Chronicle of the Middle East and North Africa

إبادة البشر والحجر: المحو كأداة حرب إسرائيلية في لبنان

إن حجم الدمار الهائل في لبنان يشير إلى استراتيجية إسرائيل في محو مكاني بهدف تفكيك المجتمعات وقطع الروابط مع تراثها الثقافي. ومع ذلك، وفي خضم الرعب، أظهر سكان جنوب لبنان قدرة ملحوظة على الصمود، وتعهدوا بإعادة بناء واستعادة منازلهم وتاريخهم على الرغم من الخسارة الفادحة التي يتكبدونها.

إبادة البشر والحجر
الدمار الذي لحق بالسوق. عباس فقيه/ أ ف ب

نور سليمان

“هذه الصواريخ التي كنا نرميها على إسرائيل، صواريخنا مصنوعة من الأرز والحفاظات والأدوية”، يقول الرجل وهو يقف على ما تبقى من مبنيي بلدية النبطية جنوبي لبنان واتحاد بلدياتها حيث كانت تجتمع خلية أزمة تعمل على مساعدة الصامدين في البلدة في ظل استمرار العدوان الإسرائيلي على لبنان وتصاعده إلى درجات غير مسبوقة خلال الأسابيع الماضية.

صباح يوم الأربعاء في 16 تشرين الأول الماضي، شنت الطائرات الحربية الإسرائيلية أكثر من 11 غارة شكلت حزامًا ناريًا على مدينة النبطية، واستُشهد نتيجتها رئيس بلدية النبطية أحمد كحيل و13 شخصًا آخرين بينهم عضو في البلدية ومسؤول الإعلام فيها وموظفان اثنان آخران وجرح 43 شخصًا بينهم خمسة عناصر من الدفاع المدني.

الجيش الإسرائيلي ادعى أن الضربات على النبطية طالت أهدافًا تابعة لـ”حزب الله”، وهو ادعاء يكرره الجيش في كل مرة يستهدف فيها مبانيا وأحياء سكنية مأهولة ويدمرها على رؤوس ساكنيها، ومحيط المستشفيات، وعناصر الإسعاف وسياراتهم وحتى الصحفيين في لبنان، ويحاول من خلاله نزع صفة المدنيين عن كلّ من يستهدفه.

ولكن لمحمد (اسم مستعار)، وهو أحد المتطوعين في البلدية وشاهد على المجزرة التي ارتُكبت فيها، رواية أخرى وهو فضّل أن تبقى هويته سرية حفاظًا على سلامته.

“كل الموجودين في المباني المستهدفة كانوا من المدنيين. كنا نجتمع كلّ صباح لنعمل على توزيع المساعدات على أهالي البلدة كالخبز والخضار والأدوية”، يقول محمد في حديث لـ”فنك” ويشير إلى أنّه “كان يحضر إلى البلدية عدد من المسنين لأخذ الخبز كل يوم،ولو حضروا في ذلك اليوم لكانت المجزرة أكبر بكثير فالمبنى الذي كنا فيه قُصف دون سابق إنذار”.

نجا محمد بأعجوبة لأنه كان واقفًا خارج المبنى، لكنه لا يزال يعيش تحت وطأة صدمة الاستهداف الذي حول المكان إلى ركام في ثوان، وقتل عددًا كبيرًا من رفاقه الذين شاركوه يوميات الحرب والواجب الإنساني.

وتعد الإدارات الرسمية والعاملين فيها من ضمن المؤسّسات والجهات المدنية التي يحظر القانون الدولي استهدافها، إلا أن مبنى بلدية النبطية هو المبنى الرابع الذي تستهدفه الغارات الإسرائيلية بعد مباني بلديات كفركلا وبنت جبيل واتحاد بلدياتها جنوبي لبنان وقليا في البقاع الغربي، وأحمد كحيل هو ثالث رئيس بلدية يستشهد منذ بداية العدوان في الثامن من تشرين الأول 2023.

في خرق فاضح ومتكرر للقانون الدولي أيضًا، يتعرض المسعفون وسيارات الإسعاف خصوصًافي الجنوب إلى استهدافات مباشرة ما أدى حتى اللّحظة إلى استشهاد أكثر من 816 شخصًا من المسعفين والعاملين في القطاع الصحي وجرح أكثر من 527 آخرين واستهداف أكثر من 158 سيارة إسعاف، بحسب وزارة الصحة، وهي استهدافات ترقى لكونها جرائم حرب.

وإمعانًا في انتهاك القانون الدولي وقوانين الحرب، يهدد المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي أفيخاي أدرعي بشكلٍ شبه يوميّ سيارات الإسعاف “على أنواعها” زاعمًا أنها تُستخدم “لنقل مخربين وأسلحة” وأكد نية الجيش في استهدافها دون أن يقدم أي أدلة تؤكد ادعاءاته، في محاولة لتحويل المسعفين وسيارات الإسعاف إلى أهداف مشروعة في ظل تقاعس المجتمع الدولي عن محاسبة إسرائيل على جرائمها.

ولكن، كل التهديدات ومحاولات الترهيب الإسرائيلية لم تثن همة مسعفين لا يزالون يحاولون مواصلة عمليات الإنقاذ تحت النار، ومنهم المسعف محمد سليمان وهو رئيس قسم الطوارئ والتدريب في إسعاف النبطية.

يقول محمد لـ”فنك” إن فرق الإسعاف تعيش في ظروف مأساوية. ويروي: “نعمل وسط الغارات العنيفة المتتالية ومشاهد الدمار غير المسبوق وعدد الشهداء الكبير والمشاهد الفظيعة التي نراها كل يوم. في كل محاولة منا لإسعاف الجرحى في كل البلدات، نواجه مخاطر حقيقية ونشعر أننا نعمل في عين الموت. في إحدى المرات، كنا نحاول انتشال جثامين شهداء والبحث عن جرحى في مجزرة وقعت في النبطية وتم استهدافنا بغارة أدت إلى وقوع إصابات في صفوف المسعفين”.

وفي مقارنة مع حرب إسرائيل على لبنان في تموز عام 2006، يعتبر محمد أن الحرب الحالية أكثر عنفًا وتدميرًا بأشواط خصوصًا لناحية الاستهدافات المتكررة التي لا تحيد المدنيين ولا المسعفين. “حجم الإجرام الإسرائيلي في هذه الحرب مرعب”، إلا أنه وزملاءه قرروا البقاء في النبطية لأنّها أرضهم، كما يقول، و”لا يمكن أن نترك أهلنا”.

في النبطية، كانت لا تزال انتصار ياسين (57 سنة) تعيش لوحدها في منزلها فهي لم تجد مكانًا آمنًا تنزح إليه إلى أن وقعت الغارات غير المسبوقة على المدينة. “أخرجتني فرق الإسعاف من منزلي إلى إحدى مستشفيات المنطقة. لم يعد مجديًا لي البقاء بعد أن استُشهد من كان يزورني ويقدم لي المساعدات والطعام في الغارة على مبنى البلدية”، تقول ياسين وهي تحاول حبس دموعها.

إثر الغارات عينها اضطُر عبد الناصر جابر (60 سنة) إلى مغادرة النبطية أيضًا. يقول جابر لـ”فنك” إنه حاول الصمود في البلدة قدر المستطاع، ولكن حجم الدمار واستشهاد عمال البلدية والمسعفين أثرا على وضعه النفسي بشكلٍ ملحوظٍ.

“آلمني مشهد الدمار في المدينة الذي لا يمكن وصفه، كما أن الطيران الحربي والاستطلاعي لا يفارقان السماء على مدار الساعة ولا أستطيع النوم. أشعر أنني على وشك أن أفقد عقلي”.

قبل نصف الساعة من تنفيذ الأحزمة النارية على المدينة، كان جابر يتحدث عبر الهاتف مع عضو بلدية النبطية الحاج صادق عيسى طالبًا منه أن يساعده في حلّ مشكلة انقطاع المياه في منزله. “وعدني أن يحلَّ المشكلة خلال نصف ساعة، لكنه استُشهد”.

إبادة البشر والحجر
عضو بلدية النبطية صادق عيسى في مبنى البلدية قبل استشهاده بالغارة (متداول)

تشكل شهادات انتصار وعبد الناصر دليلًا حيَا على أنَّ كل ما يقوم به الجيش الإسرائيلي من استهداف ممنهج للإدارات الرسمية وخلايا الأزمة والمسعفين لا يهدف سوى لتقليص كلّ عوامل صمود الجنوبيين في بلداتهم، وتنفيذ إعدام كامل لفرص النجاة، ودفعهم إلى التهجير الكلي.

إبادة مكانية

مساء السبت 12 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، كان لمدينة النبطية الحصة الأكبر من بطش آلة الحرب التدميرية الإسرائيلية حيث أدت غارات عدة إلى تدمير السوق التجاري وتغيير ملامحه بشكل ٍكاملٍ بعد أن كان قلب المدينة النابض ومركزها الاقتصادي.

على مواقع التواصل الاجتماعي، رثى أبناء البلدة ومحبوها السوق حيث وُجدت محال تجارية ومطاعم ومتاجر ثياب وأقمشة ومجوهرات وحلويات ومكتبات ومقاه يقصدونها ويألفونها ويلتقون بجيرانهم وأصدقائهم فيها. شوارع وأمكنة صنعت ذكرياتهم وشكلت ذاكرتهم الجماعية.

بحسب الباحث النبطاني علي مزرعاني، عمر سوق النبطية 500 عام، وأنشئ في عهد المماليك. ويشرح في حديث لـ”فنك” أن “السوق أساس النسيج الاجتماعي والثقافي في المدينة، وفي البلدات المحيطة فيها كونه كان مركزًا ونقطة جذب لسكانها على التاريخ. فهو شاهد على الحركات الثقافية والاقتصادية، ونقطة انطلاق للانتفاضات على الاستعمار الفرنسي والإنكليزي والاحتلال الإسرائيلي”.

ويشير مزرعاني إلى أنها ليست المرة الأولى التي يتعرض فيها السوق لعدوان إسرائيلي، فهو “تعرض للقصف عام 1978 وتضرر خلال الاجتياح الإسرائيلي عام 1982، فضلًا عن حروب عام 1993، 1996 و2006، ولكن “يعد الاستهداف هذه المرة الأعنف والأكثر تدميرًا. حوالى 200 محل تجاري دُمر بالكامل وبعضها يعمل منذ الثلاثينات وتوراثته الأجيال، بالإضافة إلى تدمير عشرات المباني”.

إبادة البشر والحجر
سوق النبطية قبل تدميره. (علي مزرعاني)

“نشعر أن الحياة قد توقفت في النبطية بعد تدمير سوقها، وسيكون من الصعب جدًا استعادة كل الذكريات والإرث الذي تم محوه”، يقول مزرعاني.

لا يمكن فهم ما شهدته النبطية إلا في إطار الإبادة المكانية أو قتل المدن (urbicide) التي ترتكبها إسرائيل في لبنان بعد غزة، وتُعرف الإبادة المكانية على أنّها التدمير المنظم والصريح للمناطق الحضرية والعمرانية من خلال العنف المتعمد و الواسع النطاق.

ولا تقتصر الإبادة المكانية على تدمير المدن فقط، بل تهدف إلى محو معالمها وبتر علاقة أهلها بها وقتل ذكرياتهم فيها وخلق علاقة رعب وترهيب بينهم وبينها وتفكيك النسيج الاجتماعي فيها وتعطيل مرافقها الاقتصادية، ما يساهم بالتالي إلى جعلها غير قابلة للحياة ويزعزع إمكانية العودة إليها بعد انتهاء الحرب.

النهج الانتقامي الذي يتبعه الجيش الإسرائيلي في جنوب لبنان وصل إلى حد تفخيخ ونسف بلدات بأكملها، وخصوصًا تلك المحاذية للشريط الحدودي وتظهر مشاهد التُقطت من الجو حجم الدمار الهائل الذي لحق بتلك البلدات وكأنّها تحولت إلى أرضٍ محروقة بعد أن كانت تحتضن بيوت وأرزاق ومزروعات وذكريات مئات الآلاف من السكان.

وإن كان الجيش الإسرائيلي يدعي أن عمليات النسف تلك تأتي في إطار عمليته العسكرية البرية ضد حزب الله ومنشآته العسكرية، فإن التدمير الممنهج طال أيضًا قلب مدينة صور التي تبعد أكثر من 15 كلم عن الحدود اللّبنانية- الإسرائيلية وتتعرض الأحياء فيها لعشرات الغارات يوميًا، ومنها يقع على بعد أمتار قليلة من آثار المدينة التي تعود إلى العهد الروماني والمدرجة في لائحة التراث العالمي للمواقع الأثرية لدى اليونيسكو، وفي ذلك مخالفة لقوانين الحرب واتفاقيات اليونيسكو التي تمنح الحماية الدولية لهذه المواقع وما يقع في محيطها على مدار 500 متر.

في مقابلة على قناة الجديد اللّبنانية، شارك الصحفيّ حسين أيوب فيما تغالبه الدموع جانبًا إنسانيًا يلخص المأساة التي تسببها عمليات المحو الإسرائيلية تلك. “تلقت زوجتي منذ قليل خبر محو وتدمير بلدتها العديسة الحدودية بشكلٍ كاملٍ، وتدمير منزل والديها حيث دُفن والدها ووالدتها. ضريح والدتي بلدة عيناتا دمر بالكامل أيضًا. ذكرني ذلك بحرب تموز عام 2006، التي دُمر خلالها ضريح والدي أيضًا.

في جنوب لبنان، يقتل الجيش الإسرائيلي الأموات مرة ثانية في قبورهم. ولكن أيوب يستدرك مخاطبًا زوجته: “لا تحزني، سنعود إلى قرانا وسنعيد إعمار منازلنا وستعود أجمل مما كانت”.

user placeholder
written by
Dima
All Dima articles