ستكون الفئات الهشّة أوّل من سيدفع ثمن عوارض تغيّر المناخ وشح المياه في تونس، وفي طليعتها تلك التي تعتمد في تأمين معيشتها على النشاط الزراعي في الأرياف.
علي نور الدين
في أوخر شهر آذار/مارس 2023، دخلت أزمة المياه في تونس أخطر مراحلها، بعدما بدأت السلطات بقطع المياه عن أجزاء واسعة من البلاد، خلال ساعات محددة من اليوم، وذلك بحسب برامج تقنين خاصّة.
وشمل قطع المياه مناطق داخل العاصمة تونس، بالإضافة إلى مدينة الحمّامات وولايات سوسة والمنستير والمهديّة وصفاقس. وهذه الإجراءات المشدّدة، جاءت ضمن خطّة لخفض كميّة الاستهلاك، بعدما عانت البلاد هذه السنة من أزمة جفاف وندرة في تساقط الأمطار وتراجع في معدّلات امتلاء السدود. وهكذا، باتت تونس مثالًا صارخًا عن تداعيات ظواهر تغيّر المناخ المباشرة، وأثر هذه التداعيات على الفئات الاجتماعيّة الأكثر هشاشة.
سنوات الجفاف الثلاث
بدأت تونس تعاني من تراجع معدّلات تساقط الأمطار منذ العام 2017، فيما دخلت البلاد مرحلة الجفاف المستمر منذ العام 2020. وبالنتيجة، وصلت السلطات عام 2023 إلى مرحلة العجز عن تلبية حاجات استهلاك المواطنين المياه يوميًا، وحاجات ري المناطق الزراعيّة، بعد ثلاث سنوات من الجفاف.
فخلال العام 2023، أشارت الأرقام إلى أنّ إجمالي متوسّط نسبة امتلاء السدود لم تتجاوز في نهاية فصل الشتاء حدود ال25%، فيما تراجعت هذه النسبة إلى أقل من 10% في بعض السدود. مع الإشارة إلى أنّ متوسّط نسبة امتلاء السدود وصلت إلى حدود ال80% عام 2019، قبل الدخول في سنوات الجفاف الثلاث.
وعام 2023، بلغت كميّة المياه المخزّنة في السدود حوالي ال743.1 مليون متر مكعّب، مقارنة ب1130 مليون متر مكعّب خلال الفترة عينها من العام الماضي. وهذا ما يدل على تدهور مؤشّرات الجفاف عام 2023 مقارنة بالعام السابق، الذي كان أساسًا عامًا سيئُّا على مستوى ندرة المياه.
وتعتمد منطقة الشمال التونسي على أساليب التخزين السطحي، عبر السدود والبحيرات الاصطناعيّة، لتأمين 80% من حاجاتها للمياه. وهذا ما يفسّر الشح الكبير الحالي، نتيجة تراجع معدلات تساقط الأمطار واتخفاض نسب امتلاء السدود، بفعل التغيّر المناخي.
أمّا البدائل عن وسائط التخزين السطحي، والمتمثّلة بمصادر المياه الجوفيّة، فتعاني من ارتفاع معدّلات التلوّث بسبب النفايات الصناعيّة وسوء إدارة أنظمة الصرف الصحّي، بالإضافة إلى الاستنزاف نتيجة الاستثمار التاريخي المفرط. وبغياب هذا البديل، تزداد هشاشة تونس إزاء تقلّب معدلات هطول الأمطار وانخفاض حجم المياه المخزّنة في السدود.
نتيجة كل التطوّرات، تشير الأرقام الرسميّة إلى تراجع حصّة الفرد من المياه في تونس إلى 400 متر مكعّب في السنة فقط، خلال عام 2023، ما يعتبرّ أدنى من خط الفقر المائي، الذي تحدده الأمم المتحدة والبالغ 1000 متر مكعّب من المياه سنويًا.
وتجدر الإشارة إلى أنّ فقر المياه الذي يعاني منه المجتمع التونسي حاليًا يُعد الأقسى على الإطلاق في تاريخ البلاد، إذ لم يسبق أن انخفضت معدلات امتلاء السدود لعدّة سنوات متتالية كما هو الحال اليوم، كما لم يسبق أن اعتمدت الدولة التونسيّة نظام تقنين المياه كما فعلت عام 2023.
ولفهم قسوة موجة الجفاف الحاليّة، تكفي الإشارة إلى أنّ البلاد لم تنعم بين أيلول/سبتمبر 2022 وآذار/مارس 2023 إلّا بنحو 110 مليون متر مكعّب من الأمطار، مقارنة بمعدّلات سنويّة تجاوزت ال520 مليون متر مكعّب قبل تسجيل موجة الجفاف الراهنة.
ما يعني أنّ البلاد خسرت خلال الأعوام الثلاثة الماضية نحو 79% من مياه الأمطار التي كانت تغذّي شبكات المياه في البلاد، نتيجة تداعيات أزمة تغيّر المناخ. وإذا استمرّت الأزمة الراهنة خلال العام المقبل، فمن المتوقّع أن يؤدّي شح المياه إلى وقف عمل عدد كبير من السدود التونسيّة نتيجة نضوبها كليًا، ما سيفاقم الأزمة أكثر.
التداعيات على المجتمعات الريفيّة
من الواضح أنّ أوّل من سيدفع ثمن عوارض تغيّر المناخ وشح المياه في تونس، سيكون الفئات الأكثر هشاشة، وفي طليعتها تلك التي تعتمد في تأمين معيشتها على النشاط الزراعي في الأرياف. فالقطاع الزراعي يستخدم لحاجات الري نحو 80% من الموارد المائيّة المتاحة في البلاد، فيما ينتج هذا القطاع نحو 15% من قيمة الناتج المحلّي في تونس. أمّا على مستوى القوّة العاملة، فيستوعب هذا القطاع وحده 14% من عمّال وموظّفي تونس.
وفي ظل أزمة الجفاف التي تمرّ بها تونس حاليًا، قرّرت وزارة الفلاحة في أواخر مارس/آذار 2023 إقرار نظام حصص لتوزيع المياه على المزارعين والأراضي المزروعة، ما يعني فرض سقف لحجم المياه التي يمكن استعمالها من قبل كل مستفيد.
وتمامًا كحال المناطق السكنيّة، قرّرت الوزارة تحديد ساعات معيّنة لقطع المياه، في كل منطقة زراعيّة. وفي الوقت عينه، قيّدت الشركة الوطنيّة لاستغلال وتوزيع المياه استعمال مياه الشرب، بما يمنع استعمال هذه المياه للأغراض الزراعيّة وريّ المساحات الخضراء.
هكذا، لم يعد بإمكان المزارعين التونسيين تأمين حاجاتهم الأساسيّة من المياه لتأمين ري المزروعات، ما أدّى إلى تضرّر آلاف الهكتارات جرّاء الجفاف القاسي، بحسب ما أفاد الاتحاد التونسي للفلاحة والصيد البحري. أمّا أخطر ما في الموضوع، فهو أنّ المزارعين التونسيين سيحتاجون إلى إنفاق استثمارات جديدة وكبيرة في المستقبل، لإعادة استصلاح وتفعيل الأراضي التي تعرّضت للجفاف الآن، ما سيزيد من كلفة الأزمة عليهم على المدى الطويل.
وبحسب الاتحاد أيضًا، من المتوقّع أن ينخفض إنتاج البلاد هذه السنة من الحبوب إلى مستويات لا تكفي حتّى لتأمين بذور العام المقبل، ما سيعني تعريض المزارعين للخسائر الماليّة الناتجة عن عدم وجود محاصيل قابلة للبيع. وعند تعرّض المزارعين لهذا النوع من الخسائر، سيخرج جزء كبير منهم من السوق بشكل نهائي، بغياب الرساميل التي تسمح لهم بالاستمرار بالاستثمار بأراضيهم في المستقبل.
بالنسبة إلى الأراضي المزروعة بالأشجار المثمرة، كالزيتون واللّوز مثلًا، تكمن مشكلة المزارعين في حاجتهم إلى زيادة كميّة الري الموجّه لهذه الأراضي، مقارنة بالسنوات الماضية، بسبب نقص مياه الأمطار التي هطلت هذه السنة على المزروعات.
وفي حال استمرار الشح في واردات شبكات المياه، فقط يعجز المزارعون عن تأمين كميّة المياه المطلوبة لريّ هذه الأشجار خلال فصل الصيف الحالي، ما سيؤدّي إلى تضرّر الأشجار المعمّرة التي تم توارث بعضها عبر الأجيال.
وبسبب ارتفاع أسعار الأعلاف والأعشاب، نتيجة الجفاف وتراجع حجم المحاصيل، اضطرّ المزارعون التونسيون إلى التخلّي عن آلاف الأبقار عبر بيعها أو ذبحها، ما انعكس تراجعًا كبيرًا في إنتاج الحليب في البلاد. ومن المعلوم أنّ تونس تعاني أساسًا من شح في واردات الحليب، الذي اختفى خلال فترات معيّنة من رفوف غالبيّة المتاجر التونسيّة، بسبب عدم كفاية الإنتاج المحلّي وارتفاع كلفة استيراده.
النتيجة البديهيّة لكل هذه التطوّرات، ستكون ارتفاع معدلات البطالة في المجتمعات الريفيّة، التي تعتمد على الزراعة لتأمين مداخيل العائلات فيها.
مع العلم أنّ تونس تعاني أساسًا من معدّلات بطالة مرتفعة، تقارب حدود ال16% بحسب أرقام منظمة العمل الدوليّة، بينما تعجز الدولة التونسيّة عن تأمين شبكات الحماية الكفيلة للعاطلين عن العمل، بفعل الأزمة الماليّة التي تمر بها اليوم. وفي الوقت نفسه، يعاني المزارعون من ارتفاع نسبة العمالة غير الرسميّة في صفوفهم، وهذا ما يعرّضهم لمخاطر الصرف المباشر من وظائفهم، في ظلّ غياب أي تعويضات أو ضمانات صحيّة على المدى المتوسّط.
التداعيات على الطبقات الفقيرة
في الوقت عينه، ستترك الأزمة تداعيات كبيرة على الطبقات الفقيرة، حتّى في المجتمعات غير الزراعيّة. فقرار منع استعمال المياه لغسيل السيّارات، الذي فرضته السلطات التونسيّة مؤخّرًا، أدّى إلى انهيار قطاع كامل يضم 10 آلاف عامل، ينتمي معظمهم إلى فئة المياومين والفقراء.
وهذا السيناريو تكرّر كذلك مع العاملين في مجال التنظيف، بعدما قررت السلطات أيضًا منع استعمال المياه لتنظيف المساحات العامّة والأقسام المشتركة في الأبنية السكنيّة.
كما ستدفع ثمن كل هذه الأزمة العائلات الأكثر فقرًا، التي لا تملك القدرة الماليّة لتأمين وسائل تخزين المياه في المنازل والأبنية، للاستفادة منها خلال فترات التقنين. كما لا تملك هذه الأسر القدرة على تأمين وسائل تنقية ومعالجة مياه الشبكة الرسميّة، بعدما ارتفعت فيها نسب الملوحة نتيجة الجفاف، ما يعرّض الفقراء لتداعيات صحيّة وخيمة.
وأخيرًا، ستعاني الأسر الفقيرة جرّاء عدم امتلاكها القدرة الماليّة لتأمين مياه الشرب المعدنيّة من خلال العبوات، والتي تعتمد عليها الطبقتان الوسطى والثريّة حاليًا، ما سيدفع الأسر الفقيرة إلى الاعتماد على مصادر غير نظيفة لتأمين مياه الشرب.
إشكاليّات فقهيّة ودينيّة
على مستوى الطقوس الدينيّة، قد لا تؤثّر هذه التطوّرات كثيرًا على واجب الوضوء المطلوب قبل أداء الصلوات الخمس، بالنظر إلى إتاحة التعاليم الدينيّة خيار التيمّم بالرمل، عند انقطاع المياه. إلا أنّ فقدان المياه سيؤثّر على إمكانيّة تحقيق شرط الطهارة، أي إزالة النجاسات الماديّة عن جسم الإنسان بالماء، وهذا ما يمثّل أحد شروط الصلاة.
ومن المعروف أن غالبيّة الفقهاء السنّة لا يجيزون إزالة النجاسة من الثوب والبدن إلا بالماء المطلق والطاهر، ما سيفرض على الفقهاء في تونس إيجاد مخارج شرعيّة بديلة اليوم. وتتحقق حالة النجاسة في العادة عند ملامسة جسد الإنسان بعض المواد كالدم، أو بعض الحيوانات كالكلب والخنزير، أو بعد قضاء الحاجة في الحمّام، ما يحول دون الصلاة قبل التطهّر بالمياه.
في جميع الحالات، سيكون على السلطات التونسيّة خلال المرحلة المقبلة وضع المعالجات الكفيلة بالتعامل مع شحّ المياه الراهن، ومنها الحد من هدر الماء عبر شبكات التوزيع والتخزين. وكانت تقارير الأمم المتحدة قد طالبت السلطات التونسيّة سابقًا بتخصيص مشاريع طويلة الأجل، من أجل تحسين إدارة شبكات المياه وزيادة كفاءتها.
كما سيكون على السلطات التونسيّة التوسّع في مشاريع تحلية المياه باستخدام الطاقة المتجددة، والتي بدأت بها أساسًا خلال العام 2022، للتمكّن من إيجاد مصادر بديلة عن المياه المخزّنة في السدود. أمّا ألأهم، فهو تطوير وسائل ري المزروعات، التي تستنزف الغالبيّة الساحقة من الموارد المائيّة حاليًا، بهدف زيادة فعاليّة عمليّات الري وتقليص الهدر فيها.