وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

تفاقم الخلاف الحدودي بين إيران وطالبان بسبب تغير المناخ

الخلاف الحدودي بين إيران وطالبان هو نموذج عن الخلافات المتصاعدة نتيجة الجفاف وتراجع منسوب مياه الأنهار، والتفاوض على الموارد المائيّة المتنازع عليها.

الخلاف الحدودي إيران وطالبان
صورة جوية من طائرة هليكوبتر طبية تظهر نهر هلمند في أفغانستان. بهروز مهري / وكالة الصحافة الفرنسية

علي نور الدين

منذ استيلاء حركة طالبان على السلطة في كابول في أغسطس/آب 2021، ظهرت التوتّرات والمناوشات الحدوديّة المتكرّرة ما بين عناصر الحركة وقوّات حرس الحدود الإيرانيّة. وفي مايو/أيّار 2023، تصاعدت حدّة النزاع لتبلغ حدود الاشتباكات المسلّحة العنيفة بين الجهتين، قبل أن يُعالج الطرفان الموقف بهدنة ميدانيّة وبعض اجتماعات التنسيق الأمني، من دون حلّ أسباب الخلاف الحدودي الأساسيّة.

وحتّى هذه اللحظة، مازالت الحدود الإيرانيّة الأفغانيّة قنبلة موقوتة قد تنفجر في أي لحظة ما قد يجرّ البلدين إلى حرب واسعة النطاق.

خلاف بعد علاقة إيجابيّة سابقة

من المعلوم أن إيران حاولت الحفاظ على علاقة إيجابيّة مع حركة طالبان، قبل أن تنسحب القوّات الأميركيّة من كابول وتستولي الحركة على السلطة هناك. فإيران وجدت في حركة طالبان عنصرًا مفيدًا لمناوءة الحضور الأميركي العسكري في أفغانستان، ومناهضة السلطة الأفغانيّة الموالية للغرب. وطوال سنوات الوجود الأميركي في أفغانستان، تكرّرت اعترافات كوادر حركة طالبان بتلقي السلاح والتدريبات من طهران، مقابل توجيه الضربات إلى القوّات الأميركيّة.

أمّا حركة طالبان، فلم تكن مهتمّة بإثارة أي خلافات مع طهران قبل السيطرة على كابول، في ظل انشغال الحركة بالنزاع مع القوّات الأميركيّة والسلطة المحليّة المدعومة منها. مع الإشارة إلى أنّ طالبان كانت تسيطر على بعض المناطق الحدوديّة مع إيران قبل استلامها السلطة في كابول، من دون أن يتسبب ذلك بأي نزاعات بين الطرفين. وبهذا الشكل، ساهم وجود القوّات الأميركي، كعدو مشترك، في طمس أي خلافات محتملة بين طهران وحركة طالبان.

إلا أنّ الأمور بدأت بالتبدّل سريعًا بعد سيطرة حركة طالبان على كابول، ليظهر خلافها الحدودي مع طهران، على خلفيّة تقاسم مياه هلمند.

ويُعتبر نهر هلمند النهر الأطول في أفغانستان، حيث ينبع بالقرب من العاصمة كابول عند سلسلة جبال هندو كوش، قبل أن يتدفّق على امتداد 1150 كلم داخل الأراضي الأفغانيّة، ليصب في نهاية الأمر في بحيرة هامون عند الحدود الأفغانيّة الإيرانيّة. وتُعتبر هذه البحيرة أكبر بحيرات المياه العذبة في إيران، كما تعتمد عليها السلطات الإيرانيّة بشكل كبير لتأمين حاجات الرّي في المناطق الزراعيّة في شرقي البلاد.

وترتبط الخلافات حول الحصص في مياه النهر هلمند وبحيرة هامون بمشاكل تاريخيّة بين كل من أفغانستان وطهران، وبالتفاهمات السابقة التي لم يتم تطبيقها بالفعل. إلا أنّ الخلافات الحدوديّة الحادّة المستجدة، تعود لتناقص منسوب مياه النهر والبحيرة إلى مستويات قياسيّة، نتيجة الجفاف وشح الأمطار، في دلالة واضحة جدًا على آثار تغيّر المناخ.

فتراجع منسوب مياه النهر، بات يدفع كلّا من الطرفين إلى محاولة الحفاظ على حصّته من الماء، رغم تناقص الكميّة الإجماليّة المتوفّرة، ما خلق التوتّر الحالي بين الجانبين. وتفاقمت المشكلة خلال الفترة الماضية جرّاء معاناة المزارعين في إيران وأفغانستان من تداعيات الجفاف وتغيّر المناخ، ليزداد بذلك تشدد الطرفين في التعامل مع الأزمة.

خلفيّة النزاع التاريخيّة على نهر هلمند

بدأ الخلاف بين إيران وأفغانستان على مياه نهر هلمند منذ أكثر من قرن ونصف من الزمن. فعام 1882، وبعد أن فشلت إيران وأفغانستان في التوصّل إلى تفاهم على تقاسم المياه، تم الاتفاق على إحالة الخلاف إلى لجنة تحكيم “جولد سميث” البريطانيّة، والتي كانت تعمل على ترسيم الحدود بين البلدين. وبعد مفاوضات طويلة، فشلت اللجنة في التوصّل إلى اتفاق نهائي يعالج الأزمة، فاكتفت بطلب عدم بناء منشآت أو سدود جديدة على طول مجرى النهر، حتّى لا تتسبب في تقليص منسوب المياه عند المصب في إيران.

عام 1903، تم تكليف العقيد البريطاني هنري مكماهون بالتوصّل إلى حل نهائي للخلاف. بنتيجة التحكيم، طلب مكماهون توزيع مياه النهر بالتساوي بين الطرفين، كما طلب من الجانب الأفغاني عدم بناء أي سدود جديدة من شأنها الإضرار بإمدادات المياه في إيران. إلا أنّ أفغانستان رفضت الاعتراف بنتائج هذا التحكيم، “لافتقاره إلى الحياد” بحسب السلطات الأفغانيّة. وبين عامي 1934 و1939، انخرط الجانبان في العديد من جولات التفاوض، من دون أن يتمكنا من التوصّل إلى اتفاق نهائي لمعالجة هذا الخلاف.

وأخيرًا، عام 1973، تمكّن رئيس الوزراء الأفغاني موسى شفيق من التوصّل إلى اتفاق مكتوب على تحاصص مياه نهر هلمند، مع نظيره الإيراني أمير عبّاس هويدا، ما مثّل لأوّل مرّة خطوة باتجاه معالجة النزاع المائي بين البلدين. ورغم ذلك، لم يتم تبادل وثائق الاتفاقيّة الموقّعة بين الطرفين، كما لم يتم تنفيذها بالفعل، نتيجة الانقلاب الذي أطاح بحكومة رئيس الوزراء الأفغاني موسى شفيق.

هكذا، ظلّت أزمة تقاسم مياه نهر هلمند معلّقة من دون أي حل نهائي، إلى أن تفاقمت الخلافات الإيرانيّة الأفغانيّة مع وصول الرئيس الأفغاني محمد أشرف غني إلى الحكم عام 2014. ففي تلك الفترة، وضعت أفغانستان خططًا لبناء عشرات السدود الكفيلة بحبس المياه المتدفّقة إلى دول الجوار، وهذا ما أثار حفيظة السلطات الإيرانيّة، التي رأت في هذه المشاريع خطرًا على أمنها المائي. لاحقًا، جاءت هجمات حركة طالبان على بعض هذه المشاريع المائيّة، ما دفع السلطات الأفغانيّة إلى اتهام إيران بتمويل ودعم هذه العمليّات، لحرمان أفغانستان من حقّها في مياه نهر هلمند.

الهواجس والاتهامات المتبادلة بعد عودة طالبان

بعد عودة حركة طالبان إلى الحكم في أفغانستان عام 2021، عادت التوتّرات الأفغانيّة الإيرانيّة للأسباب عينها. فإيران تتهم حركة طالبان بحرف بعض روافد نهر هلمند عن مجراها الطبيعيّ، كما تتهمها بزيادة معدلات تخزين المياه في السدود الموجودة على مجرى النهر، وهذا ما يقلّص من كميّة المياه المتدفّقة إلى بحيرة هامون في إيران. وتعتبر السلطات الإيرانيّة أنّها لا تتلقّى حاليًا أكثر من 4% من حصّتها في مياه النهر، كما تم تحديدها في اتفاقيّة العام 1973، والتي لم يتم تنفيذها أصلًا منذ توقيعها.

في المقابل، ترفض حركة طالبان كل هذه الاتهامات، إذ تشير إلى نّها تستفيد من كميّة المياه عينها التي استفادت منه تاريخيًا أفغانستان، من دون أي زيادة. أمّا تقلّص حجم المياه المتدفّق إلى إيران، وتراجع منسوب مياه بحيرة هامون، فيعودان إلى عوامل الجفاف ونقص هطول الأمطار، وتراجع حجم المياه الإجمالي المتدفّق عبر نهر هلمند.

وبهذا الشكل، يبدو أنّ حركة طالبان تحاول الدفاع عن استفادتها من هذه الحصّة (من حيث الكميّة وليس النسبة فقط) من مياه نهر هلمند، بالرغم من اعترافها بتراجع كمية المياه المتدفّقة، الأمر الذي يتسبب فعليًا بشح المياه الواردة إلى إيران. كما يبدو أن السلطات الإيرانيّة تشعر بالكثير من الريبة تجاه مشاريع حركة الطالبان الجديدة في غربي أفغانستان، والتي تتركّز على بناء السدود وقنوات المياه، على امتداد المجاري التي ترفد نهر هلمند بالمياه. إذ ستحد هذه المشاريع أكثر من تدفّق مياه النهر إلى إيران.

وتتركّز مطالب إيران حاليًّا على وضع أنظمة فنيّة على امتداد مجرى النهر داخل أفغانستان، من أجل قياس منسوب المياه، وإعادة تحديد حصّة كلّ من إيران وأفغانستان من المياه وفقًا للمنسوب الجديد. وهذا ما يتعارض مع الآليّة المعتمدة من قبل حركة طالبان حاليًا، والقائمة على استفادة الحركة ممّا يعادل حصّة أفغانستان التاريخيّة من المياه، بمعزل عن التراجع الذي أصاب منسوب مياه النهر اليوم. كما تطالب إيران بفرض رقابة من جانبها على منابع النهر والمجاري التي تصب فيه داخل أفغانستان، لمنع حركة طالبان من استنزاف مياه النهر بمستويات تفوق حصّة أفغانستان المعتادة.

الأزمات الاجتماعيّة والاقتصاديّة تفاقم المشكلة

تساهم الأزمات الاجتماعيّة والاقتصاديّة الناتجة عن الجفاف وندرة المياه في مفاقمة أزمة الخلاف على مياه نهر هلمند. فبسبب موجة الجفاف التي تعاني منها إيران منذ سنوات، باتت أكثر من 24 محافظة إيرانيّة من أصل 31 تعاني من نقص في المياه، كما تراجعت معدلات تخزين مياه السدود إلى أقل من 49% من قدرتها الاستيعابيّة.

وخلال شهر مايو/أيّار 2023، تراجعت كميّات المياه المخزّنة في السدود إلى 24.95 مليار متر مكعّب، مقارنة بنحو 35.18 مليار متر مكعّب في الفترة المماثلة من العام الماضي. وشكّل الجفاف في إيران أزمة كبيرة في المجتمعات الريفيّة، خصوصًا أن البلاد تستهلك أكثر من 90% من مياهها لري الأراضي الزراعيّة.

وكانت أزمة المياه وجفاف البحيرات قد أثارت موجات متعدّدة من الاحتجاجات المحلّية خلال الأعوام الماضية، في العديد من المناطق الإيرانيّة التي ارتفعت فيها معدّلات البطالة، بالتوازي مع تقلّص نطاق الأراضي المزروعة. وهذا ما يدفع النظام الإيراني اليوم إلى التشدّد في مقاربة الخلاف مع حركة طالبان، بالنظر إلى اتصال المسألة بالأمن الاجتماعي والغذائي في مناطق واسعة من شرقي إيران، التي تعتمد على مياه بحيرة هامون ونهر هلمند للري.

ومن الواضح أنّ النظام الإيراني بات يربط التداعيات الاقتصاديّة لأزمة الجفاف بالاستقرار السياسي، وخصوصًا بعد تنامي الاعتراض الشعبي ضدّه مؤخّرًا. ومن المهم الإشارة إلى أنّ بحيرة هامون تقع ضمن نطاق محافظة بلوشستان، التي شهدت خلال العام 2022 مظاهرات عنيفة نادت بإسقاط النظام الإيراني، كجزء من موجة الاحتجاجات التي عمّت البلاد. وتشير أرقام المعارضة الإيرانيّة إلى أنّ ثُلث قتلى الاحتجاجات في إيران سقطوا في هذه المحافظة بالتحديد، حيث ساهمت الظروف الاقتصاديّة القاسية هناك في تأجيج الرفض الشعبي سياسات النظام الإيراني.

من جهتها، تعاني طالبان من الأزمات الاجتماعيّة والاقتصاديّة التي نتجت عن الجفاف وتراجع معدلات هطول الأمطار. وتشير المفوضية السامية لشؤون اللاجئين إلى أنّ الجفاف الذي تواجهه أفغانستان أدّى إلى ارتفاع أسعار المواد الغذائيّة بشكل كبير، نتيجة تراجع معدلات الإنتاج الزراعي.

كما أدّى الجفاف إلى تفشّي البطالة في المجتمعات الزراعيّة الأفغانيّة، ما جعل نصف السكّان يواجهون خطر الجوع الشديد. وفي الوقت الراهن، يترنّح ستّة ملايين شخص على حافّة المجاعة، بينما يواجه مليون طفل حالة سوء التغذية الحاد. وتمامًا كحال إيران، تجد حركة طالبان نفسها مضطرّة للتصعيد في مواجهة المطالب الإيرانيّة، في ظل حاجتها إلى مياه نهر هلمند.

الخلاف بين إيران وحركة طالبان، ليس سوى نموذج عن الخلافات المتصاعدة بين الدول نتيجة الجفاف وتراجع منسوب مياه الأنهار، وتزايد حاجة السلطات المحليّة إلى التفاوض على الموارد المائيّة المتنازع عليها.

أمّا المشكلة الأهم، فهي أن الطرفين يحصران جهدهما بإيجاد الحلول المؤقّتة، الكفيلة بالحد من المناوشات الحدوديّة على المدى القصير، من دون معالجة هذا الخلاف الحدودي بشكل جذري. وهذا ما سيبقي الأزمة قائمة على المدى البعيد، فيما ستتفاقم التوتّرات المحليّة بين المجتمعات الريفيّة على طرفي الحدود.