصل إلى حد اشتعال انتفاضة أخرى في الضفة الغربية المحتلة (التي لم تحدث) بسبب غياب أي بوادر انفراجٍ من الاحتلال. وكما لوحظ، كانت هناك خلافات في الرأي داخل الأجهزة الأمنية الإسرائيلية حول الإجراءات المتوقعة من حماس أو عناصر أخرى في غزة، ولكن بشكلٍ عام لم يكن الهجوم الصاروخي الذي شنته حماس على وسط وجنوب إسرائيل متوقعاً.
وهكذا، وعلى الرغم من التوترات الأساسية، على سبيل المثال، بسبب التأهيل الإسرائيلي للأحياء القديمة الذي انتهك حقوق السكن للفلسطينيين في يافا، لم يكن من المتوقع حدوث أعمال عنفٍ فعلية بين المواطنين الفلسطينيين والإسرائيليين داخل إسرائيل. وعلاوةً على ذلك، بمجرد اندلاع مثل هذا العنف، بدا أن الشرطة لم تفعل سوى القليل لتهدئة الأمور، فقد أدت الإجراءات البوليسية العنيفة إلى تأجيج النيران حيث تم اعتقال عدد من مواطني فلسطيني الداخل بشكلٍ أكبر بكثير من عدد الإسرائيليين الذين تم اعتقالهم بتهم العنف أو الإخلال بالسلام. وحتى عندما دعا القادة المحليون إلى الحفاظ على الهدوء، ظلت هناك إمكانية حقيقية لانتشار الجيش الإسرائيلي داخل النقاط الساخنة داخل إسرائيل.
من الصعب قياس الضرر طويل الأمد الناجم عن انهيار الهدوء المدني، فقد وجهت ضربة للتعايش الفلسطيني الإسرائيلي؛ الهشاشة التي انكشفت بوضوحٍ الآن. وعليه، لربما تكون جهود التعايش طويلة الأمد، خارج البلدات والأحياء المختلطة سريعة التأثر، قد تعرضت لأضرارٍ قاتلة. الجهود الأخيرة على اليسار لإنشاء حزب سياسي فلسطيني-إسرائيلي مشترك بالكامل أو لإنشاء ائتلاف حكومي يعتمد على دعم واحد أو أكثر من الأحزاب الفلسطينية بدت الآن للكثيرين، حتى داخل اليسار، مجرد أوهامٍ أو مهمة مستحيلة، وحتى غير مرغوب فيها. علاوةً على ذلك، فإن المزاعم العنصرية للعداء الفلسطيني المعادي للإسرائيليين، والتي روج لها اليمين اليهودي المتطرف بشكل متزايد في السنوات الأخيرة، أصبحت الآن تتمتع بصحة ظاهرية. ويبقى السؤال: هل تعرضت الثقة المتبادلة لأضرار لا يمكن إصلاحها، مما ينذر بمستقبلٍ حزين للاضطرابات الأهلية داخل إسرائيل؟
وفيما ما تزال هذه الأسئلة دون إجابة في الوقت الراهن، ما تزال إسرائيل أيضاً دون حكومةٍ جديدة، وما تزال إمكانية إجراء انتخاباتٍ خامسة في غضون عامين مطروحةً على الطاولة. حتى وإن نجح زعيم المعارضة لبيد في تشكيل حكومةٍ برفقة نفتالي بينيت من الجناح اليميني المتطرف، وهو واقع الأمر في الوقت الحالي، وحتى مع ضم وزير عربي من حزب ميرتس، وبدعم الحزب الإسلامي العربي، فليس من المؤكد على الإطلاق أن مثل هذا التحالف من يسار الوسط سيستمر.
في الوقت نفسه، قد تكون القوى الخارجية، وعلى الأخص الولايات المتحدة، على استعداد للمساعدة في الحفاظ على وقف إطلاق النار، لكن جميع الدلائل تشير إلى سياسة التنصل وعدم التدخل المباشر، وعدم وجود خطة سلام جديدة، وعدم الضغط على القيادة الإسرائيلية للدخول في مفاوضاتٍ حقيقية من أجل السلام. فمن السابق لأوانه التكهن بسياسات حكومة لابيد- بينيت، ولكن بالإضافة إلى آراء بينيت اليمينية القائمة على الدين، مقارنةً بيمين الليكود بزعامة نتنياهو، يجب أن نتذكر أن يائير لابيد أطلق حزبه في عام 2012 من مستوطنة أرئيل في الضفة الغربية ورفض آنذاك تشكيل ائتلاف مع الأحزاب الفلسطينية أو حتى الاعتماد عليها. في الواقع، في العديد من الانتخابات الأخيرة، أظهر الناخبون الإسرائيليون دعماً لليمين الوسط أكثر من يسار الوسط، وبالكاد تجاوزت أحزاب اليسار العتبات الانتخابية اللازمة لدخول الكنيست. لذا، سيكون من الصعب، وربما حتى مجازفةً، أن نتوقع من قوى لبيد – بينيت نوع التسويات اللازمة لإنهاء الاحتلال وتحقيق حل الدولتين للصراع الإسرائيلي الفلسطيني.